من أعمال الكيلاني عون
قصة

السّجان يسّتحى عندما يتخذْ ملامح بانوسيّة***  

محمد عثمان

كان يقود سيارته بسرعة لم تألفها منه من قبل .  فَعَل ذلك كى يتخطّى (صحراء القاف)* قبل ان تتربّع الشمس في كبد السماء , فتُلهب الصحراء بشواظ لا يُطاق , فتنّكمش حينها الحياة وتُشل الحركة . وتنسحب كل ذات نَفَسْ , الى حيت يوجد ضل لتمّرير قيّلولتها بسلام .   فتضحى بذلك الطريق مُوحشة . . . كان يمر بمنطقة البوانيس عندما بدأ مؤشر حرارة المحرك يقَترب من البقعة الحمراء الحرجة . قرر الدخول الى اول محطة وقود تظهر بقرّبه , لتعويض نقّصه  ومعالجة حرارة المحرك .  عند ظهورها على الجانب الايسر من الطريق . اندفع بداخلها ,  كانت الخدمات بالمحطة ليست جيدة  , فَاتحَ عامل المحطة بذلك واستفّهم عن مُديرها , اجاب العامل :- بان المدير خارج البلاد  , يُديرها  من وراء الاطلسى من لندن .  لم يُصدق ما سمع , ورد منّدهش مُحدّث نفسه :- لا شك بانه يمّزح . ثم اضاف مبتسما , يجب لا ننسى باننا فى عصر ثورة الاتصالات . التى جعلت هذا العالم  صغيرا بحجم قرية في فزان   .  قفل  خزان الوقود .  ادار السيارة وركنها تحت اقرب ضل شجرة صادفته  , فتح غطاء المحرك لتهويته , سحب عصاة قياس الزيت من جوف المحرك , كان السائل اللزج الداكن قد غطّى سطحها واخّفى الشارات التى حُفرت عليها , فتّش عن ما يُزيل به السائل الداكن . آجال بصره فى محيطه القريب , باحت عما قد يسّتخدمه في ذلك , ظهرت بالقرب منه بقايا ورقة عالقة بتراب الارض , قَدّر بانها قد تفي بالغرض , اتجه صوّبها . كانت قد طُوِيت على نحو عبثي وغلفها الغُبار من الخارج , نفض الغبار وفَرَدَ طيّاتها حتى تسطّحت , ظهرت عليها كِتابة غطت وجهيها . دفعه الفُضول الى قراءة ما كُتب , ما ان انتهى من قراءة السطر الاول  , حتى تجمّد مكانه ليُكّمل ما بدأ . . فوّرما انتهى . اعاد القراءة ثانيتا , ولكن فى هذه المرة بتمهل شديد :-

      الى الهيئة العليا للقضاة بدولة الحقراء

                                      تحية طيبة وبعد .

فى يوم 5-5-80 م وقفت امام احد هيئاتكم  بقضية تحمل رقم (-) . بعد توّقيف دام ثمانية شهور .  اشعر بانني وبشكل ما , قد استدرجت اليها في غفّلة منى . . وهذا لا يعفني من تحمل عواقب هذا الحدث  . . . وبعدما قال القضاة كلمته بالسجن لمدة خمس سنوات , لم اعترض حتى استأنفا , لأمر احتفظ به لنفسي ,  كما لا اريد ان ادخل فى حديث عن مرارات سنوات السجن العجاف . لاعتقادي – من جانبي – بان كل ما حدث فيها . هو فى مجموعه ما يجب ان اتحمل وزّره . لفشلي فما خططت وقمت به , عن ترصّد وسبق اصرار .

ولكن بانتها سنوات السجن الخمس , لم يثم اخلاء سبيلي . بل مُددت بقدرة قادر  بسنين سجن مفتوحة , دون المرور بقاعات المحاكم او الوقوف امام منصّات القضاة  . .  كانت سنوات بطعم الموت , حرّكت بداخلي مشاعر دُفنت مند زمن التنّشئة .  صارت هذه , تستنهضنِ وتستحثني بالا اقبل ذلك . فتقدمت باعتراضات وتنبيهات شفوية وكتابية للإدارة السجن , ولا من مُجيب . اتر ذلك عزمّت على الدخول فى محاولة لكسر هذه الحلقة الجهنمية من سنين السجن المُغلقة .  بمقاومة سلبية اداتها الاضراب عن الطعام . لم يدم طويلا واجهض بوعّد كاذب من ادارة السجن مضمونه ينتهى بإخلاء سبيلي . . بعدما تبيّنت  زيف وعّدهم , عاودت الدخول هذه المرة فى اضراب مفتوح , استمر طويلا . اسّتفزَ في يومه الثاني عشر رفاق زنزانتي , فقرر بعضهم مشاركتي الاضراب , إن لم اتراجع عنه .  حاولت جاهدا إقناعهم . بان هذا الشأن يخصّني , ولا يًلّزمهم مجاراتي فيه . لكن دونما جدوى . وفيهم من كان مُسّن تخطى منتصف السبعين من عمره , فاضطررت للتراجع بفكّه  , والذهاب نحو بديل اخر .

اقول هذا امامكم لأوضح  بانني حاولت جاهدا إعلام كل الجهات ذات الشأن وبكل السبل الممكنة .  بألا يجب ان ابقى ولو يوم واحد داخل السجن , تزيد عما قاله القضاة .  فذلك يُدخلنا جميعا فى منطقة اللاعدالة . والذى من جانبي يجب الا اقبله وارفضه بكل الطرق . .

زادت المعاناة اثر ذلك . وصارت الزنازنة جحيم لا يطاق . فتضاعف الاستنهاض داخلي , يستحثني للبحت عن سبيل  , حتى ولو كان ذلك  عبر ممر قُدّ من موت  . ولا اخفيكم القول . بانني عزمّت على إعداد نفسى للخروج عنوة من ذلك الجحيم . وان كانت نسبة النجاح في ذلك لا تتعدى الضعيفة   .  فهناك تُوجد ابواب فولادية , وجدران خرسانية شاهقة , واسلاك شائكة مكهّربة , وكلاب شرسة , وعسكر مدجّج  .  كان فى تقديري ورفيقي ( المشّاى ) ان نلّتقى الموت وُقُوفا فوق سطح السجن , ربما برصاص العسكر وحيت يتمتّرسون , فما من سبيل غير ذلك  . فأخاك مُرغما لا بطل . .

ولكن وقبل الشروع فى ذلك بشهر واحد , ولا اعرف لحسن الحظ او لسوئه اُخلى سبيلي .  فكفانا الله ولله الحمد . . اقول هذا لا حب فى الاستعراضات التى لا تسوى شيء فى عالمي .  ولكن لتقّريب صورة المأساة التى يظهر جزاء من اعراضها المُصاحبة  , فى اشكال من ردود افعال تطاول الجنون واحتضان الموت . اعراض تُعبر وتكّشف عن عمق مُعاناة من اُدخل فى نفق  سنين من سجن مفتوحة .  لا يُرى فيها من بصيص فى نهاية النفق .

إنها حالة من المعاناة يصعب توّصيفها إلا بالمُعايشة .  وهذا يستحيل بالاختيار . ربما تمكّن من مقاربتها وبقدر ما المتنبي الشاعر في قوله  :-

كفى بك داء ان ترى الموت شافيا      وحسب المنايا ان يكن أمانيا . . .  .

خرجت من السجن مع نهاية الشهر الثامن لعام 86 م .  تبينّت بعد فترة قصيرة من خروجي . بأنني لم اتنفس الصعداء مع عبوري عتبته , بل استنزفت منى هذه مدة ليست بالقصيرة . بل سنين طوال , فى تأهيل ذاتي صعب وفاشل في الكثير من مراحله . فالإنسان تلّفظه تلك الزنازين مُشوها . وزاد من صعوبة ذلك وارّبكه . ظهور السجان فجأتا في حياتي خارج السجن . ربما في محاولة منه لتذكري بعصاه الغليظة . كان يأتي مُتخفيا وراء وجوه عديدة . مرة يأتي مطالبا بمعلومات تتعلق بشخصي يدونها ويثبتها بملف كان بحوزته . وبعد فترة تقّصر او تطول يعاود مطالبا بصور شخصية بأبعاد معينة . وجاء مرة مصحوب بخريطة لقريتي مبيّن عليها شوارعها وازقتها وبيوتها وجميع مرافقها , وطلب منى تحّديد موقع البيت الذى اسّكنه عليها . وهكذا .  ولكن الملّفت في كل هذا , كان يأتي ودائما مع عسّعسة الليل . فبدأ لي . وكأنه يسّتحى عندما تتلبّسه ملامح بانوسيّة .    وجاء ذات مرّة , وكان قدومه مُخيفا . إذ صاحبه حدث هزّ امريكا والعالم برمّته  , وكان طلبه هذه المرّة غريب بعض الشيئي , او هكذا بدأ لى . صور شخصية مدنية ملوّنة و حديثة لا تقل فى العدد عن العشرة .  هنا رفضت , ولكن بطريقة ناعمة  . لأنني لا اريد ان اخوض التجربة مرة ثانية  .  فذهب .  ولم يغيب هذه المرة فى الزمن بعيدا .  وعاد ببزته العسكرية . وكان خشننا وفضنا في قدومه . اذ اندفع الى داخل إدارة الشركة التى كنت احد موظفيها , وقدف بنا جميعا خارج المبّنى  . واحْتله واتخذه  مقر وادارة له . وتركنا على قارعة الطريق , لنبدأ من جديد رحلة البحت عن مصدر رزق  , نتعّيش به ومن نعول ,  استمرت ذلك سنين اثقلتنا بالديون . .

اقول هذا لأصل بكم الى القول . باني اطالبكم بكل حقي فى المدة , التى اُبّقيت فيها بالسجن ظلما , بعدما استوّفت هيئتكم حُكمها .  حقي الذى يساوى ما يقدمه وطن يحترم حق وكرامة مواطنيه , اذا لحق بهم ظلم او غبّن .  كما اود القول لكم , بان كل ما تصّدره هيئتكم من احكام , وتترك بدون متابعة , وما قد يترتب عليها من اضرار تلحق بالأخرين . لاشك بان لكم النصيب الاكبر من اوّزارها . . . . .

تلاشت الحروف واختفت الكلمات والسطور تحت وطأة الزمن بعوامله الطبيعية  , فتوقفت القراءة . . طوى الورقة ودسّها بجيبه الايمن ,  فتش عن اخرى فى محيطه , استخدمها فى تنظيف عصاة القياس , كان السائل بمستوى جيد , اضاف قليل الماء الى مبرّد السيارة , قفل غطاء المحرك , قرر الاستغناء عن جهاز التكّيف  ليخفف عنها الحمل , ادرها واندفع بها جنوبا . . .

على طول الطريق كان منّشغلا بما قرأه . تولّدت برأسه تساؤلات كثيرة . . . حدّث نفسه بصوت مسموع :- لا شك بان الذى كان يَتحدّث من خلال الورقة فى حروفها وكلماتها وسطورها  , كان احد رفاقنا في ذلك السجن الرهيب بطرابلس , خلال النصف الاخير من ثمانينات القرن الفائت  . ولكن من يكون يا ترى ؟ . هل هو ذلك الغامض ؟ . الذى فعل فعّلته تلك بسجن (بوسليم ) ونفدْ  . تاركا وراءه تملّمل داخل زنازين السجن .  حتى انه فى اليوم الذى اُخّلى فيه سبيل ذلك الغامض .  كان احد رفاق زنزانته قد انخرط فى اضراب مفتوح عن الطعام  .  ثم لم تدوم معاناتنا بعد خروجه طويلا   .  فقد اُفرج عن اغلبية ممن انّهوا مدد احكامهم وتخطوها بسنين .  فى مناسبة عُرفت حينها  (بأصبح الصبح) .

واما انا (مُحدّثكم) في هذه السطور . اسمح لنفسي بالقول , بانني قد كنت احد هؤلاء السجناء .  ولكن دعوني اقول ايضا  . بانه لا يراودني شك البتّة  .  بان فعّلت ذلك الغامض . هى من زرعت التوجّس والخوف في عقل ادارة السجن وسجّانه وجهازه الأمني , من إمكانية انتقال فيّروس عدّوى الاضراب الي كيان زنازين ذلك السجن الرهيب . حينها  لا فكاك  من تأزم تلك الزنازين  , الا بفتح ابوابها المغّلقة على فضاءات الحرية  . ولمعالجة توجّس السّجان وقلقه , والقضاء علي ما يُخيفه في مهّده  . ذهب السجن والسجان . نحو خطوة اسّتباقية , مسّتلهمين بها , ما صدحت به الزبّا ملكة تدّمر , لحظة تجرعها الموت  .    فعجّل ذلك وبدون شك , فى اخلاء سبيلنا مع مساء ذلك اليوم المشّهود  . ولكن ما ازعج النفوس حينها وكدر صفّوها وفرحها . سعى السّجان وتمكّنه وبخبث استثنائي ,  من تطويع الحدث وتجّيره لصالحه . مُتكئا في ذلك على آلته الاعلامية .

ولكن هل تكون يد ذلك الغامض هى من خطت هذه السطور ؟ .  وهل كان ذلك المنّزوي بعيدا والمُكّتفي  بذاته في وحّدته , يعيّ ارتدادات فعّلته الايجابية تلك , على السجن وبمن فيه ؟ ! لا اعرف , لا اعرف . . .  لكن  تسلسل احداث السرد في الورقة مع الفترة الزمنية التى احتوتها  . تقول ذلك وتشى بأن يده لا غير , هي من خطّت ما جاء على ظهر هذه الورقة , التى يُغلفها تراب هذه المنطقة النائية .  لقد كان (مُحدّثكم) من خلال هذه السطور , شاهد عيان على محاولة تشّبه وتُحاكى  ما جاء في هذه الورقة , كان ذلك مند سنين بسجن بوسليم الرهيب  . .

ظهرت امامه فى البعيد , مباني متباعدة ومنتشرة على جنبات الطريق , تُعّلمه بانه على ابواب اكبر مدن الجنوب سبها .  ولج شوارعها  . توقف امام شارة ضوئية , كانت الشوارع خاوية , وكان وحيدا كعادته, و الشمس تتربع فى منتصف قبة السماء , تلبّس الشارة الضوئية لون اخر , اندفع بسيارته فى جوف المدينة , ابتلعته طرقاتها  واختفى . فاضحي لا اثر ولا عين .

__________________________________________________

  *(بوسليم)  احد احياء مدينة طرابلس . يسكنه تنوّع من المشارب والاعراق والالوان واللهجات . يجثم فوق صدره السجن الذائع الصيت ,فاستمدّ اسمه منه . .

 **(المشّاى)من خلال موقعه بين الكلمات يظهر وكأنه احد رفاق السجين وشريكه فى المحاولة المزعومة .

 ***بانوسيّة .  نسّبة الى منطقة البوانيس التى تغطى الرقعة الجغرافية المحصورة ما بين الاطراف الجنوبية لصحراء القاف شمالا , والاطراف الشمالية لسبها جنوبا.

كتبت بالجنوب الليبيى :- 2007 م.

مقالات ذات علاقة

الحب يموت مرتين

إبراهيم الصادق شيتة

تولين

حسن المغربي

حزام الأمان

رشاد علوه

اترك تعليق