محمد دربي
جلست تنظر من الشباك كأنها نجمة ترنو لخفقة برقٍ، شابةٌ في عمر الورد، تجلس حالمةً بالخلد، أسمتها المدينة ريحانة.. تدنو من الشباك أكثر وفي لجة الليل يسقط المطر بينما قمرٌ يختفي طريداً من الغيم يَمّمَ عاصفاً نحو عترة السحائب وطقوس الحسرات.
من وراء الزجاج ينقر المطر وجنتيها، تستمع لصدى المدينة، تسمع في القطر دقات الثواني وهي تهمس في همسٍ تغسل وجنتيها.. جلست تحلم في عميق الصمت ببلدةٍ مزهرة، تغتسل بماء الورد، تخشى أن يستمر القصف ينثر ماء الحزن، تخشى من اِنكسار قلب كل صبية من بعد القصف فوق جسد بقايا المدينة.. تتجمع غيوم الانكسارات، يشجعها قطر المطر على الإبتسام ويرقص لها، يحوم الغيم فوق بيتها وتهفو قطرة مطرٍ وداداٍ تَبسَّم ثغرًها لها عند السحر.. طيور السليوة تتخذ لها مأوى في المراعي البعيدة وفي حنان عشبٍ يتشوق للشمس، ربما ستهاجر الطيور، ربما ستجردها القنابل من أجنحتها، ربما تجردها ربما من اجنحتها تجردها.. تهتز رخات المطر على شباكها، تتمسك بكبريائها، لم تخش القصف ساعة القصف، لم تهجر المدينة ساعة الهجر، لم يغير القصف من عنادها المزهري، لم تتخلى عنها شجيرات الرمان، يسامرها المطر وهو يرسم وجه الغيم.. تعرف أنّها لن تهجر المدينة، لن تنكسر، من الشباك تطل على المطر كنجمة بللها بحرٌ من حروف السحائب الظامئة، وتطل على الزقاق وعلى الليل كيف يمضي في سراه وكيف سيطلع فجره.
ليلةُ شتاءٍ غطاها الدجى القاني المنهمر من السماء، غطاها لعوباً فهطل المطر راقصاً بكل قوته، والرعد يزمجر في رعوده والبرق يشكع بضوئه الهليل، غمر المطر الأرض، سقى الزرع، الناس نيام، الأزقة مترعة بالماء خالية إلا من الماء وقناديل المطر وعيون ريحانة، في اليوم التالي كان المطر قد عاد إلى السماء سحائباً وغمائماً شريداً وكانت طيور السليوة قد عادت ترفرف بأجنحتها بجانب الشباك المفتوح تًشجّع ريحانة على الإبتسام وهي تدند دندة السّمار ومن حولها تتساقط القيود.