لا أذِنتْ
الربع الأول:
دخل البياصة الحمراء المفضية إلى سوق الخضرة المفتوحة على سوق الظلام، شاب فارع الطول، وسيمٌ تعشقه حسان المدينة وينابيع الكروم.. يأكله الجوع، رمقها جالسةً تحت وارف ظلٍ سخي، طرفها كحيل يحاكي الليل، صبيةٌ تبيع ” الفلافل الحار”، صبيةٌ، تجلس مزهوة المحيا، فيها حسنٌ وجمالٌ وحياء.. ونسيم رهيف ينساب من دفء عينيها النجدية، صبيةٌ أرق من نسيم هواء الصباح، عينان بديعتان، عينان طافيتان بالسحر والعطر، توقف عن المشي قليلاً ثم اقترب منها، حيّاها مبتسماً، حيّته بابتسامة حيية، بصوت هامس، ابتسامةٌ تشي بالفرح، اختلج قلبه بعنف، اقترب حتى أعشته شرارة سحر من عينيها، وأدركت أنْ البياصة الحمراء قد آن لها أن تنثر الشذى المعطر، وآن للمقهى أن يستعير من القمر ضوء الشمس رهناً بالإشارة في صولة الرياح قد آوت على جدران البياصة.
الربع الثاني:
أحسّ بشعلةٍ تضيء صدره، ألقى خلسة بصمته للظل ولنسيم عينيها، سألها: بكم تبيعين الفلافل؟ قالت بعد أن مزقت عباءة الصمت: أربعةُ فليفلات بقرشين.. حينذاك، بلا تردد طلب ثمانية من حبات الفلافل الحار، أعطاها خمسةَ قروش مصرورة في منديل صغير، أخذ الفلافل، تسلل إلى الخلف، ثمّ دار وطفق يعدو مثل غزالٍ بري، مرق كالسهم إلى سوق الخضرة، وقفت وهي تعدو خلفه، تصيح: نقودك يا هذا، فلوسك، باقي الفلوس، اختفى بلعته الأرض، تلاشى كطيف قطرٍ في بيداء محرقةٍ، تلاشى في غفلة منها، توقفت مذهولةً، رجعت واثقة ُ الخطو إلى مجلسها المعتاد، توقفت مذهولة، الصحن تلاشى ايضاً، ذُهلت وفزعت، قالت برقة: سأجيئ بصحن غيره.
الربع الثالث:
دارت حول نفسها مرة أخرى ، اختفى الصحن ، تيقنتِ إنّه راح ، نزل المطر على غير ميعاد ، نزل يتناثر فوق كتفيها ، أحست بشيء في يدها ، تحسست منديلا فيه عبق ماء الزهرً ، توقفتِ عن البحث ، فتحت المنديل ، قرأت كلماتٍ تفر من بين مزاهر المنديل : أيتها الوردة الندية ، يا فراشة جميلة تحتمي من المطر، أنا قاربٌ أحنو إلى موج بحرك ، يا نسمة ” أرق من طبع النسيم فهل خلعتِ عليه بُردك ” ، يا خوف فؤادي من رائحة الورد ، يا خوف فؤادي من رفيف عينيك ، لقد تركتُ الصحن مع سي ميلود صاحب المقهى الذي على يمينكِ ، التفتت إلى اليمين ، أبصرته يلوح لها بالصحن ، دنتْ منه ، أخذت الصحن ، عادت قافلة إلى بيتها تشعر كما لو أنّها كانت في حلمٍ جميل يطوف بها بين سحابات ستائر تستحمُ بالشذى، سحاباتٌ يقرأ الضوء فيها في جنبات البياصة طيبة الروح:” تمرّ قفزَ غزالٍ بين الرصيف وبيني ×× وما نصبت شِباكي ولا أذنت لعيني”..