محمد عثمان
كان يقود سيارته بسرعة لم تألفها منه من قبل . فَعَل ذلك كى يتخطّى (صحراء القاف)* قبل ان تتربّع الشمس في كبد السماء , فتُلهب الصحراء بشواظ لا يُطاق , فتنّكمش حينها الحياة وتُشل الحركة . وتنسحب كل ذات نَفَسْ , الى حيت يوجد ضل لتمّرير قيّلولتها بسلام . فتضحى بذلك الطريق مُوحشة . . . كان يمر بمنطقة البوانيس عندما بدأ مؤشر حرارة المحرك يقَترب من البقعة الحمراء الحرجة . قرر الدخول الى اول محطة وقود تظهر بقرّبه , لتعويض نقّصه ومعالجة حرارة المحرك . عند ظهورها على الجانب الايسر من الطريق . اندفع بداخلها , كانت الخدمات بالمحطة ليست جيدة , فَاتحَ عامل المحطة بذلك واستفّهم عن مُديرها , اجاب العامل :- بان المدير خارج البلاد , يُديرها من وراء الاطلسى من لندن . لم يُصدق ما سمع , ورد منّدهش مُحدّث نفسه :- لا شك بانه يمّزح . ثم اضاف مبتسما , يجب لا ننسى باننا فى عصر ثورة الاتصالات . التى جعلت هذا العالم صغيرا بحجم قرية في فزان . قفل خزان الوقود . ادار السيارة وركنها تحت اقرب ضل شجرة صادفته , فتح غطاء المحرك لتهويته , سحب عصاة قياس الزيت من جوف المحرك , كان السائل اللزج الداكن قد غطّى سطحها واخّفى الشارات التى حُفرت عليها , فتّش عن ما يُزيل به السائل الداكن . آجال بصره فى محيطه القريب , باحت عما قد يسّتخدمه في ذلك , ظهرت بالقرب منه بقايا ورقة عالقة بتراب الارض , قَدّر بانها قد تفي بالغرض , اتجه صوّبها . كانت قد طُوِيت على نحو عبثي وغلفها الغُبار من الخارج , نفض الغبار وفَرَدَ طيّاتها حتى تسطّحت , ظهرت عليها كِتابة غطت وجهيها . دفعه الفُضول الى قراءة ما كُتب , ما ان انتهى من قراءة السطر الاول , حتى تجمّد مكانه ليُكّمل ما بدأ . . فوّرما انتهى . اعاد القراءة ثانيتا , ولكن فى هذه المرة بتمهل شديد :-
الى الهيئة العليا للقضاة بدولة الحقراء
تحية طيبة وبعد .
فى يوم 5-5-80 م وقفت امام احد هيئاتكم بقضية تحمل رقم (-) . بعد توّقيف دام ثمانية شهور . اشعر بانني وبشكل ما , قد استدرجت اليها في غفّلة منى . . وهذا لا يعفني من تحمل عواقب هذا الحدث . . . وبعدما قال القضاة كلمته بالسجن لمدة خمس سنوات , لم اعترض حتى استأنفا , لأمر احتفظ به لنفسي , كما لا اريد ان ادخل فى حديث عن مرارات سنوات السجن العجاف . لاعتقادي – من جانبي – بان كل ما حدث فيها . هو فى مجموعه ما يجب ان اتحمل وزّره . لفشلي فما خططت وقمت به , عن ترصّد وسبق اصرار .
ولكن بانتها سنوات السجن الخمس , لم يثم اخلاء سبيلي . بل مُددت بقدرة قادر بسنين سجن مفتوحة , دون المرور بقاعات المحاكم او الوقوف امام منصّات القضاة . . كانت سنوات بطعم الموت , حرّكت بداخلي مشاعر دُفنت مند زمن التنّشئة . صارت هذه , تستنهضنِ وتستحثني بالا اقبل ذلك . فتقدمت باعتراضات وتنبيهات شفوية وكتابية للإدارة السجن , ولا من مُجيب . اتر ذلك عزمّت على الدخول فى محاولة لكسر هذه الحلقة الجهنمية من سنين السجن المُغلقة . بمقاومة سلبية اداتها الاضراب عن الطعام . لم يدم طويلا واجهض بوعّد كاذب من ادارة السجن مضمونه ينتهى بإخلاء سبيلي . . بعدما تبيّنت زيف وعّدهم , عاودت الدخول هذه المرة فى اضراب مفتوح , استمر طويلا . اسّتفزَ في يومه الثاني عشر رفاق زنزانتي , فقرر بعضهم مشاركتي الاضراب , إن لم اتراجع عنه . حاولت جاهدا إقناعهم . بان هذا الشأن يخصّني , ولا يًلّزمهم مجاراتي فيه . لكن دونما جدوى . وفيهم من كان مُسّن تخطى منتصف السبعين من عمره , فاضطررت للتراجع بفكّه , والذهاب نحو بديل اخر .
اقول هذا امامكم لأوضح بانني حاولت جاهدا إعلام كل الجهات ذات الشأن وبكل السبل الممكنة . بألا يجب ان ابقى ولو يوم واحد داخل السجن , تزيد عما قاله القضاة . فذلك يُدخلنا جميعا فى منطقة اللاعدالة . والذى من جانبي يجب الا اقبله وارفضه بكل الطرق . .
زادت المعاناة اثر ذلك . وصارت الزنازنة جحيم لا يطاق . فتضاعف الاستنهاض داخلي , يستحثني للبحت عن سبيل , حتى ولو كان ذلك عبر ممر قُدّ من موت . ولا اخفيكم القول . بانني عزمّت على إعداد نفسى للخروج عنوة من ذلك الجحيم . وان كانت نسبة النجاح في ذلك لا تتعدى الضعيفة . فهناك تُوجد ابواب فولادية , وجدران خرسانية شاهقة , واسلاك شائكة مكهّربة , وكلاب شرسة , وعسكر مدجّج . كان فى تقديري ورفيقي ( المشّاى ) ان نلّتقى الموت وُقُوفا فوق سطح السجن , ربما برصاص العسكر وحيت يتمتّرسون , فما من سبيل غير ذلك . فأخاك مُرغما لا بطل . .
ولكن وقبل الشروع فى ذلك بشهر واحد , ولا اعرف لحسن الحظ او لسوئه اُخلى سبيلي . فكفانا الله ولله الحمد . . اقول هذا لا حب فى الاستعراضات التى لا تسوى شيء فى عالمي . ولكن لتقّريب صورة المأساة التى يظهر جزاء من اعراضها المُصاحبة , فى اشكال من ردود افعال تطاول الجنون واحتضان الموت . اعراض تُعبر وتكّشف عن عمق مُعاناة من اُدخل فى نفق سنين من سجن مفتوحة . لا يُرى فيها من بصيص فى نهاية النفق .
إنها حالة من المعاناة يصعب توّصيفها إلا بالمُعايشة . وهذا يستحيل بالاختيار . ربما تمكّن من مقاربتها وبقدر ما المتنبي الشاعر في قوله :-
كفى بك داء ان ترى الموت شافيا وحسب المنايا ان يكن أمانيا . . . .
خرجت من السجن مع نهاية الشهر الثامن لعام 86 م . تبينّت بعد فترة قصيرة من خروجي . بأنني لم اتنفس الصعداء مع عبوري عتبته , بل استنزفت منى هذه مدة ليست بالقصيرة . بل سنين طوال , فى تأهيل ذاتي صعب وفاشل في الكثير من مراحله . فالإنسان تلّفظه تلك الزنازين مُشوها . وزاد من صعوبة ذلك وارّبكه . ظهور السجان فجأتا في حياتي خارج السجن . ربما في محاولة منه لتذكري بعصاه الغليظة . كان يأتي مُتخفيا وراء وجوه عديدة . مرة يأتي مطالبا بمعلومات تتعلق بشخصي يدونها ويثبتها بملف كان بحوزته . وبعد فترة تقّصر او تطول يعاود مطالبا بصور شخصية بأبعاد معينة . وجاء مرة مصحوب بخريطة لقريتي مبيّن عليها شوارعها وازقتها وبيوتها وجميع مرافقها , وطلب منى تحّديد موقع البيت الذى اسّكنه عليها . وهكذا . ولكن الملّفت في كل هذا , كان يأتي ودائما مع عسّعسة الليل . فبدأ لي . وكأنه يسّتحى عندما تتلبّسه ملامح بانوسيّة . وجاء ذات مرّة , وكان قدومه مُخيفا . إذ صاحبه حدث هزّ امريكا والعالم برمّته , وكان طلبه هذه المرّة غريب بعض الشيئي , او هكذا بدأ لى . صور شخصية مدنية ملوّنة و حديثة لا تقل فى العدد عن العشرة . هنا رفضت , ولكن بطريقة ناعمة . لأنني لا اريد ان اخوض التجربة مرة ثانية . فذهب . ولم يغيب هذه المرة فى الزمن بعيدا . وعاد ببزته العسكرية . وكان خشننا وفضنا في قدومه . اذ اندفع الى داخل إدارة الشركة التى كنت احد موظفيها , وقدف بنا جميعا خارج المبّنى . واحْتله واتخذه مقر وادارة له . وتركنا على قارعة الطريق , لنبدأ من جديد رحلة البحت عن مصدر رزق , نتعّيش به ومن نعول , استمرت ذلك سنين اثقلتنا بالديون . .
اقول هذا لأصل بكم الى القول . باني اطالبكم بكل حقي فى المدة , التى اُبّقيت فيها بالسجن ظلما , بعدما استوّفت هيئتكم حُكمها . حقي الذى يساوى ما يقدمه وطن يحترم حق وكرامة مواطنيه , اذا لحق بهم ظلم او غبّن . كما اود القول لكم , بان كل ما تصّدره هيئتكم من احكام , وتترك بدون متابعة , وما قد يترتب عليها من اضرار تلحق بالأخرين . لاشك بان لكم النصيب الاكبر من اوّزارها . . . . .
تلاشت الحروف واختفت الكلمات والسطور تحت وطأة الزمن بعوامله الطبيعية , فتوقفت القراءة . . طوى الورقة ودسّها بجيبه الايمن , فتش عن اخرى فى محيطه , استخدمها فى تنظيف عصاة القياس , كان السائل بمستوى جيد , اضاف قليل الماء الى مبرّد السيارة , قفل غطاء المحرك , قرر الاستغناء عن جهاز التكّيف ليخفف عنها الحمل , ادرها واندفع بها جنوبا . . .
على طول الطريق كان منّشغلا بما قرأه . تولّدت برأسه تساؤلات كثيرة . . . حدّث نفسه بصوت مسموع :- لا شك بان الذى كان يَتحدّث من خلال الورقة فى حروفها وكلماتها وسطورها , كان احد رفاقنا في ذلك السجن الرهيب بطرابلس , خلال النصف الاخير من ثمانينات القرن الفائت . ولكن من يكون يا ترى ؟ . هل هو ذلك الغامض ؟ . الذى فعل فعّلته تلك بسجن (بوسليم ) ونفدْ . تاركا وراءه تملّمل داخل زنازين السجن . حتى انه فى اليوم الذى اُخّلى فيه سبيل ذلك الغامض . كان احد رفاق زنزانته قد انخرط فى اضراب مفتوح عن الطعام . ثم لم تدوم معاناتنا بعد خروجه طويلا . فقد اُفرج عن اغلبية ممن انّهوا مدد احكامهم وتخطوها بسنين . فى مناسبة عُرفت حينها (بأصبح الصبح) .
واما انا (مُحدّثكم) في هذه السطور . اسمح لنفسي بالقول , بانني قد كنت احد هؤلاء السجناء . ولكن دعوني اقول ايضا . بانه لا يراودني شك البتّة . بان فعّلت ذلك الغامض . هى من زرعت التوجّس والخوف في عقل ادارة السجن وسجّانه وجهازه الأمني , من إمكانية انتقال فيّروس عدّوى الاضراب الي كيان زنازين ذلك السجن الرهيب . حينها لا فكاك من تأزم تلك الزنازين , الا بفتح ابوابها المغّلقة على فضاءات الحرية . ولمعالجة توجّس السّجان وقلقه , والقضاء علي ما يُخيفه في مهّده . ذهب السجن والسجان . نحو خطوة اسّتباقية , مسّتلهمين بها , ما صدحت به الزبّا ملكة تدّمر , لحظة تجرعها الموت . فعجّل ذلك وبدون شك , فى اخلاء سبيلنا مع مساء ذلك اليوم المشّهود . ولكن ما ازعج النفوس حينها وكدر صفّوها وفرحها . سعى السّجان وتمكّنه وبخبث استثنائي , من تطويع الحدث وتجّيره لصالحه . مُتكئا في ذلك على آلته الاعلامية .
ولكن هل تكون يد ذلك الغامض هى من خطت هذه السطور ؟ . وهل كان ذلك المنّزوي بعيدا والمُكّتفي بذاته في وحّدته , يعيّ ارتدادات فعّلته الايجابية تلك , على السجن وبمن فيه ؟ ! لا اعرف , لا اعرف . . . لكن تسلسل احداث السرد في الورقة مع الفترة الزمنية التى احتوتها . تقول ذلك وتشى بأن يده لا غير , هي من خطّت ما جاء على ظهر هذه الورقة , التى يُغلفها تراب هذه المنطقة النائية . لقد كان (مُحدّثكم) من خلال هذه السطور , شاهد عيان على محاولة تشّبه وتُحاكى ما جاء في هذه الورقة , كان ذلك مند سنين بسجن بوسليم الرهيب . .
ظهرت امامه فى البعيد , مباني متباعدة ومنتشرة على جنبات الطريق , تُعّلمه بانه على ابواب اكبر مدن الجنوب سبها . ولج شوارعها . توقف امام شارة ضوئية , كانت الشوارع خاوية , وكان وحيدا كعادته, و الشمس تتربع فى منتصف قبة السماء , تلبّس الشارة الضوئية لون اخر , اندفع بسيارته فى جوف المدينة , ابتلعته طرقاتها واختفى . فاضحي لا اثر ولا عين .
__________________________________________________
*(بوسليم) احد احياء مدينة طرابلس . يسكنه تنوّع من المشارب والاعراق والالوان واللهجات . يجثم فوق صدره السجن الذائع الصيت ,فاستمدّ اسمه منه . .
**(المشّاى)من خلال موقعه بين الكلمات يظهر وكأنه احد رفاق السجين وشريكه فى المحاولة المزعومة .
***بانوسيّة . نسّبة الى منطقة البوانيس التى تغطى الرقعة الجغرافية المحصورة ما بين الاطراف الجنوبية لصحراء القاف شمالا , والاطراف الشمالية لسبها جنوبا.
كتبت بالجنوب الليبيى :- 2007 م.