/ن أعمال التشكيلية امباركة زيدان.
قصة

بقرة العم مصباح

Embarka_Zidan_01

أخذتُ السيارة تطوى الطريق خلفها، حامُلة ثلة من الأبقار، سَاعد كثرةُ عددها على منع الانزلاق، فعادة ما ينتهي بكسر قدم إحداها، خَورت إحدى البقرات قائلة: عَجباً لبني… لبني… بني أدم، لا يُحسنون حتى نقلنا على عرباتهم، خورت أخرى فقالت: ما أطمعهم يذبحون الإناث؟ لماذا لا يمنحوننا فرصة بطنٍ أو اثنان؟ نحن لا نخاف الموت … الذبح … هكذا أوحي لنا ربنا … فيما أوحى … أن تكون ألباننا … و لحومنا طعاماُ لبني آدم … ألا يعرفون هذا؟ ألا يفقهون خِوارنا؟ … و نحن نلفظ رمقنا الأخير. … الإناث تقول: حمداً لله الذي سخر لبنيَّ و لحمي لبني آدم … و الثيران كذلك على لحِمها، خَور أحد الثيران فقال: أقلقة أنت؟ … بليَّ … لي قِصة لم أستكملها … خَورتُها كثيراً … أردتها أن لا تموت بموتي.

   استرسلت البقرة القلقة في خوارها فقالت: يأخذوننا إلى أماكن الذبح، تزكم رائحة الدم الأنوف، نُشاهد ذبحُ أبناء جنسنا، لا أحد من بني آدم يكترث لنا، ألا يعلمون أننا أصحاب فَضلٍ عليهم! … لبني آدم عادات كثيرة سيئة … و أخري حسنة … و هي قليلة، يتركوننا نرعى في شوارعهم … نهيم فيها … نقتات على فضلاتهم … كتلك الحيوانات التي تأكل روثها … لماذا؟ ألا يحق لنا العيش الكريم، نحن مخلوقات الله كما هم! لماذا يَضنُون علينا بالحياة الكريمة؟ نهيم في شوارعهم … تدوسنا عرباتهم، كالتي نحن على ظهرها، إنها من صناعتهم و ليست مخلوقة من مخلوقات لله كما كنا نظن! … حتى صناعاتهم لا يجيدون استخدامها! نمشي على الطرق السوداء، تنزلق الأقدام … تنكسر … منهم من يهتم، و منهم لا يهتم … إلا بذبحنا … إن أصابنا مكروه! لا يهمهم طيب لبننا و لحِمنا! …لماذا؟ أنه نتاج شربنا و أكلنا! لماذا يتركوننا نقتات على أوساخهم؟

خورت إحدى البقرات فقالت: أنت تُخوري خِواراً عجباً.

البقرة القلقة: هذا من بعض ما خورتنيه البُقيرة، استفدت منها الكثير، عَلِمت منها أن هذه الحياة التي نحياها ليست حياة الأبقار التي أرادها الله!

أحد الثيران: ما هذا الذي تتحدثين عنه؟ لا علم لنا بحياة أخري.

البقرة القلقة: نعم … خَورتني البُقيرة … أن أبقار ما وراء البحار تعيش عيشة الهناءِ و النعيم.

أحد الثيران: بحار … ما هي؟ هذا العمل ملك لجمال عبد القادر أمهلهل

أحد البقرات: هيا … بالله عليك خَورينا عن البُقيرة.

بقرة أخرى: هيا خَورينا عنها، ربما ينجوا أحدنا فيقصها على الآخرين.

البقرة القلقة: نعم هذا أمليَّ … حدث هذا معي كثيراً.

   ساد الصمت للحظات …. فخَورت البقرة القلقة خِواراً ذو شجون فقالت: أسمي البَقرَرَة، سأروى لكم قصة أنثي من إناث جنسنا، أسمها بُقيرة، تعرفت عليها صدفة، كانت تقيم في حديقة بيت جاور حديقتي، خورتني بالكثير … الكثير … عن أشياء لا نعرف عنها شيئاً، فليتذكر من … من سيتذكر … لعله ينجو ليخور لبنيَّ جنسنا عن سيرة حياة إحدى إناثه…أسمتها إحدى صديقاتها بُقيرة … كان لها أسم غريب… يصعب خِواره … استحسنت البُقيرة الاسم الجديد كثيراً. هذا العمل ملك لجمال عبد القادر أمهلهل

   عانت البُقيرة الكثير، لتعتاد نمط عيشنا، أخبرتني أنها كانت تعيش في مراعي خضراء شاسعة، تقتات الأبقار على أعشابها، و حين يحلُ الشتاء تُجمع الأبقار في أماكن مُغلقة … دافئة … و الطعام يأتي إليهن في سُهولة و يُسر، يُغسلون جلودهن – و يُطببونهن – و يُطيبونهن – و يُحافظون على نظافة المكان، فلا وجود للمخلوقات الصغيرة التي تضايق المؤخرات، كما كان أول حالها ها هنا، أحد صديقاتها عَلمتها كيف تحرك ذيلها لتطرد تلك المخلوقات، بذلت الكثير من الجهد حتى تمكنت من تحريكه … أضحت تهش و تنش به كافضل بقرة من بقرات هذه الديار! خورت البُقيرة لصديقتها: … لم أعلم فائدة لذيلي في ديار ما وراء البحر!

     لم تخبر البُقيرة حياتها كأنثى إلا في هذه الديار، أتعبها أول ثور تعرفت عليه، أخذ يُشاكسها … يُضايقها … يتبعها كظلها، لم تعرف ماذا يريد؟ خَورها عذب الخِوار، أرهقته كثيراً، لم يفقدُ رشده، كرر محاولاته، خَورها بالكثير من الكلم … الحِلو … الطيب … لازالت البُقيرة تستذكر هذا كأنه الأمس، أخذ يخَاورها … لا تخافي … تعالي ها هنا … إقتربي … نعم … نعم … لا تخافي … استأنست البقيرة خِواره، حسسها بالأمان، نال مراده، خَورتني البُقيرة بأنها لم تخبر هذا الفعل في حياتها، كادت تفقد رشدها، أسترسل خوار البُقيرة ليَّ هامساً: تلك كانت أول حياةٍ ليَّ كأنثى، يا لها من حياة، … عرفت فيها الفرق بين إناث البقر و ذكوره … هذه المعرفة مفقودة لأبقار ما وراء البحار! حياتهن لا طعم لها، يعشن في حياة كريمة – يعتنون بهن، إلا أن حياة الأنثى لا يعرفنها، إلا عندما يلدن، و لا يدرين كيف؟ هنا حياة أنثي البقر لها طعم آخر، مَنحت بطنان، خوير و خويرة، بقي الخوير معي نصف ربيع ثم أخذوه مني، الخويرة عاشت معي ربيعاً واحداً، لا أدري أين هما الآن؟ سئلت فيما سئلت من البقر، لم يفدني أحدُ بخبر.

   تنقلت فيما تنقلت إلى ديارٍ جلها خضراء، تعرفت على الكثير من الأبقار و الثيران، رُزقت بثوير، تنعمت بوجوده، أخذوه منيَّ و لم يستكمل ضرعي بعد، كنت لديَّ أحد من بني آدم، يتركنا نسرح كيفما نشاء، كان لا يهتم إلا بأكلنا و شربنا، كل يوم يختفي منا الكثير، يذهبون بهم على عربات، ذات يوم أراد بيعي لينعم أحدهم بلحمي، كانوا ثلاثة، مالكي، و الذي يريد لحمي، و شيخُ جَليل رأيت هالات النور تُحيطه، أختلف الاثنان عليَّ، تجادلا، ضننت أن عراكاً سينشب، تقدمت كلامات الشيخ لتنهي الأمر … انتهى الجدال … رأيت الشيخ يرمقني بنظراته … انقطعت دهشتي عندما تقدم مالكي ليأخذ بلجامي و يقدمني للشيخ الجليل.

   أخذني الشيخ لمسكنه، ليس ببعيد، لم يقيدني بشيء، لم يربط قدماي الأماميتان معاً كعادة أهل هذه الديار، تركني في مكان مُتسع، جَلب لي الماء – و العِشب … و ذهب إلى داخل منزله! أتي الشيخ بعد صلاة الفجر، أخذني أتمشي معه، لبعض الوقت، تركني في مرتعي بدون قيد، عند الضُحى … أتي الشيخ بالشراب … و العِشب … بدأ في غسل جلدي! و تنظيف مكاني! … ساعدته كثيراً ليتم عمله، أتي بلون أسود و ضعه حول عيناي! فرحت كثيراً لتلك المُعاملة الحَسنة، قبيل المغرب أتي الشيخ بصندوق صغير غريب … حسبته أكلة! … فجأة سَمعتُ صوتاً يَصدرُ من الصندوق … صوتاً ينطقُ بكلمات الخالق الباري … إني أعيها جيداً.

   ستة أيام، أحسن فيها الشيخ معاملتي … كان شيخي يُنظفني … و يُنظف مكاني كل يوم … يالله تذكرت تلك الأيام الخوالي التي عشتها في بلاد ما وراء البحر، ظننتهُ منهم، في اليوم السابع … عند الفجر باشر الشيخ حلبي، أدررت له الحليب كما لم أدرره في حياتي، أسررت في نفسي … لماذا تأخرت؟ أندهش مما منحتهُ من حليب، فاض إناءه حتى تتقاسمه مع جيرانه. هذا العمل ملك لجمال عبد القادر أمهلهل

   في أحد الأيام، عند شروق الشمس، سمعت هرج و مرج يأتي من منزل شيخ البُقيرة، آثرت الذهاب إليها، وجدتها حزينة قلقة … خورت ليَّ أن شيخها لم يأتي إليها هذا الفجر، قلت لها ربما يكون مريضاً … قالت حتى في مرضه لا يتركني … أنا قلقة على شيخي … أين أنت يا شيخي؟ … كثرت خطي بني أدم على بيت الشيخ، الكثير يدخلون … و القليل … يخرجون … عملتُ الكثير للبُقيرة لأهدى جزعها …

   عند الضحى أتى خمسة من بني آدم، أخذوا ينظرون إلى البُقيرة، أخذوا يتجادلون، كاد أحدهم أن يُضرب، حَسم أحدهم جدالهم بدخوله المنزل، خرج و في يده سكيناً كبيراً، أجمعوا أمرهم على ذبح البُقيرة، نظرت البُقيرة إليهم باكتراث … توسدت البُقيرة الأرض، ناظرةُ شَطر علياء خالقها … أندهش الجميع لفعل البُقيرة … لم يوثقوها … أسرع حاملُ السكين و ذبحها!

     ذبحوها أمامي، لم يكترثوا لحضوري، عجباً لأبناء آدم منهم القساة، و منهم من يتقاطر الحنان قطراً من عيناه، و منهم من هم بين هذا و ذاك، سَمِعتها تُخَورني … إني أحمد الله يا بَقرَرَة … أحمده على أن سَخرَ لبنيَّ – و لحميَّ لبني آدم … سَيستمتعون بلحميَّ … كما استمتعوا بلبنيَّ … باسم الله شربوا لبنيَّ … و باسم الله سيأكلون لحميَّ، في لحظات رمقها الأخير … فتحت عيناها … أدمعت … خَورت ليَّ قائلة: إنها دمعة وحشة الفراق يا بَقرَرَة … سمعتُ البُقيرة تخور هامسة: ها قد أتي شيخيَّ … تقدم ياشيخيَّ … لبنيَّ لك … أشرب … أشرب هنيئاً مريئاً … كانت تلك آخر كلماتها … أدركت جازمة بأن البُقيرة ترى شيخها قادماً يحمل إناءه.

شحات: 2/11/2013م

مقالات ذات علاقة

ريحانة والشباك

المشرف العام

قشور الكاكاوية

عزة المقهور

الـزنـزانـات ..

فهيمة الشريف

5 تعليقات

د. مجدي يوسف 11 ديسمبر, 2015 at 12:54

قصة رهيبة تدل على موهبة ايها الكاتب الفذ ـ مع تحيات الدكتور مجدي يوسف

رد
نجاد الاسييوري كاتب وباحث في مجال القصة 28 ديسمبر, 2015 at 00:58

قصة اكثر من رائعة فيها خيال معرفي وانطباع غير مسبوق بنظير فعلا انت رائع ايها الكاتب

رد
رنا السمرائي 29 ديسمبر, 2015 at 22:45

دكتورنا الفذ المتالق
في البداية اشكرك علي هذه القصة الاكثر من رائعة والتي تدل علي الموهبة الكبيرة
الرجاء القيام بنشر مثل هذه القصص المعبرة في الصحافة حتى تصل الي اكبر عدد ممكن
تحياتي الرجاء ان ترسل لي بعض المسودات لقصصك الرائعة التي تطرب الفؤاد علي ايميلي المرفق
لك خالص الشكر

رد
مجتم الباروني 18 سبتمبر, 2020 at 19:39

منتهى الابداع…تحياتي للكاتب

رد
المشرف العام 19 سبتمبر, 2020 at 07:46

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق