العرب – الهروب من الحرب بالنسبة لدبلوماسي أو صحفي أو سائح يختصر في العودة إلى الديار الآمنة، ومحاولة نسيان ما جرى، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمصورة الصحفية لي (الممثلة كاثرين كينير) في فيلم “قصة حرب” لمارك جاكسون. “لي” خارجة لتوّها من صراعات ليبيا بجراح غائرة وهلع مرير، وضلع مكسور، لا تلبث أن تكرر النظر إلى آثاره على ظهرها، فيما مشهد قتل صديقها “مارك” على يد الخاطفين ما زال يتراءى لها، حتى أننا نذهب بعيدا في اتجاه أنه أكثر من زميل، رغم أنه لا يظهر في مســار القصة الفيلمية بشكل مباشر. قلنا إن الأمر ليس كذلك بالنسبة إليها، فهي تغيّر بوصلة مسارها عن العودة إلى بيتها في الولايات المتحدة وتذهب إلى صقلية، تستقر في فندق سبق وأن سكنت فيه يوما ما.. ومع هذا التحوّل تتغلغل الحرب في كائن ظلت مآسي الحرب تحف به، تمتنع عن الردّ على أصدقائها، تترك هاتفها يرن، وحتى وإن ردّت فإنها تحاول التقاط الكلمات من هنا وهناك. إنها باختصار تريد استعادة أنفاسها ولملمة كينونتها المتشظية من جراء الحرب. لكن الأمر سيتمدّد عميقا فهي ترفض أن تأخذ صورة شعاعية للضلع المكسور فيها، وتناشد الطبيب أن يكتفي بإعطائها المسكنات لتنزوي في حجرتها في الفندق الصغير. لا تريد أحدا أن يدخل عالمها المؤقت، ونعيش معها بصبر أحاسيسها وقلقها وأصداء الحرب في قرارة نفسها، وذلك في سلسلة مشاهد مؤثرة وعميقة في تأثيرها النفسي، وهو ما تجمع عليه مجلة “فيرايتي” و”هوليوود ريبورتر” من خلال تقييمهما للفيلم. تخرج فجأة لتخرجنا من تلك العزلة المفعمة بالقلق، هكذا تسير من دون هدف، تشاهد مجموعة محتجزة في سجن أو مركز لاجئين وهم يؤدون الصلاة جماعة، وتلتقط الصور لهم، لكن الشرطة ستلاحقها وتنتزع الصور منها.
التحوّل في كل شيء يقع ساعة التقائها بحفصية (الممثلة حفصية حرزي)، إنها الفتاة الليبية نفسها التي شهدت مقتل أخيها، وهي تحتفظ بصور للأخوين، وتحاول أن تشرح لها ذلك، بأنها تعرفها والتقت بها في ليبيا، ولكن من دون جدوى. لكن حفصية تخشاها وتهرب منها إلى حين، لنكتشف أن حفصية الهاربة من جحيم الأوطان والمضطربة تنشد أمرين: إسقاط الجنين الذي في أحشائها من معاشرة رجل ما، والسفر إلى فرنسا. يعمد المخرج إلى بناء تصويري مميز؛ الكاميرا المحمولة على الكتف تعكس اضطرابات “لي” وما هي فيه من شجن يلتقي عالما المرأتين، ضحيتي الحرب؛ حفصية فقدت شقيقها في المركب الذي تم تهريبهما على متنه، وتروي تفاصيل ما حدث حين كانت نائمة فاستيقظت على واقع موته ثم رميه في البحر. أما “لي” ففي ساعة بوح وشجن ودموع، روت ما جرى لصديقها ولها من خطف وترهيب، انتهى بقتل صديقها. المحنة المشتركة تدفع “لي” إلى مساعدة حفصية في الإجهاض وفي الهرب إلى فرنسا، بمجرد لقاء قصير مع صديق قديم كانت تربطه بها قصة حب (الممثل بن كنجسلي)، تخبره بما جرى وتستعير منه سيارته لتقوم بتهريب حفصية إلى فرنسا. الحرب إذن تلاحق كائناتها أينما حلت، وتبقيها تحت ضغط الجراحات والذكريات الغائرة، وهو ما مكّن المخرج مارك جاكسون من صنع قصة سينمائية متماسكة ورصينة، فلا تظهر مشاهد صراعات ولا قتل ولا دم، ولكنها تنعكس في كل حركة وسكنة من أفعال “لي”.
في المقابل يعمد المخرج إلى اختيار تلك البيئة الساكنة في صقلية، الكل تقريبا لا يفهم الأنكليزية عدا موظف الفندق، وهنالك الموظفات المتعجرفات المنفعلات بسبب ومن دون سبب، وهي غير معنية بذلك ولا يشكل استفزازا لها، لأن الأمر الفادح الذي هي فيه أكبر من ذلك، إنه كابوس الحرب الذي يطوّق وجودها. يعمد المخرج إلى بناء تصويري مميز؛ الكاميرا المحمولة على الكتف تعكس اضطرابات “لي” وما هي فيه من شجن، كذلك الإضاءة الخافتة غالبا في المشاهد الخاصة بها، وأيضا الخلفيات الضبابية والمشوشة في كثير من المشاهد. “لي” التي تمارس ما تؤمن به، حتى وهي تتسلل ليلا إلى مخزن الطعام في الفندق وتأخذ ما تشاء، وهي النزقة التي لا تطيق أحدا، سوى أن تعيش عزلتها وتراقب الكدمات على ظهرها، وآثار الضلع المكسور من جهة الظهر، وكأنها تحافظ على الشاهد الوحيد والمرير من أزمنة الحرب والقسوة.