قصة

الـضَّـمـَّة

 

 

(1)

… في عِزّ القيلولة أفزعَتْه طرقات عنيفة على الباب..

– يا أستاذ حِلّ.. أفتح أفتح.. الله يفتح عليك.

قَفَزَ حافياً.. أحسَّ بلذَّة بَرْد البلاط فتمهَّل قليلاً.

– افتح يا أستاذ.. حِلّ.

أَدار المفتاح فدفعوا الباب في وجهه..

– خَيْر..؟ من اللي مات..؟

– أيّ مات..؟ فال الله ولا فالَك.. راقِد..؟! هذا وقت نَوم..؟ ما تْمَلّ م النَّوم كيف القطاطيس.

قال بشيء من العصبيّة:

– خَيْر.. أيش فيه..؟

– فيه كلّ خيْر.. يا سِيْدي قالوا آمر الْمنطقة يريد يمرّ علينا في العشيّة مرور الكِرام.. مستعجل.. الله يرحم اللي قَرّاك.. تَكْتِك له برقيّة تأييد.. يسمع خبَرْها اللي ما نظَرْها.. عَجِّلْ.. الراجل في الطريق.

(2)

… جلسوا على الصالون.. أحضروا منافِض السجائر.. دخَل أحدهم إلى المطبخ لإعداد الشاي..

– يا أستاذ.. أنت اهتمّ بالبَرقيّة بَسّ.. وَيْن السّكّر..؟

(3)

… دخل حُجْرته.. جَلَسَ أمام شاشة الحاسوب.. اتّكأ بمرفقَيْه على حافة الطاولة.. وضع رأسه بين كفَّيْه.. أخذ يُمَرِّر أصابعه داخل شَعره وهو يتأمَّل لوحة المفاتيح.. ويُحاول أن يعرف الفَرْق بين مرور الكِرام ومرور الجنرالات.. ثُمّ قال لنفسه:

– صيغة البَرقيّات تكاد تكون واحدة.. سأحاول أن أكتب شيئاً مختلِفاً.. فالبَرقيّة تظلّ نَصًّا على كلّ حال.

(4)

… في المساء اصطفَّ أهل القرية بِمُحاذاة الطريق ترقُّباً لآمر المنطقة.. كانوا ينظرون إلى ساعاتهم.. وإلى امتداد الطريق الذي تبتلع نهايتَه الغابة.. تطوَّع أحدهم لقراءة البَرقيّة.. كان ينظر إليها ويُتمتِم.. ثُمّ سَحَب أحد الواقفين بجانبه.. وأخذ يُجرِّب عليه نَبْرة الصَّوت التي سيستخدمها في قراءة البَرقيّة.

(5)

… اقتحمهم الرَّتل فجأة من طريقٍ فرعيٍّ آخر.. توقَّف.. أحدثت الإطارات صريراً حادًّا على الإسفلت.. لَوَّح الجنرال بيده.. وأمر الرَّتل بالتَّحرُّك..

– فيه برقيّة يا سَيّدي.

– بارَك الله فيكم.. أنا مستعجل.. هاتوا البَرقيّة نَقْراها في الطريق.

توارَى الرتّل في الْمُنعَطَف مُخَلِّفاً خيبة أمل كبيرة على الوجوه.. فالبَرقيّات الْمَقْروءة بصوت احتفالِي لها وَقْع خاصّ.

(6)

  … قُبَيْل الفجر أفزعَتْه طرقات عنيفة على الباب..

– أفتح يا حيوان..!

– خير..؟ أيش فيه..؟

جلس العساكر على الصالون بأحذيتهم.. قال النقيب – وهو  يضع عَصا الشَّرَف تحت إبطه -:

– أنت الحيوان اللي كتب البَرقيّة..؟ يا بهِيم.. فيه واحد يقول للجنرال: (أنت القمع الذي يَجْمَع شتات الأمّة).

– لا يا فندي.. والله فيه ضَمَّة على القاف.. القُمْع.. والقُمْع هو المحقن.

– أيش دَخَّل المحقن في الجنرال يا حمار..؟!

– يا فندي بدون المحقن يَحْدث إهدار للمُقَدَّرات.. مثلاً.. أنت لا تستطيع أن تسكب الماء في البرميل إلاّ عن طريق القُمْع – بضَمّ القاف – هذا اسمه في الفُصحى.. وكذلك الحليب في الشكوة.. وكل السوائل لا يُمكن أن تُسكَب في الأواني الضيّقة إلاّ عن طريق القُمْع – بضَمّ القاف – نقسم لَك بالله فيه ضَمّة.. حَتّى الْمَحْشي – يا فندي – لا يدخل المصارين إلاّ عن طريق القُمْع.. شفت أهميّة القُمْع..؟!

– أيّ مَحْشي وأيّ مصارين..؟ تضحك علَيّ..؟

– لا يا فندي هذا تشبيه.. هَذي بلاغة..

– تَوّا نوَرِّيك البلاغة.. أَطرحوه.

طرحوه على البلاط.. فكُّوا أحزمتهم.. استعملوا أعقاب بنادقهم.. وأحذيتهم.. وعلى الرغم من زَحْمة الأدوات.. إلاّ أنَّ عصا الشَّرَف وَجَدَتْ لها مكاناً أيضاً..!

(7)

…في غُرفة العناية الْمُركَّزة قالت له الْمُمرِّضة:

– نفتح لَك الرَّوْشَن يا أستاذ..؟

صَرَخ بفزَع:

– لا..لا .. بلاش الفَتْح.. ضمِّي.. ضمِّي الرَّوْشَن والبطاطين والفراش.. ضمِّي كلّ شي.

تكوَّر على نفسه.. ضَمَّ رُكبتَيه إلى صدره.. ضَمَّ كَفَّيه إلى بعضهما.. وأخذ يَهْذي:

– ضمُّوا.. ضمُّوا كلّ شي.. ضمُّوا.. ضمُّوا.. ضمُّوا..

***

(2006)

مقالات ذات علاقة

من القرية الى المدينة (2)

المشرف العام

القرابين لا تعود.. وإن عادت ففي داخل توابيت نصف مقّفلة

المشرف العام

أبجدُ جيلٍ فجيلٍ

محمد دربي

اترك تعليق