من وجهة نظر الفيزياء، الكون يخلو من “الفراغ”. فلا فراغ في الكون باستثناء ما يعرف بـ “الثقوب السوداء” التي هي ظاهرة متميزة ولها وضع خاص. كل الكون “ملاء”. وما نشاهده حولنا من “فضاء” ونتصوره بحسنا العام فراغا، ممتليءٌ بمادة غير منظورة تشغل حيزا، هي الهواء المتكون من عدة غازات تختلف في وزنها وكثافتها وتحتل حيز الفضاء وفقا لثقلها. وعلى هذا، فالكون متخم بالمادة. لكن هذا المقال لا يتعامل مع الفراغ من وجهة نظر الفيزياء، وإنما من وجهة نظر “الحس العام”.
الفراغ، بهذا المعنى، عنصر مهم في الكون وهو مجال حيوي تجري فيه نشاطات الإنسان العملية جميعها وتتحقق إنجازاته. في مذهب الزن البوذي ثمة تدريب ذهني تُلقى فيه في حلقات التأمل أسئلة لا إجابات لها، هي فقط محفزات على التأمل الذي يمثل نشاطا أساسيا في البوذية، هذه الأسئلة تسمى في اليابانية “كُوان”، من ضمنها سؤال يقول: هل الحركة في الخطوة أم في الطريق؟!.
ليس همنا هنا الإجابة على هذا السؤال. لكن يمكن القول أن الفراغ يمثل “رحم الحركة”. فلا حركة ممكنة بدون وجود هذا الرحم. والفراغ أيضا “رحم الكتلة” فلا يمكن للكتلة أن توجد إلا في فراغ. لذا هو كذلك رحم الفنون التشكيلية المتمثلة في الرسم والنحت والعمارة. فما العمارة إلا أسْرٌ للفراغ واعتقالٌ له داخل حيز.
أولت الديانة البوذية، بمختلف مذاهبها، عناية كبرى بالفراغ الذي تقلب فيها بين مفاهيم وتلوينات متباينة واتخذ أبعادا ميتافيزيقية. حيث “الفراغ هو إدراك للغياب الكامل لأي وجود متأصل وهوية ذاتية في كل الظواهر” (1). كما يتم الربط بين الفراغ والتألق الداخلي (1).وكذلك فعلت الديانة (أو بالأحرى الفلسفة) الطاوية في الصين، حيث يمثل الفراغ عنصرا يمكِّن الأشياء من تأدية وظائفها ويجعلها مفيدة للإنسان. فالفراغ هو الذي يحدد، مثلما يقول المؤسس لاو تسو “فائدة العجلة يُجْبل الطين ويتخذ من القوالب شكل آنية.. ثم على هذا الشيء الذي هو في نفس الآن لا شيء، الفراغ الذي في داخل الآنية، تعتمد فائدة الآنية.
وعن طريق قطع النوافذ والأبواب نشيِّد بيتاً ولكن على الفضاء في الداخل، هذا الشيء اللاشيء، تعتمد منفعة الدار وتقوم الدار” (2).
__________________________
الهوامش:
1- http://www.maaber.org/issue_may15/spiritual_traditions1.htm
2- أبكار السقاف، الدين في الهند والصين وإيران، آفاقن القاهرة، 2018، ص 151