المقالة

ميراثنا المسروق!

المهدي يوسف كاجيجي

دخلت الى طرابلس ولأول  مرة فى الخمسينات من القرن الماضى، قادما اليها طالبا آت من الجنوب. كانت وقتها مدينة إيطالية الطابع، وخاصة فى شوارعها، الاستقلال، و24 ديسمبر، وميدان الجزائر وما حوله. كنت اشعر بالخوف والغربة والرهبة، إلاّ فى شارع ميزران فقط، كنت استعيد الوطن عندما يقابلك سكانه بملابسهم الطرابلسية، بيوته ذات الطابع العربى بمشربياتها، حنفية السبيل التى تروى العطاشى من العابرين بمائها الزلال شديد البرودة، قوس البدوى، وسعاية الفقى حسن، شارع ماكينة (هايتي الان) والتناوش المستحب بينهما في المناسبات السعيدة: “شارعنا شارع ميزران واللى عنده ذراع يبان” فيرد عليهم “شارعنا شارع ماكينة واللى عنده ذراع يجينا”، جامع ميزران و”ركابته” المشهورة، ملتقى كبار الحومة، والحكماء، ومصدر الأخبار، ومن ساحته ودّع أهل طرابلس موتاهم الى مقبرة سيدى منيدر.

كبرت المدينة، وامتدت عشوائيا، وخرج سكان ميزران الى الأحياء الجديدة، ولكن كل من عشق المكان كان يعود اليه على الأقل لاداء صلاة الجمعة وليتواصل اللقاء. اجزم صادقا، بأن معظم زائري المكان لم يلاحظوا وجود اضرحة ومزارات دينية، لذا فقد صدمت عندما تناقلت الأخبار وصول مسلسل هدم الأضرحة والمساجد التاريخية الى جامع ميزران، وتداولت المواقع صورَ عملية الهدم، التي شملت أحد الأبواب الحديدية القديمة، بالواجهة الرئيسية، كانت تعتليه لوحات رخامية نادرة، تحمل آيات قرآنية وأبيات شعر محاطة بنقوش ونمنمات إسلامية. الغريب أنه كان من بين الحطام لوحة رخامية منقوش عليها شهادة لا اله الا الله محمد رسول الله.

مسلسل مشبوه

حتى هذه اللحظة، لا يعرف احد من هم وراء هذه الحملة الممنهجة لتدمير وهدم تراث شعب، توارثته اجيال متعاقبة، إذ لم يكشف لنا احد عن وجهه الكريم، وكل ما يتم تداوله عن المتشددين من السلفيين والوهابيين غير مؤكد، والاسباب عبارات مطاطة عن “ازالة الشرك وتطهير المساجد من القبور والسحر والضلالات”. مسلسل طويل بدأت أحداثة بعد الثورة، وانطلق فى كل مكان من ليبيا، تقوم به فرق تخريبية تاتى تحت جنح الظلام، حاملة الجرافات والمعاول مصحوبة باصوات التكبير  وتحت حماية السلاح، ودورها واحد هوتدمير ذاكرة شعب وسرقة تاريخه. وللتذكير على سبيل المثال لا الحصر، مسجد سيدى الشعاب الشهير بطرابلس المدفون سنة 243 هجرية الذى تم تدميره عن بكرة ابيه بواسطة الجرافات وامام جموع الشعب، حرق المكتبة التاريخية لمسجد سيدى عبدالسلام الأسمر الشهير، وهدم المسجد والضريح المقام منذ القرن العاشر من الهجرة، مسجد سيدى الأندلسي الشهير بمحلة تاجوراء وعمره اكثر من نصف قرن. أمّا فى الجبل الأخضر فقد امتد الخراب الى مساجد السيد عبدالواحد، والسيد عبد المطلب المحجوب، وتم احراق الزاوية الصوفية الدسوقية فى بنغازى، ومساجد احمد باشا، وشائب العين، ودرغوت باشا فى طرابلس وغيرها.

حتى الصحابة

من الجزيرة العربية عبروا الصحارى القاحلة، مبشرين بالتوحيد، حاملين راية الهدى والنور، الى ارض ليبيا، مجاهدين فى سبيل الله، فى كل مكان على ارض ليبيا، زويلة، طرابلس، البيضاء، بنغازى، أوجلة، غدامس، درنة فامتزجت دماؤهم الطاهرة بترابها، الذى لا زال يغرّد حتى الان “لقد مرّ صحابة رسول الله من هنا”، أضرحتهم تعاقبت عليها القرون، توارثتها الأجيال، فى درنة ولكن بعبوة ناسفة فجر المكان الذى كان يحتضن رفات طاهرة لاكثر من سبعين صحابيا منذ العام 68 هجريا. حتى مقابر زويلة، تلك التحفة الاثرية النادرة، اضرحة الصحابة الذين فتحوها فى عهد عمر بن العاص سنة 22 هجرية، المقابر السبعة لحكام زويلة من أسرة بنى خطاب، كل ذلك تم تدميره بالكامل… حتى الجنوب المنكوب، المهمش المعزول، لم يسلم من المخطط المشبوه الذى شمل عددا من المساجد القديمة، من أشهرها ضريح سيدى حامد الحضيرى، وضريح المجاهد احمد سيف النصر. والقائمة طويلة

الميراث المسروق

فى بحث قيم، للاستاذ يونس الهمالى بنينة، عن ضرورة انشاء الارشيف الرقمي الليبي، نشر على صفحات ليبيا المستقبل، يشير فيه الى تعرض المخطوطات والوثائق الليبية التاريخية عبر معظم الحقب والعصور لعملية نهب وحرق وتدمير مما حرم شعبنا من كنوز لا تقدر بثمن.

بعد الثورة، وخلال حالة “الفوضى الخلاقة” التى تعيشها ليبيا، نشطت عمليات السرقة بواسطة عصابات محترفة تدفع بعناصر محلية غبية، لا تعرف القيمة الحقيقية للمقتنيات التى تتم سرقتها، منذ الايام الاولى للانتفاضة، تناقلت الأخبار  سرقة ما اطلق عليه “كنز بنغازى” الذى تمت سرقته من احدى البنوك ويتكون من اكثر من ستة آلاف  قطعة اثرية نادرة تم نقلها الى الخارج.

يقول الباحث الليبى المتخصص فى علم الاثار، السيد فضل على الحاسى، فى مقابلة صحفية: “ان ما حدث من نهب وسرقة بالمساجد فى طرابلس دليل على ان التاريخ الليبى فى خطر” ويشير الى “قيام السلطات المالطية بضبط بعض المخطوطات الليبية الاثرية التى تمت سرقتها من المساجد وتهريبها لمالطا باعتبارها الأقرب الى ليبيا”. من جهة اخرى، يؤكد  تجار المخطوطات والوثائق التاريخية وخاصة الاسلامية، عن حركة نشاط ملحوظ  لعمليات بيع وشراء، خاصة فى دول الخليج العربى لمصاحف نادرة ومخطوطات ووثائق إسلامية، قادمة من ليبيا، اضافة الى تواجد  سماسرة فى مالطا لصالح زبائن اجانب يقومون بشراء هذا النوع من الوثائق.

انا هنا لا أتكلم عن كنوز ليبيا الموروثة عبر الحقب التاريخية المتلاحقة، لانها كبيرة جداً، بداية من حقبة ما قبل التاريخ، المسجلة على الجدران الصخرية المرسومة داخل هضبة تاسيلى، والتى اطلق عليها اعظم متحف فنى لما قبل التاريخ، مرورا بالحقب المتعاقبةً الإغريقية، الفنيقية، الجرمنتية، الرومانية، الوندالية، الفتح الإسلامى وعصوره المختلفة، العهد التركى بمراحله، العهد الإيطالية، على اعتبار انها لم تعد ملكية ليبية، بل حق ثقافى وتراث للبشرية جمعاء يحق للعالم ملاحقته أينما كان وهومسجل ومصنَّف لدى منظمة اليونيسكو، التى تعرف قيمته الحقيقية، ولكننى أتناول جزءا يسيرا من الحقبة الاسلامية، متمثلة فى المخطوطات والمصاحف القديمة والوثائق التاريخية، التي تتعرّض اليوم لعملية سرقة ونهب ممنهج بواسطة عصابات اجرامية، تحت مسمى “ازالة الشرك وتطهير المساجد من الأضرحة” ويتم بيعها بابخس الاثمان، والتى يصعب استرجاعها لصعوبة تعقبها، لعدم وجود توثيق مسبق اضافة الى تشابه هذه المقتنيات، مثل المصاحف والمخطوطات والوثائق  فى كل دول العالم الإسلامى.

شعوب.. وشعوب!!

بعد اثنى عشر عاما من التفاوض بين متحف اللوفر فى باريس وتاجر للمقتنيات الفنية، تم الاتفاق على شراء المتحف للوحة للفنان الهولندى الفرنسي “جان مالويل” رسمها عام 1400 ميلادية، بمبلغ عشرة ملايين دولار امريكى وهومبلغ اقل بكثير من عرض شراء لمشترين اجانب، على اعتبار ان البائع الفرنسي اشترط بقاء اللوحة داخل فرنسا.

منذ ثلاثة سنوات، رافقت صحفىا إسبانيا صديقا لزيارة مدينة صبراته الاثرية، عند الإطلالة، بدت المدينة بأعمدتها الشامخة ومسرحها الكبير، وخلفها بدا البحر بلونه الفيروزي، صرخ الرجل: “يا الله ما اروع المنظر وما اعظم تاريخكم، والتفت لى وقال بحماس شديد: كيف تحرمون العالم من هذا المنظر الفريد؟ لديكم ثروة اعظم من النفط”، دخلنا المسرح الكبير، فقابلتنا اكوام القمامة وأعقاب السجائر المطفئة بالإقدام على أرضيات لوحات نادرة من الفسيفساء. صمت الرجل ومصمص شفتيه أسفا، وماجت على عينيه نظرة… اشعرتني بالاحتقار.

يبدو، وللاسف الشديد اننا شعوب لا تعرف قيمة ما لديها، لذا سيتواصل مسلسل النهب من خلال “الفوضى الخلاقة” التى تعيشها بلادنا وعين الغنيمة التى كل منا يرى فيها الوطن، وتحت التكبير وبشكل ممنهج سيتم تدمير وسرقة ميراث عظيم توارثته اجيال متعاقبة، ميراث يمثل ذاكرة وطن، لشعب. . فقد ذاكرته.

_______________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

العنوان: سرطاناتنا الحميدة

علي الخليفي

على سبيل الملاحظات فقط.

نورالدين سعيد

فلسطين …والمطبعون العرب

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق