سالم قنيبر
• ليست بالقصة القصيرة… وهي أيضا لا تصنف ضمن الروايات أوالقصص الطويلة… لكنها قصة… عمل فني متقن أجادت الكاتبة صناعته يحمل الكثير مما يتطلب التوقف عنده… متأملا… متخيلا… أومتطلعا لمتابعة ما بعده… مشاهد متنوعة تتنقل بالقارئ مكانا وزمانا ,, تدور معظم حركتها داخل (الحارة)… أوبعض القرى عند أطراف المدينة… متمثلة أحداثها في شخصيات ثلاث حمد (الفرميري) أو(الشيخ حمد)… و(إبراهام) أو (الربي إبراهام) ومناني…
• وفي مطلع الرواية يُـقدم لنا حمد… لنتعرف على صاحب (الحكاية) حمد…. (… ربع القامة.. يضع طربوشًا ويتأنق في بذلة قاتمة، حذاؤه مغبرٌ وجرابه واسعٌ يتدلى من أسفل بنطاله. كان ممرضًا في النهار، وعازفاً للعود ليلاً،…)…
• ومجلس طرب وغناء… اتخذ له حمد مكانا في ساحة فندق أبيه في المدينة القديمة – قريبا من جامع الدروج – ونلتقي مع حمد يتوسط من (تحلق) حوله من الرفاق يفترشون الأرض (إلا هو)… يحتضن عوده الذي يدندن عليه مرددا بعضا من أغاني بشير فهمي وسلاف… وهو يتناول بين الحين والآخر رشفات من (السائل الأبيض الشفاف). ويترنحون… وتصدر الآهات عمن حوله من المستمعين…
• وفي النهار نرافق حمد (الممرض) أو(الفرمييري) الذي ترسله (نظارة) الصحة إلى القرى المجاورة لطرابلس للكشف وعلاج الحالات المرضية التي تتردد على المستوصفات لتلقي العلاج… حمد الذي تأهل لممارسة مهنة التمريض بواسطة مرافقته لطبيب إيطالي كان يعيش في طرابلس.. وعند مغادرته لطرابلس تحصل منه حمد على ورقة أصبح بواسطتها ممرضا يقوم بتقديم العلاج لليبيين (الذين أكلت عيونهم «التراكوما» وثقب رئاتهم «السل»، وخرم وجههم «الجدري»، وانتزعت أرواحهم « الكوليرا»)…
• ويحدث الخلط بين ما يقوم به في الليل وما يحدث له وهو يؤدي عمله بالنهار… حيث مريضاته من النساء اللائي أنسن إليه (… يلقين بأجسادهن على الفراش، شاكيات إليه ألمهن، لكنهن قد يبُحن إليه بأكثر من ألم الجسد، ألم القلب… وبينما يتغنى بالحب ولوعته ليلاً، يقلّب الأجساد ويفحصها نهارًا، يدنومن الصدور ويرمي برأسه نحو القلوب، يستمع إلى ذلك الخفقان الذي يزعج صدره ليلاً… فيهدأ منه ببضع جرعات)…
• ومشاهد للمكان الذي يحتوي على الحدث المرتبط بالعودة إلى البداية… بداية الرواية – تطالعنا في الجزء الثاني من الرواية الحارة.. أوالحي… أوالحومة… البعد الزمني لتراكم مكونات طرابلس الإجتماعية…
• ولطرابلس الأصالة عند عزة المقهور… في أعمالها الروائية ظاهر حضور… ولطرابلس (القديمة) وجود متميز… ولهذه الحارة التي يسكن في أحد أزقتها الضيقة اليهودي براهام – البطل الثاني للرواية – وصف لمعالم عمرانها… الحارة التي تبدأ من… (قهوة دحمان)… حتى (باب الفلة)… وتطل عليها (القبة)… وتتجه شمالا لتنحدر إلى (الباب الجديد).. لتقف عند (حومة غريان) و(زقاق كوشة الصفار)… (ومفترق أزقة الأربع عرصات التي هي (أعمدة رخامية رومانية تبدووكأنَّها تحمل المدينة القديمة وحوماتها وأزقتها على أكتافها)”….
• ويأتي التعريف بسكان الحارة الذي يقول (… كان قاطنو الحارة من اليهود، دخل عليهم قلة من العرب في وقت لاحق،؟؟ بها بيعهم ومساكنهم ومدارسهم، ومتاجرهم، وشيوخهم ومشعوذوهم)…
• ونلتقي بشخصية الربي (براهم) الذي يقدم لنا في وصف متكامل لمعالم ظاهره… بدأً من رأسه المغطى (بمعرقة) صغيرة الحجم (والجبة) التي تغطي جسده المكور وتتهدل إلى ما تحت ركبتيه… و(سرواله القصير) (والفرملة ذات الأوان الزاهية بدون أزرار…)…
• الربي براهام كان يسكن زقاقا ضيقا من أزقة الحارة (بيته مفتوح، تتجمع أمامه النسوة)… كان مشعوذا يمتهن السحر (يطلق «الربي» الأبخرة.. ويخط الوصفات السحرية على الورق وصحون الخزف)…
• ويتم اللقاء بين الربي إبراهام وحمد مبكرا حيث يتخذ منه صبيا يستعين به في أداء بعض مهام عمله… ودخل «حمد» عالم «براهم» السحري وفهم حمد بعد مضي زمن على وجوده برفقة الربي… أن ليس من أثر للسحر فيما يصنعه (براهم) للنسوة اللائي يترددن عليه (إلا أنْ يعيدهن إلى حضرته ويقربهن إليه أكثر.. رأي نساءا تذبل، وأخريات تينع، رأى تلك التي تتشبث بالأمل، وتلك التي دب في نفسها اليأس، لم يكن الربي رحيمًا بهن، وكان يمارس صنعته بإتقان…)…
• ويزداد حمد عند الربي قربا وتمكنا ويرى فيه أنه الوريث له في مهنته وبذلك أخبرته (الجنون)… «وصلاة بوشايف… قالولي الجنون أنت وريثي.. هذا باش اخترتك من دون العباد»…
• ويتكشف لحمد ما لم يكن ظاهرا من أمر الربي براهام… وها هو (براهم) في جلساته الخاصة التي يتجرع فيها شراب (اللاقبي) حتى ينتشي ويأخذ في الغناء عازفا على العود برفقة (وريثه) المتخير حمد (…ثم يفتح فمه مقابل أنْ يفتح «حمد» أذنيه ويسمع التفاصيل التي حُجِبت عنه بستار..) ويتناول براهام عوده الخشبي… ويرفع ذقنه ويغني:
«ويهــــــــود ليبيا قـــدم ويحبوهــــــــا من قبل عليسة مع سليمان وين شافوها
وطرابلس بر الزهـــــــر والحنــــــــــــة ربي بهاها كيف أرض الجـــــــــــــــــنة
ويا طرابلس يــــا عز يا محروســــــــة الله يحفظك من كــــــــــل عسكر سوسة
وطرابلس برها سخون وصلاحها فيها ولا تنحكم بكّل بلا إمّاليهــــــــــــــــــــــا
يا طرابلس يا نــــــــــاس يأهل القيمة يـــا تاركين الســــــــــوط والشكّـــــيمة»
• كانت الدموع تتساقط من عيني «براهم»، بينما طرابلس تغلي كالمرجل تحت جمرات دير ياسين، واللد، والرملة، لتنفجر بعد نكبة .1967…
• وكانت الخاتمة لحديث (براهم)… كما جاء على لسان القاصة الذي لا يقبل التدخل بالتلخيص أوالاختصار أوإبداء الرأي يقول… رحل «براهم» مسرعًا، أقفل بيته بالمفتاح وسلَّم عدته وكتبه الصفراء وعوده إلى «حمد»، مقتفيًّا أثر أهله من سكان الحارة، الذين رحلوا جماعات بعد أنْ تمزقت فلسطين ومزَّقت معها النسيج الذي كانت تغزله الحارة بأطيافها، تناثرت أوراق «الخبيزة» في الحارة، ونزحت عصارتها، وتناثرت مع رياح البحر شمالاً…
• لكن القصة لم تنته بعد… وهناك فصل ثالث أخير تتصدر مسار الحركة فيه إلى جانب حمد (الممرض ثم الفقي الذي حل محل الربي الراحل).. (مناني) (الطرابلسية)… مناني التي هي من فشلوم … . وكالعادة التي تطالعنا بتفوق القدرة على الوصف وتحديد المظهر الخارجي للشخصية الروائية تُـقدم لنا (مناني)… على غرار ما سبق وأن قدمت به شخصيتي حمد وبراهام وتم التعريف بهما… فنجد الكاتبة ا تباشر وصفها قائلة (… كانت مناني فارعة الطول، تلتحف بفراشية بيضاء مفتولة حواشيها، ذات صدر عريض ومنكبين قائمين كمجدافين تحركهما بقوة وسلاسة دون حاجة لأن تدور بجذعها… )…
• ولم يكن الوصف الحسي للشعور الداخلي المتبادل عند شخصيتي الرواية ليقل جودة تعبير وتمكن تصوير من الوصف الخارجي… مناني المضطربة نفسيا التي يتمثل لها قلقها في مرض عضوي تنسبه إلى صداع عنيف يُعــرّف شعبيا (بالشقيقة)… وحمد المستثار شعوريا تجاه مناني التي أخذت تتردد عليه في مستوصف فشلوم ثم ازدادت علاقته بها توثقا بعد أن فتح دار براهام التي تركها له ليستعيد بها ممارسة سابق ما كان من عمل…
• وقد يطول الحديث عن هذه الرواية التي تجسد مقاطع ذات أصالة بعد عمق وجود وطني مكانا وسكانا لطرابلس الليبية الكبرى التي كانت مميزة عبر مراحل التاريخ قدمت منها بعض المقاطع وتركت الكثير مما يستحق الإشارة والتوقف عنده…
بنغازي 7 يونيو2016.