المقالة

المحررون . من يحررهم

   الذين يزعمون معرفتهم الكاملة التي لا يعتورها نقص أو يطالها خطأ  بالحقيقة ويزعمون حيازتها وامتلاكها , هم أكثر الناس جهلا بالحقيقة , والذين يدعون صدورهم فيما يقولون ويفعلون عن الحقيقة هم أبعدهم عنها , ذلك أن الحقيقة ليست معطى منجز ومحدد المعالم , مما قد يبرر ادعاء الإحاطة بها أو حيازتها والاستحواذ عليها وامتلاكها , بل هي بالأحرى موضوع اكتشاف وتعرف وإبداع , كما أنها ليست فكرة مجانية .. تبريرية أو تعويضية .. الأمر الذي يجعل منها صنوا للوهم , ويشرع سبل توظيفها كذريعة ومبررا لما يضادها من شهوات وأهواء , بل هي قيمة إنسانية سامية تكمل قيم .. الحياة والحرية والمساواة والعدالة والفضيلة والمحبة …. إلخ .. وتكتمل بها , وشأنها شأن تلك القيم أيضا , تغدو وهما بل تنقلب على ذاتها وتتحول إلى نقيض لها , إذا ما سلخت عنها , أو إذا ما تم النظر اليها والتعاطي معها بمعزل عن منظومة القيم تلك .

    فمثلما تنقلب الحرية إلى استعباد في حال لم تقترن بالمساواة والعدالة , ومثلما لا تستوي الحياة حين تفصم عن الحرية , كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الحقيقة , التي هي بوصلة تري الإنسان الحد الفاصل بين المباديء والقيم السامية التي تسموا به وتمنح وجوده المعنى وتضفي عليه القيمة وبين المزاعم الوهمية التي تتهافت به وتفسد معنى وجوده وتسلبه قيمته , تكف الحقيقة عن كونها كذلك , تنقلب أو بالأحرى .. تقلب , برفع التاء .. على نفسها وتغدو وهما يبرر الاستعباد واللامساواة والموت بالحياة .

   ولعله يحسن عند هذه النقطة الإقرار بأن ما قيل ويقال هنا لا يجيء عن زعم بمعرفة .. لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .. بالحقيقة ولا بحيازتها أو امتلاكها  , بل هو لا يجاوز كونه وجهة نظر في شاغل راهن يمسنا جميعا , وموقف مما يطفو حولنا من لغط أجوف ومن مماحكات قوامها ادعاءات وهمية ومزاعم خرقاء تثير .. إضافة إلى ما تدعو إليه من شفقة بمن يتشبثون بها وسخرية منهم .. الضيق والإمتعاض مما أردونا ويردوننا فيه من ضحالة واسفاف وضيق أفق في النظر إلى واقعنا والتعاطي معه , وعلى مستويات الفكر والقول والسلوك جميعا .

والواقع أنه ليس أكثر من مدعي معرفة الحقيقة دون غيرهم وزاعمي قبضهم على أعنتها , غير أولئك الذين يلتقون معهم على ذات السبيل ويسيرون بمعيتهم إلى نفس الهدف , وأعني بهم الزاعمين أنهم وجدوا في هذا العالم ليكونوا محررين , المصرين في كل ما يصدر عنهم على تأكيد زعمهم أنهم حرروا ويحررون الناس مما يكبلهم ويضيق على أنفاسهم ويفسد حياتهم , غير منتبهين إلى عبث ولا معنى ما يجشمون أنفسهم عناء إثباته , بقدر مالا ينتبه الذين يحملون مزاعمهم على محمل الجد وينتظرون أن يحرروهم حقا , وما من شيء وراء مزاعم الموهومة وآمال هؤلاء الواهمة غير الجهل بما تعنيه الحرية , التي هي قيمة سامية لا تمنح من أحد لأحد , بل يحتاج الإنسان ليصل إليها إلى أن يكتشفها ويعرفها ويحققها في واقعه المعاش الذاتي والموضوعي .

  لا معنى للحرية إلا كفعل تحرر متواصل يمارسه الإنسان في كل أحواله , ولا تحقق لها بمزاعم تحرير يوهمه بها أي كان , يرصفه على قارعة الطريق إلى جوار استراغون وفلاديمير اللذين ينتظران .. غودو الذي لا يعرفه أحد , والذي لا يجيء , وتلك مزاعم لا  أساس لها .. للحق .. من عقل ولا من إيمان , وللحق أيضا فان الإنسان ليتحرر لا يحتاج إلى غير نفسه , ولغير أن يجاهد رقعة الزمن المتاحة له في هذا العالم للتخلص من مساويء تربيته بدأا من مهده وحتى لحظته الراهنة , ومما تلقاه ولقنه .. برفع اللام .. من معارف مشوشة ومغلوطة , ومن أي مصدر كانت البيت والأسرة وباقي بيئاته المتباينة والمتداخلة التي عاش ويعيش فيها , بمختلف مؤثراتها وما تعج به من متواترات وموروثات وما يزحمها من لغط وإسفاف إعلاميين ودعاوى ودعايات أيديولوجية متهافتة .

  وإذا ماكانت بالإنسان حاجة إلى ما يرفده ويقدم له عونا مجديا في تطرقه هذا , فليس حاجته لغير خطاب إبداعي يجسد جهدا تحرريا صاغه مبدع ما وجسده في .. قصة أو رواية أو قصيدة أومسرحية أو نغم موسيقي أو لوحة تشكيلية .. ذلك أن الإبداع وحده الإمكانية الوحيدة المتاحة لإنارة طريق التحرر أمام الإنسان وتسديد خطوه فيه , كما أن المبدع وحده المؤهل والقادر على تحقيق ذلك التنوير , وتسليطه على سبيل التحرر من الأوهام والقيود الداخلية والخارجية , سبيل الحياة ذات المعنى والقيمة والجدوى .

  إن قصة أو قصيدة أو لوحة تشكيلية كفيلة بإذابة أثقال من السواد والعتم الأيديولوجي الذي يكبل الإنسان ويصيبه بالعمى والكساح , والإبداع يعلمنا فوق ذلك أنه لا معنى للحرية إلا من حيث هي تحرر دينامي ومتواصل لتحقيق الحرية ومنظومة القيم السامية التي تنتمي إليها في الواقع المعاش , وأن التحرر في بعض من معانيه إبداع يسلط أنواره على الواقع مباشرة ويتيح للانسان قدرة التمييز بين ماله معنى وقيمة وبين ما يفتقر إليهما , بين الزبد وما ينفع الناس , ويتيح لنا التحرر من عقم الأيديولوجيات الصدئة التي لا تتوقف عن ترويج المزاعم الزائفة التي لا رابط يربطها بالحقيقة أو الحرية , ولا بأي مبدأ حقيقي أو قيمة سامية .

مقالات ذات علاقة

قـامـوس أمـنـا الـمـرأة

المشرف العام

نَظَريَّة الإتزانيّة

علي بوخريص

الصادقُ النيهوم في الأسر!

أحمد الفيتوري

اترك تعليق