سليمان سالم كشلاف
[الكلمة التي لا تأخذنا من مقاعدنا الوثيرة لتقذف بنا داخل ألسنة الحرائق، ليست كلمة.
الكلمة التي لا تنقلنا من لحظة الاسترخاء إلى لحظة مُعانقة الحقيقة بكل ألمها وعذابها وقسوتها، ليست كلمة..
الكلمة التي تمزِّق البَراقع التي تُخفى وجوهنا وراءها حتى تتكشَّف لنا حقيقتها بكل مافيها من بشاعة وجمال، ليست كلمة
الكلمة التي لا تُخرجنا من الشَرْنَقة التي تلتَف حولنا لنواجه الشمس، تقتلنا وتُطهرِّنا وتُحرقنا، ليست كلمة.
الكلمة التي لا تُنزلنا من بُروجنا العاجية لنعرف الواقع ونعيشه ونتعذّب به ونستطعم مرارته، ليست كلمة
الكلمة التي لا تُنبت لنا أجنحةً نطير بها من جذورنا المُنعزلة حتى نتعرَّف على الآفاق الأخرى، ليست كلمة
الكلمة التي لا تُذيب الجليد المتراكم داخل قلوبنا حتى نُحسِّ بالدفءِ والاحتراق، ليست كلمة
الكلمة التي لا تقتلع النباتات الشيطانية التي تَنفَذُ داخل نفوسنا وتبذُرُ زهور الحب والجمال، ليست كلمة
الكلمة التي لا تقتل الوحش الكامن داخلنا لتُعيد لنا الإحساس بإنسانيتنا، ليست كلمة.
الكلمة التي لا تُعذِّب وتُحرق وتُطهِّر وتقتلع وتبذرُ، ليست كلمة.
الكلمة هي ثورتنا الداخلية، وهي نبوءتنا، وهي بَشارتنا، وهي تَوْقُنا إلى الغد الآتي بكل ما يَعِدُ به من حُبٌّ وجمالٍ وسلامٍ وتقدُّم](1) .
***
ربما كانت رؤية الأستاذ “محمد الزوى” في معنى الكلمة ومفهومها لا يختلف في جوهره عن فعل الكلمة في حياة الأستاذ “عبد الله القويري” كما آمن بها وعشقها ومارسها، كتابة وسلوكاً، فهي تلخيصٌ لحياة هذا المُبدع الذي عاش بيننا وأعطى وطنه الكثير..
ففي صعيد “مصر” وُلِدَ “عبد الله القويري”. بالتحديد في سنة 1930م)، في “سمالوط” بمحافظة “المنيا” لينشأ في بيئة تجمع بين مزيجٍ من الحياة الاجتماعية لفلاحي “مصر” و”ليبيا”. وفي سنة 1955م)، يتحصّل على درجة الليسانس في الجغرافيا من كلية الآداب “جامعة القاهرة”، وفي بداية سنة 1956م)، بدأ يكتب في جريدة [المساء] ثم يعود إلى “ليبيا” سنة 1957م)، ليعمل أمين سر للشؤون البرلمانية بمكتب وزير الدولة للشؤون البرلمانية حتى سنة 1965م) . تفرَّغ بعدها لعضوية اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب)) بوزارة الإعلام منذ إنشاء اللجنة حتى 1966م) حيث أسس “دار الوطن” للطبع والنشر.
وعمل منذ سنة 1973م) بالمؤسسة العامة للصحافة في “طرابلس”. أواخر سنة 1973م) عُيِّن وزيراً للدولة ورئيساً لمجلس شؤون الإعلام بحكومة “اتحاد الجمهوريات العربية”..
كان من نشاطاته الفكرية التي شارك فيها:
ـ مؤتمر الكتاب والأدباء العرب في “بغداد” سنة 1965م)..
ـ مؤتمر الكتاب والأدباء الليبيين في “بنغازي” سنة 1973م).
ـ المؤتمر الحادي عشر للكتاب والأدباء العرب في طرابلس سنة1977م).
ـ المؤتمر السادس عشر للكتاب والأدباء العرب في طرابلس سنة 1989م).
وقد شارك الأستاذ “عبد الله القويري” بالكتابة في الكثير من المطبوعات داخل “ليبيا” وخارجها على امتداد رحلته الطويلة.
ففي “ليبيا”: صُحُف [العمل]. [الحقيقة]. [فزّان]. [الحريّة]. [طرابلس الغرب].[العَلَم]. [الجهاد]. [الصحافة]. ومجلات [الروّاد]. [الإذاعة]. [الأسبوع الثقافي]. [الفصول الأربعة]. [المسرح والخيالة]. [لا]. [تُراث الشعب]..
وفي “تونس”: صُحُف [الصباح].[العمل].ومجلات [الفكر].[قَصَص].
وفي “مصر”: صُحُف [المساء]. [البوليس]. ومجلات [التحرير]. [الشهر].
وفي “لبنان”: مجلات [شهرزاد].[الأسبوع العربي].
وفي “قبرص”: مجلة.[الموقف العربي].
وقد تُرجمت بعض قصصه إلى اللغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية.
كما أُذيع الكثير من إنتاجه القصصي في الإذاعات المصرية والليبية والتونسية (2) ..
كتب الأستاذ “عبد الله القويري” في كثير من مجالات الإبداع، القصة القصيرة ومسرحية الفصل الواحد والمسرحيات الطويلة والنقد الأدبي والخواطر الأدبية وفي الكتابات الاجتماعية والسيرة الذاتية.
فقد كانت مجموعته الأولى [حياتهم] صياغة لنماذج إنسانية مصرية تُمثِّل جزءاً من الحياة في الريف المصري، كان بالتأكيد قد تأثَّر بها في بداية حياته وحتى عودته إلى الوطن. لتكون أول ما يكتب بعد عودته إلى الوطن مسرحية “عمر المختار”، ثم توالت كتبه في القصة والمسرح والنقد الأدبي..
ففي القصة أصدر: [حياتهم]. [الفُرصة والقنّاص]. [قطعة من الخبز]. [العيد في الأرض] جُمِعَت فيما بعد في كتاب واحد تحت عنوان [ستون قصة قصيرة].).. [الزيت والتمر]. [خيط لم ينسجه العنكبوت]. [رحلة الاقتراب]..
وفي المسرح: “عمر المختار”. “الواحة”. “الجوع”. “العطش”. “جميلة”. “عميروش”. “طَعْم الخيانة”. “المعاناة من أجل شيء”. “الميلاد”. “الشُعاع”. “الجانب الوضئ”. جُمِعَت فيما بعد في كتاب واحد تحت عنوان [عشر مسرحيات]). [الصوت والصدى].
وفي الأدب والنقد:[طاحونة الشيء المُعتاد]. [عندما تضِّج الأعماق]. [علامات مهجورة].[ذلك العسَّاس]. [حروف الرماد]. [النموذج الثوري في الأدب والفن]. [الوَقَدات]..
في السيرة الذاتية: [أشياء بسيطة]، من ثلاثة أجزاء، جُمعت فيما بعد في كتاب واحد بنفس الاسم..
في فهم الواقع الليبي: [كلمات إلى وطني].. [معنى الكَيان]. [الشخصية الليبية]..
إضافة إلى هذا هناك الكثير من الدراسات والمقالات ومشروعات الكتب التي لم تَرَ النور بعد، ذلك إلى آخر كتابين صدرا له كانا مجموعة [رحلة الاقتراب] عن “الديار العربية للكتاب” سنة 1990م) و”النموذج الثوري في الفن والأدب” في سلسلة [كتاب الشعب]. عن “المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان”، سنة 1986م). وقد كان المفروض أن يصدر له مسرحية “تصوير ملك الزمان” في سلسلة [الكتاب المسرحي] سنة 1987م). وللأسف لم يتم إصدارها بل لم يتم استلامها منه كحدّ أدنى، رغم أنها مُدوَّنة بفهرس منشورات “النشر والتوزيع”، على أنَها صَدَرَتْ..
وأذكر أنّنا تحدّثنا إثر عودته من “ألمانيا” ـ حيث يُشارك المخرج “عبد الباسط البدري” في “مهرجان لا يبزج للأشرطة القصيرة”، سنة 1986م).. في عدَّة أمور، كان أبرزها تعاونه مع مجلة [المسرح والخيالة] بالكتابة، ووعدُ منه بأن ينشر في المجلة نصّاً مسرحياً، لكنه ـ من خلال احتكاكه المباشر خلال المهرجان ـ أحسَّ بأن الفن الدرامي المرئي سينمائياً وتلفزياً) هو فن وأدب المستقبل الذي يستطيع أن يوصل الكلمة بمضمونها إلى الملايين بعد أن لَمَسَ في المهرجان وقع تجربته للإذاعة المرئية من خلال “العيد في الأرض”(3) .
ومن بين الأسلوب المنظَّم الذي كان يعمل به الأستاذ “عبد الله القويري” التخطيط المُسبق لما يُريد أن يكتب. أي أنه في بعض الحالات يأخذ موضوعاً واحداً على أساس عملٍ كاملٍ منذ البداية، حدث معه هذا عندما تناول بالحديث كتاب [سُكَّان ليبيا] في جزئه الأول الذي عَرَّبه “د.خليفة التليسى”، ونشرته “الدار العربية للكتاب”.
وحدث أيضاً الأمر نفسه في مجموعة دراسات عن “اللغة” و”الحوار” في المسرح عائداً بشريط الذاكرة إلى أكثر من جيل، مُسترجعاً بدايات ارتباطاته المسرحية..
وإلى جانب ذلك فهناك دراسات لم تُنشر بعض منها:
ـ هل هو تجريب أم تهريج؟).. وهو مُتابعة ونقد للأعمال المسرحية التي قُدِّمت في “المهرجان الوطني الخامس للفنون المسرحية”. ونُشر في العدد (13) من مجلة [المسرح والخيالة]..
ـ “هاملت”.. ذكريات وقراءات وتأملات).
ـ الشخصية المسرحية في التمثُّل والتمثيل). وقد كتبه خصيصاً لملف “الشخصية الدرامية”، الذي أصدرته مجلة [المسرح والخيالة]، ضمن العدد (14) ..
***
ظل الأستاذ “عبد الله القويري” مُنشغلاً ومهموماً بالحوار على أكثر من مستوى:
فعلى مستوى اللغة كان يبحث ويُنقب عن “اللغة الحوارية” مُراجعاً للتراث العربي ابتداءً، ووصولاً إلى العصر الحاضر. فلو أعدنا قراءة دراسته “البحث عن الكلمة الحوارية عند ابن خلدون”، التي نُشرت بمجلة [تراث الشعب]. في العدد 2/91) ومن خلال بعض الفقرات التي نُشرت بمجلة [لا] في العدد (13) عن الحوار في “رسالة الغفران” لـ”أبي العلاء المعريّ”، ومن خلال دراساته التي نشرتها مجلة [المسرح والخيالة] ابتداءً من العدد (9) وحتى العدد (12) لأمكننا تصوُّر انشغاله بالبحث في هذا الموضوع. ويُمكننا من خلال عناوين الدراسات كيف ودّعت عالم “جورج أبيض” و”عزيز أباظة”/ المُشكلة، كيف نبني الحوار/ لحظات الوقوف على عتبة عالم “شكسبير”/ وبدأت أتلمُّس مسرح “إبسن” الواقعي الهادئ) يُمكننا أن نلمس اهتمامه بالبحث عن لغة حوارية يُساعد في إيجادها لغة عربية تتطوَّر بقُدرات اللغويين والمُبدعين لتصبح مُسايرةً للعصر من حيث تركيزها ومدلولاتها، مُستوعبةً لكل علومه وآدابه.
ورغم أن لغة الأستاذ “عبد الله القويري” الأدبية جميلة، تخلو من الحشو والإطناب، رشيقة، تنبضُ بالواقع وتتنفَّس من خلاله، إلا أن لغة الحوار المسرحي كانت هاجساً مُستديماً بالنسبة له، ليقترب بها أكثر من الذين يتوجَّه بمسرحه إليهم، ومسرح “عبد الله القويري” مسرح أفكار، وتقديمه على الخشبة أمرٌ صعبٌ إذا لم تكن وسيلة الإيصال الأولى وهي الحوار قادرة على الكشف والإيحاء والتعبير.
وعلى مُستوى الحوار ذاته، بغض النظر عن موضوعه، كانت قَناعات ومُمارسات الأستاذ “عبد الله القويري” كبيرة. وعندما يتحقّق وفقاً لمفهومه فهو دليل على صحَّة المجتمع [مايدُّلُ على المناخ الديمقراطي هو الحوار الجاد، والبحث عن جذور المشاكل والمعاناة الحقيقية لهذه المشاكل والعمل على فهمها](4) ..
فاهتمامه بالحوار كان اهتماماً مستمرِّاً مُتصِّلاً ومِلْحاحاً، وعندما كتب “حوارٌ حول الحوار”(5) كانت وسيلته الحوار نفسه، فهو يستخدم الأداة الحوار) لإثبات أن الفعل نفسه الحوار) هو ما يجب أن يتحوَّل إلى سلوك يومي لَدَى الجميع، للتعبير عن أفكارهم، فيكتب:
[قال صاحبي:
ـ إذن فأنت تقول بأن الحوار لا يكون إلا في الأجواء الحضارية وبأساليب تبتعد عن التهريج الصحفي، ويجب أن يُسيطر عليها من أجل فكرة أو هدف، كما يجب أن يُسيطر عليها الوضوح، فلا يستعمل الإيماءات والغَمَزات……
قاطعتُ صاحبي قائلاً:
ـ تماماً.. لقد ذكَّرتني بالغَمَزات واللمزَات…. إنها تدلُّ على الخوف، وعلى عدم الوضوح الاجتماعي، وعلى طريقةٍ في التعبير تأخذ شَبَهها من بعض المواقف الفردية، فهناك من الأفراد من لا يستطيعون التوضيح، أو لا يستطيعون إبداء آرائهم في وضوح، فهم يستعملون الغمز، والإيماء، ومحاولة إبراز أنفسهم كعارفين لأشياء كثيرة، وهم في حقيقة أنفسهم عَجَزة، إنهم يودُّون الظهور بمظهر المُدرك، الذي يملك رأياً، ولكنهم عند الموقف لا تجدهم يفعلون ذلك بل يكتفون بالتلميح دون التصريح، وبالإيماء دون المُباشرة، وباللّمزِ دون النقد، وبالأفكار السريعة دون الأفكار الواضحة المبنيَّة على تفهُّم وتمكُّن…. الخ](6) ..
إن هذه المُناداة بالحوار عن طريق الحوار) لَدَى الأستاذ “عبد الله القويري” ارتفاع بمُستوى التخاطب الإنساني. أن نتحاور وأن نكون أصدقاء في الوقت نفسه، أن نتحاور ولا ينقلب حوارنا إلى نوعٍ من العداءِ. وفي سبيل تأكيد هذا المفهوم على المستوى الأدبي كتب الأستاذ “عبد الله القويري” كلمةً صغيرةً كمُقدِّمة لدراسة كتبها الأستاذ “عبد الله القويري” عن مسرحية [المعاناة من أجل شيء]، يقول:
[عندما بحثتُ في أوراقي وجدتُ شيئاً فرحتُ به، وجدتُ مُسوَّدة نقد كان قد كتبه “عبد الله القويري” عن مسرحيتي [المعاناة من أجل شيء] حالما فرغتُ من كتابتها، وكنتُ وقتها قد أخذتُ النقد واحتفظتُ به، رغم احتجاج يوسف)) بأنه لا يرغب في نشره باعتباره وجهة نظر سريعة. ولكن، لم أبالِ باحتجاج يوسف)) فقد تملكني الاعتزاز، وأحسستُ أن النقد الموضوعي هو ما نحتاجُ إليه، ويجب أن نتمسَّك به في مرحلتنا..
ربما خالفتُ يوسف)) فيما ذهب إليه، أو في بعضه، ولكِّنني قدَّرتُهُ وقدَّرتُ ما كَتَبَ](7) …
من هنا يتضّح أكثر تعلُّق الأستاذ “عبد الله القويري” بالحوار وحرصه على أن يكون ضمن مفهوم عقلاني لا يتعدّاه إلى الخروج من نقطة الحوار إلى منطقة التنازع أو الخلاف، فالحوار سِمَةَ رئيسية في تفكيره وفي كتاباته وفي مُمارساته.
وبدون شكِّ يُشكِّل الوطن هاجساً أكبر من كل الهواجس عند الأستاذ “عبد الله القويري” فقدكان عاشقاً للوطن، مسكوناً بالوطن، وربما تضخَّم هذا الهاجس حتى ابتلع كل الهموم الأخرى، وقد يكون لظروف مولده ونشأته الأولى تأثيرٌ في ذلك..
فمنذ عودته سنة 1957م) إلى ليبيا)) كان يحمل شوقه وحنينه وحُبَّه لهذه الأرض، فقدأسمى دار النشر التي أسسَّها دار الوطن)). وكان أول عملٍ يكتبه بعد عودته مسرحية عن شيخ الشهداء عمر المختار)). ولو عُددنا إلىمُراجعة سلسلة كُرَّاسات ليبية)) التي صدر منها ثلاثة عناوين لوجدنا:
* [معنى الكيان]. وهو محاولة نظرية لفهم الواقع الليبي.
* [كلمات إلى وطني]. وهو مجموعة من الأفكار يعرضها على شكل رسائل.
* [الشخصية الليبية]. كمفهوم ودليل للعمل.
إننا لا نجد في قصص الأستاذ “عبد الله القويري” عَبْرَ مجموعاته المُتعدِّدة إلا ما يربط الإنسان بالوطن ويربطنا بالإنسان البسيط الكادح المجتهد أن يُؤمِّن لقمة العيش له ولأسرته، إنه كشفُ الواقع الاجتماعي ووضعه تحت الأضواء لتتضِّح لنا الرُؤية أكثر.
وقد كانت قضيَّة الكتب المدرسية في نهاية الستينات أكبر معركة وطنية يخوضها “عبد الله القويري” ليكشف مُلابساتها ويوضح كيف تتِّم الصفقات على حساب مستقبلنا التعليمي، وإثر ذلك، وكنوعٍ من الرفض والاحتجاج على عدم حسم تلك القضية هاجر إلى “تونس” وأقام فيها زمناً أصدر خلاله مجموعته القصصية [الزيت والتمر] وكتاب [طاحونة الشيء المعتاد]، ثم انتقل إلى فرنسا)) حيث واصل دراسته، رغم أنه كان مُثَّقفاً ثقافة موسوعية، ورغم أنه تجاوز مرحلة الدراسة وتلقَّى العلم في مفاهيمنا نحن.
واستطاع بذلك أن يزيد من معارفه ومعلوماته عن الغرب مُمثَّلة في باريس)) والحركة الثقافية التي تضِّج بها، ومن منّا لا يذكر تلك الفترة الحرجة عقب ثورة الطلاب)) في نهاية الستينات وما كانت تموج به فرنسا)) من تيارات فكرية وسياسية واجتماعية دفعت الجنرال شارل ديجول)) فيما بعد إلى الاستقالة من رئاسة الجمهورية الفرنسية.
ولعّل البعض ممّن وَجّه إصبع الاتهام للأستاذ “عبد الله القويري” بالإقليمية لم يقرأ، أو قرأ ولم يفهم الوجه العُروبي الواضح له، بل كانت المشاعر القومية أبرز إلى الظهور في أعماله المكتوبة. إن أول مجموعاته القصصية [حياتهم] تحكى عن مصر))، وجميع شخصياتها مصرية، وأحداثها تدور في ريف مصر)) حتى لغة الحوار في القَصص كانت بالعامية المصرية. ومسرحيتا [جميلة] و[عميروش] عن مناضلين جزائرييين معروفين، كما أن مسرحيتي [الجانب الوضيء] و[المعاناة من أجل شيء] عن حرب التحرير الجزائرية، وقد جمع في كتابه [طاحونة الشيء المعتاد]، بعض دراساته عن كُتُب وكُتَّاب من مصر)) وتونس)) والمغرب)) وله العديد من الدراسات المُماثلة.
فهل يكفي ذلك ليُقنع بعض المُتشنجين بإمكانية المزاوجة بين الجزء والكل، بين الحبيبة وبين الأم؟
وهل يُذنب الإنسان حقاً عندما يُحَِّب ابنه قبل وأكثر من أخيه؟ أم أن الأولى تؤدّي بالضرورة إلى الثانية، عندما يكون القلب مفتوحاً لكل التصورات والأفكار التي تسعى لخلق مجتمع تسوده العلاقات الإنسانية، ويسوده العدل والمحبَّة والصدق، وهي الأفكار التي سعى الأستاذ “عبد الله القويري” لنشرها بين الناس.
إنه يعود مع [رحلة الاقتراب](8) وشريط الذاكرة الذي يُعيدُ عرض مخزونه لتكون “العوسجة” و”زيتونة أم عريفة” بداية الإحساس بنهاية الرحلة، فيكون إحساسه بتلك الذكريات أكبر، وليعتزم الفارس)) بعد رحلات في الزمان والمكان العودة إلى مصراتة)) حيث يحطُّ الرحال ويستقر في منزل يجعله قريباً من نقطة الأصل وهو يعود، لتكون محطَّته الأخيرة.
***
في حوارٍ بين الأستاذ “عبد الله القويري” وبيني ببهو فندق أوزو)) في بنغازي)) أثناء حضورنا مهرجان شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي)) سنة 1989م). سألته عن قصّةٍ قديمةٍ له كنتُ قرأتها، وقرأتُ بعدها نقداً لها لأحد كتابنا الليبيين الأستاذ القاص إبراهيم الكوني)). كان عنوان القصة[ثلاثة يحملون التابوت].
الأستاذ “إبراهيم الكوني” فسّرها تفسيراً. وكان لدّي أنا تفسير آخر.
سألتُ الأستاذ “عبد الله القويري”: [هل هذا حقاً ماتقصده؟]..
أكد على كلامي، وأكد أيضاً شيئاً آخر. قال: [ـ إني أنظر إلى فكرة الموت في حدِّ ذاته. قد يصدق تفسير إبراهيم الكوني)) وقد يصدق تفسيرك، لكن لي أنا أيضاً تفسيرٌ آخر هو تأمل فكرة الموت وكيف يتعامل معها الناس].
لقد أخذ الأستاذ “إبراهيم الكوني” القصّة من وجهة نظرٍ واقعيةٍ ففسرها تفسيراً اجتماعياً، وقمتُ بأخذها على المستوى الرمزي، فكان تفسيري لها من ذلك المُنطلق، بينما اتجّه الأستاذ “عبد الله القويري” إلى إعطاء قصته طابعاً فلسفياً ليُفسِّرها بعد ذلك أيضاً تفسيراً فلسفياً.
وانطلقنا في حديث شمل ملاحظاته حول الموت وأسلوب الدفن في “مصر” و”العراق” و”ليبيا” و”تونس”. تأمُّله لفكرة الموت في حدِّ ذاته وحياتُه البسيطة المتواضعة كانت تُنبئُ عن إنسانٍ سمحٍ لا يخافُ الموت، لكن يتأمَّله ويتأمَّل كيف يتعامل معه الآخرون، وفي الوقت نفسه، يجد أنه يكاد يكون الحقيقة التي لا يستطيع أي إنسان في الوجود نكرانها.
كان ينظر إليها نظرة الفيلسوف الذي يحدِّد أسلوب حياته من واقع خلاصة تفكيره في هذا الشيء المجرَّد…الموت)). قد نتفِّق معه في تفسيراته وقد نختلف، لكن فلسفته أمْلَتْ عليه في النهاية أسلوب حياة معين، اتسم بالبساطة، واتسم بالقناعة، واتسم بالصدق.
وهكذا خفق القلب الكبير خفقته الأخيرة؟
جريدة الأسبوع الأدبي – العدد 744 تاريخ 27/1/2001
_______________________________________________________
(1) محمد أحمد الزوى، [خطوط على الهواء]، منشورات المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان)). طرابلس. ط1/ 1981م.
(2) [دليل المؤلفين العرب الليبيين]. منشورات دار الكتب)) بأمانة الإعلام والثقافة. طرابلس)، ط1 / 1977م.
وأيضاً: عبد الله القويري. [أشياء بسيطة]. منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان)). طرابلس) . ط3/1980م.
وأيضاً: أمين مازن. [القصة في أدب عبد الله القويري]. سلسلة [كتاب الشعب]. منشورات المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان)). ط3/1983م.
(3) أُعد من قصص له أعمالاً مرئية القصص التالية:
ـ [قطعة من الخبز]. سيناريو وإخراج “خالد مصطفى خشيم)). وعُرضت تحت اسم التجربة).
ـ [كيس الدقيق]. سيناريو وإخراج عبد السلام حسين)).
ـ [العيد في الأرض]. سيناريو وإخراج عبد الباسط البدري)).
(4) عبد الله القويري . [عندما تضِّج الأعماق]. منشورات دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع). طرابلس. ط1/ 1972م. ص 10.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه. ص 210-211.
(7) يوسف القويري. [الكلمات التي تقاتل]. منشورات دار المصراتي للطباعة والنشر)). طرابلس. ط1/ 1969م. ص 71.
(8) عبد الله القويري. [رحلة الاقتراب]. منشورات الدار العربية للكتاب)). طرابلس . تونس . ط1/ 1990م.