د.إبراهيم اغنيوة
كثيرا ما يكتب الناس عن الشخصيات المهمة بعد رحيلها عن هذه الدنيا، ويتنافس الكتاب بعد رحيل شخصية ما على كتابة المراثي والقصائد والمدائح للشخصية الراحلة، وبالطبع لن تسمع تلك الشخصية مديحهم ولا مراثيهم ولا بكاءهم ولن تتمتع بالكلمات الطيبة الجميلة التي يملأون بها الصفحات والقنوات والاذاعات بعد الرحيل، والمثل الليبي يقول: “عندما كان حيّا، كان يتمنى أن يُعطى ابلحه واحدة، وبعد أن مات وضعوا على قبره عرجونا كاملا!!”.
أما أنا فقد أخترت الكتابة عن شخصية “حيّة”، مهمة جداً بالنسبة لي شخصيا ـ كصديق عزيز عليّ جداً ـ، وفي نفس الوقت شخصية مهمة في تاريخ الوطن، وأريد أن تقرأ الآن ـ في حياتها، أطال الله في عمرها ـ، وتستمتع بكلامنا الجميل عنها وشكرها والاعتراف لها بفضلها ونضالها وتضحياتها الكثيرة ـ دون كلل أو ملل أو تبرّم ـ لسنوات وسنوات.
اريد أن أتحدث عن “الأستاذ نوري الماقني”، رجل مناضل، ناضل طيلة حياته ـ حفظه الله وأطال في عمره ـ، وشخص له اهتمامات وهوايات ونشاطات كثيرة تجعل من الصعب اعطاءه صفة معينة، فهو شخصية مفكرة جامعة ـ بمعنى دار معارف ـ، حتى أننا نستطيع أن نطلق عليه “الرجل الجامِع” وأعني كل معاني هذه الكلمة (يجمع معارف كثيرة، ويجمع الناس حول لأداء عمل ما، ويجمع حب الفن وحب الأدب والفكر وحب الناس، ويجمع بين الهدوء العجيب ـ عموما ـ والتمرد والثورة عندما يحتاج الأمر لذلك ـ دون خوف أو جزع أو تردد ـ، والجامِع : الشامل الملمّ، وكلامه جامِع أي قلّت ألفاظه وكثرت معانيه).
لقد كان نوري الماقني من قيادات الحركة الطلابية في السبعينات (بجامعة طرابلس أولا، ثم بجامعة بنغازي بعد انتقاله إليها)، ووصل الأمر بقوة معارضته للسلطة آنذاك إن طلب العقيد القذافي مقابلته، وقابله فعلا وحاوره لسماع رأيه الشخصي في ما يجري في البلد آنذاك، وشرح مطالب الطلاب من خلال ذلك، وقد كان الطلاب آنذاك يناضلون من أجل استقلالية الجامعة وحرية الراي والفكر ومدنية الحكم وعودة العسكريين لثكناتهم.
كما كان نوري الماقني ضمن وفود أرسلها الطلاب للحوار مع القذافي وأعضاء مجلس قيادة الثورة في منتصف السبعينات لشرح مطالب الطلاب ومحاولة تجنب الصدامات الدموية التي حدثت بعد ذلك بفعل تعنت السلطة ورفضها تحقيق مطالب الطلاب. وقد كنت معه في وفد ضم إلى جانب بعض الطلاب بعض اعضاء هيئة التدريس ـ أذكر منهم الدكتور عبدالمولى البغدادي والدكتور يوسف المهرك ـ لشرح مطالب الطلاب ابان احداث التدريب العسكري (1974م و1975م)، والتقينا في ساعة متأخرة من الليل مع محمد احمد الشريف وزير التربية والتعليم آنذاك في مكتبه وسط طرابلس، ثم ذهبنا (وفدنا مُضاف إليه الوزير) والتقينا بأعضاء مجلس قيادة الثورة (عوض حمزة وبشير هوادي) وبعض الضباط الاحرار، وبعد نقاش طويل عدنا الى الجامعة دون أن نلتقي بالقذافي تلك الليلة.
وقد كان نوري الماقني ناشطا فعالا في سبيل تأسيس الاتحاد العام لطلبة ليبيا الذي كان نظام القذافي يرفض أن يكون اتحادا واحدا يشمل الثانويات والجامعة، وكان يريد تقسيمه إلى اتحادين واحد للثانويات وواحد للجامعات، وذلك للسيطرة عليه بحكم سهولة تحكمه في قيادات الثانويات المتوزعة على رقعة واسعة من البلاد. كما كان نوري الماقني في ذلك ناشطا على مستوى العالم حيث سافر الى الخارج لتكوين وحدات الاتحاد في الخارج ـ وقد التقيت به أثناء وجوده في لندن لأداء هذه المهمة سنة 1975م ـ.
ويعتبر نوري الماقني من قيادات انتفاضة الطلاب سنة 1976م، التي يعتبرها النواة الأساسية لثورة 17 فبراير، حيث يقول في لقاء لبوابة الوسط معه (7 ابريل 2014م): “انتفاضة 1976 التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم 7 أبريل هي واحدة من أهم المحطات النضالية في ليبيا، وهي ليست كذلك لأننا ضمن قاداتها، بل لأنها أول انتفاضة واسعة وشعبية ضمت كل مناطق ليبيا وكل القوى الوطنية من مختلف فئاتها السياسية، لذا فهي النواة الأساسية لثورة 17 فبراير.”.
ويقول نوري الماقني في نفس اللقاء “كانت ـ انتفاضة الطلاب سنة 1976م ـ امتدادًا للتاريخ النضالي الليبي بدءًا من الإرهاصات الأولى مقابل العهد الملكي، وشكّلت جسرًا لما بعد 1976، كانت الجامعة في تلك اللحظة هي الملاذ الأخير لمواجهة هذا النظام المستبد قبل ضرب القوى الطلابية في 1975 و1976 سبقها ضرب القوى الثقافية والسياسة فيما عرف بالثورة الثقافية، وكان النظام في ذلك الوقت يريد أن يحدث خلخلة كبيرة في بيئة المجتمع الليبي من أجل التأسيس لمريديه ودولته، واستطاع أن يعتقل بعض الفئات ويسجنها فكانت نظرة الشرفاء والمناضلين للساحة الطلابية باعتبارها الملاذ الأخير للتوافق وضرب هذا النظام وكانت انتفاضة مجيدة ولكن تصدى لها بقمع وشراسة رهيبة.”.
ولم يكن نوري الماقني ناشطا نقابيا سياسيا فقط، بل كان مثقفا يكتب في الصحف الطلابية ويؤسسها ويعتبرها من اهم دعامات الحركة الطلابية من أجل توعية الطلاب واعلامهم وتوعية العاملين والموظفين وهيئة التدريس بالجامعة والمواطنين عموما بمطالب الطلاب والوقوف الى جانبها. وكان محبا للفن والثقافة عموما ويعتبرها جزءا مهما في حركة النضال الطلابي. وقد تعرض نوري الماقني بفعل نشاطه السياسي والنقابي والثقافي للسجن والملاحقة، فقد سجن كطالب ابان انتفاضة الطلاب سنة 1976م، وسجن ـ كمثقف وناشط سياسي ـ، ولم يفرج عنه الا سنة 1988م.
واستمر نوري الماقني مناضلا بعد خروجه من السجن، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان نوري الماقني من أوائل الموقعين على بيان صدر قبل ثورة 17 فبراير 2011م (سنة 2009)، جاء فيه: “فليرفع إذن عن الكلام الحصار، ولتكف الملاحقات التي تعلن وتطالبنا: أنْ كفوا عن التنفس وألزموا الصمت. وإنْ كان لسلم الصدقية أن يرتقى فأول درجاته هو استيداع مؤسسات القمع والترهيب: (نيابة الصحافة، رابطة الصحفيين، ورابطة الأدباء والكتاب) المدججة بالكمامات واللُجُم متحفَ التاريخ”.
ولنوري الماقني اهتمامات كثيرة غير السياسة والنشاط النقابي والحركي، فله اهتمامات ثقافية وفكرية، وقد تنوعت قراءاته من التاريخ الى الأدب والفكر الى السياسة الى الفلسفة الى الصحافة والاعلام، وارتقى بكتاباته الى التفكير والمساهمة في التنوير وفتح المجال واسعا للمثقفين الليبيين كلما تحمل مسئولية ثقافية ـ رئاسة تحرير مجلة “رؤى” مثلا ـ ليعبروا عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم دون خطوط حمراء ورقابة. فهو مفكر حرّ وليس له أي حساسيات تجاه الأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فتح الأبواب واسعة في الصحف والمجلات والندوات والمحاضرات لصراع الأفكار سلميا ـ كمسئول في مركز دعم الثقافة وكرئيس للجنة التأسيسية لإتحاد الأدباء والكتاب الليبيين مثلا ـ . وهو مع اهتماماته الكثيرة وظروف الحياة الاجتماعية اليومية، عندما تقرأ له تجد نفسك تعجب بقدرته على ايجاد الوقت الكافي لقراءة واستيعاب الكتب التاريخية والفكرية والفلسفية المعقدة التي يوجزها لنا ويبسّطها لنقرأها في بعض كتاباته الغنية بالفكر الحداثي وما بعده.
ونوري الماقني ليس كاتبا فقط، بل هو ناقد يقرأ بتمعن ويمارس النقد بمعرفة دقيقة لمعنى النقد وللمادة التي يكتب عنها. ولقد شارك نوري الماقني وألقى محاضرة في ندوة عن نقد الكتابة التاريخية أقامها بيت درنة الثقافي (ابريل 2010م) وذكر بعض ما جاء فيها الأستاذ أمين مازن في صفحته “علامات”. يقول نوري الماقني في محاضرته : “إن خوفنا من تقويض الصورة المطمئنة لهوية تتطابق مع ذات، تجاهد كي لا يستبان سواها، هو ما يحدد إستراتيجية تقصينا لها في أصل جعلت منه إرادة المعرفة مستودعا لحقيقة صافية وثابتة لم تشوهها العوارض الطارئة. وهو ما يحفزنا على محاصرة الإمكان وينفرنا من التفكير في الاختلاف، كي لا نُباغت بما يتعارض مع “ما قد تم وكان” الغافي في دلالته المرتقبة هربا من تأويل يوقظنا من سباتنا ويقذف بنا في جحيم المجهول”.
وعندما ينتقد البعض ما جاء في محاضرته يرد نوري الماقني بهدوءه المعروف: “قيل أن ورقتي وورقة الزملاء المحاضرين وقعت تحت تسلط الاستلاب لفكر الآخر، لكن مدخلي للمعرفة هو البحث عن أدوات، وهذه الأدوات وببساطة موجودة لدى الآخر، ولا توجد لدي أية حساسية في التعاطي معها”.
وختاماً، إذا كان “واجب الكاتب الحقيقي أن يكتب جيدا، وذلك هو التزامه” ـ ماركيز ـ، كما جاء في مقالة نوري الماقني “البنية المهددة وغواية الرواية” التي نشرتها مجلة “رؤى” التي يترأس تحريرها، في عددها السادس ـ سبتمبر 2013م ـ، فإن هذا الكلام الجميل ينطبق عليه تماما، فقد كان نوري الماقني دائما، يكتب جيدا، وذلك هو التزامه.
__________
نشر بموقع ليبيا المستقبل