وصلت الجملة إلى رأس لسانه، ولم يعد بينها وبين أن تنطلق كلماتها في الهواء وتصل آذان أبيه والرجل وتفعل فعلها، إلا أن يفتح شفتيه ويحرك لسانه تاركا الحروف تتشكل وتندفع متطايرة، كالدجاج الخائف.
لكنه أبقى شفتيه مطبقتين كابحا مفردات الجملة المتحفزة. ربما بسبب وخزات البرد الصباحي التي كانت تشوك لحمه وتبعث قشعريرة مزعجة، وإن كانت خفيفة، في جسده، وربما لحركة الحمارة( التي كان يجلس على ظهرها) الفجائية محاولة تناول عشبة قريبة، وربما لحضور خبرات سابقة سيئة من التدخل في شؤون الكبار أولإحساس غامض بأن في الأمر سرا ما، عليه ألا يفضحه.
في الصباح الباكر أنهضه أبوه ووضعه خلفه فوق الحمارة التي سارت بثقليهما متلكئة(لعلها أوقظت من نومها مثله) في الخيوط الأولى من الفجر وكثافة النسيم، كان النعاس يغالبه، لكن حركة الحمارة وحث أبيه لها على الإسراع ووخزات البرد وأصوات الطيور والحشرات وحفيف أوراق الأشجاروخوفه من الوقوع من على ظهر الحمارة، كانت تفلح في هش النعاس عنه. ثم ازدادت خيوط الضوء اتضاحا ورق الظلام، رويدا رويدا، حتى لم يبق منه سوى غشاء بالغ الرقة لا يحجب شيئا، ووصلا المكان المقصود.
أعلن أبوه عن وجودهما بمناداة صاحب المزرعة، الذي سرعان ما ظهر عليهما نشطا بجسده القصير المكتنز المشدود من وسطه بحزام قماشي عريض وهو ينهر كلبه الذي كان يسبقه متجها نحوهما نابحا. تبادل مع أبيه التحايا، ثم قال أبوه للرجل:
– جينا ناخذوا البقرة.
قال الرجل:
– آمس، كان موعدنا. كان حقك جيت آمس. قعدت نرجى فيك، حابس دابس على حسابك.
سمع أباه يرد:
– سامحني. والله انشغلت. برحة لولا جوني ضيوف برانية على غفلة، وباتوا عندي. فعطلوني. الله غالب. الخيرة في الواقع.
وعندها كاد يؤكد حضوره متسائلا:
– آمتى جونا ضيوف، برحة لولا؟!
ثم يضيف مقررا:
– ما جوناش ضيوف، برحة لولا!.
طوال طريق العودة، وهو جالس خلف أبيه على ظهر الحمارة، ممسكا بالحبل المربوط بعنق البقرة خلفهما، كانت تبلبل باله قضيتان. القضية الأولى: متى جاءهم الضيوف البارحة الأولى؟. هل جاءوا بعد أن نام هو، وذهبوا قبل أن يستيقظ؟. والقضية الثانية: لماذا وضعت البقرة في مزرعة الرجل لمدة ثلاثة أو أربعة أيام؟. هل لتأكل نوعا معينا من العشب؟. ألم يكن ممكنا المجيء بالعشب إليها عندهم؟. خطر له أن يسأل أباه عن القضيتين، ولكن ما بدا من ضيق الأب من بطء الحمارة ونقص انقيادية البقرة وامتعاضه من تدني مستوى قدرة الإبن على المساعدة، إضافة إلى ما اعتاده من تبرم أبيه من أسئلته التي كان غالبا ما يرد عليهابالقول:” علاش تنشد؟. كل شيء تنشد عليه!. ما فيك من تقصقيص يا ولدي!!. حاجة ما ليكش فيها منفعة ما تنشدش عليها.”، لجم تساؤلاته.
في البيت، على قصعة الغداء، قال أبوه مخاطبا الأم والأخوين:
– الراجل قعد يلوم على التعطيل. قلت له جوني ضيوف.
ثم أضاف وهو يملأ الملعقة بالكسكسي والخضار تهيؤا لرفعها إلى فمه:
– خفت عمر يكذبني، لكن ستر ربي الي سكت وما فضحنيش!.
قالت الأم ناظرة إلى صغيرها، راشية إياه بابتسامة :
– كيف عاد؟!. عمر توا بدى يعرف آمتى يتكلم وآمتى يسكت، وما يخصاش بكلام الي أكبر منه. توا بدى يعرف الي الواحد مرات ما يقولش الحق!.
نعم، صار يعرف.
ولعدة أيام ظل يقلب الحادثة في ذهنه. فرح باكتشافه أن أباه قد خاف منه!. وفرح باكتشافه أنه قد أسدى خدمة لأبيه بصمته. ومن ناحية أخرى، أحس أنه تحرر من الحرج الذي كان يتحرك في نفسه حين لا يقول الحق.
لكن نقل البقرة، للبقاء أياما بمزرعة الرجل، ظل، لعدة سنوات، لغزا محيرا.
طرابلس. 26. 6. 2010