قراءات

صراخ الطابق السفلي… تفتح باب الماضي على مصراعيه

لأن القراءة تخرجنا من سجن أفكارنا وتجددها وتطورها وتجعلنا نقترب أكثر من الوجدان الانساني للكاتب وشخوصه موضوع النص الأدبي، أجد نفسي أحياناً كلما أغلقت كتاباً أعجبني ولامس وجداني أو حفز ذاكرتي، أكتب عنه في محاولة للخلاص من أسره وتأثيره، وهذا ما حصل لي حين أنهيت قراءة رواية “صراخ الطابق السفلي” للأديبة والناقدة الدكتورة فاطمة الحاجي.

غلاف المجموعة عن صفحة الناقد منصور أبوشناف

أنوه دائما أنني لست بناقدة ولا أمتلك أدوات النقد في تدويني لقراءاتي عن الكتب التي تحفزني للكتابة عنها، وإنما هو انطباع قارئة أود من خلاله أن أدعو القراء للإطلاع على عمل أدبي جدير بالقراءة.

كثيرة هي الأحداث والمواجع التي أثارتها الدكتورة فاطمة في هذا العمل، حتى أنني وجدت نفسي في حيرة من أي زاوية أتناول هذه القراءة، وعلى أي حدث يجب أن أركز؟ لكن هذه المهمة تحديداً هي ما يشتغل عليه النقاد وأنا لست كذلك، لهذا سأدع الرواية تقودني في كتابتي عنها كما فعلت حين كنت أقرأوها.

عالم الأدب بصنوفه المتعددة ليس بعلم التاريخ الذي يدون الأحداث بأرقام وأحداث واضحة، لكنه مع ذلك هو أحد أوجه التاريخ للإطلاع على النمط السائد في البلاد موقع الحدث وخاصة من الناحية الاجتماعية وما ألقته النواحي السياسية والاقتصادية على المجتمع وكيف أثرت به، لهذا ألجأ أحياناً لقراءة الروايات تحديداً كي أتعرف على المجتمع وسلوكياته ومعيشته، لأن الأدب قادراً على بعثك في المكان والزمان عبر التاريخ الماضي فهو ابن البيئة ويلقي بظلالها على الكاتب/ة وشخوص العمل خاصة حين يتناول حقبة عاشها الكاتب/ة وتغلغل/ت في تفاصيلها.. وفي هذه الرواية “صراخ الطابق السفلي” فتحت الكاتبة باب الماضي على مصراعيه بكل ما حواه من أحداث كان لها الأثر الأكبر على نمط الحياة في ليبيا منذ أوائل الثمانينيات تقريباً التي ابتدأت بها العمل في أحداث شنق طلاب الجامعات (تحديداً تناولت الكاتبة جامعة طرابلس) والذي كان يشي بوضوح عن أوجه عهد دكتاتوري ظالم، مروراً بعدة أحداث كحرب تشاد التي إلتهمت الشباب والقلوب وخلفت مواجع ويتامى وثكالى، والتعتيم والقمع لأمازيغ ليبيا وطمس هويتهم، عبر قصص متنوعة وشخصيات مختلفة منها المرتبط بالسياسة القائمة وقتها مثل اللجان الثورية، ونجد بين طيات الرواية الكثير من العاطفة التي أغدقتها الكاتبة بغزارة في محاولة منها تلطيف الوجع والمآسي كمن يطبطب على القلوب المفجوعة حزناً وفقداً وحباً.

في مقدمة الرواية رسالة من إحدى بطلاتها “سعاد” فحوى الرسالة يحوي اعتراف أن ما ورد في هذا العمل وقائع حقيقية، وأسرار كانت خافية عن الناس بكامل تفاصيلها وإن كنت أظن شخصياً أن معظم من عاصر تلك الحقبة الزمنية وهي ليست ببعيدة جداً عن اليوم قادر على تذكر الأحداث وشاهد عليها، كما قدمتها في رسالتها هنا بأنها شهادة للتاريخ، وهنا لا بد لي من الاعتراف أن قراءة هذه الرواية استنزفتني نفسياً وأبكتني في عدة مواضع وأحداث، رغم أنني كنت صغيرة تلك الفترة لكن مشاهد الشنق في الساحات الجامعية أدخلت الرعب إلى نفسي ورسخت في وعيي أبعاد ما أريد من هذا الحدث بتكرار عرضه على شاشة التلفاز، رافق سعاد في الرواية عدة شخوص رئيسية هم: طاهر، عائشة، أدم، حازم، كريستينا، والد سعاد، بالإضافة لشخوص ثانوية لكنها كانت فاعلة بقوة كمحرك للأحداث، تتسلل المفردات الجميلة الرقيقة الذاخرة بالعاطفة وبالتعبير عن مشاعر العشق والهيام ونوازع القلق والشوق والشغف منسوجة في جمل بديعة التكوين ممزوجة بمقاطع شعرية، لتخفف وقع الأحداث الدامية والمفزعة، لكنها رغم هذا لم تستطع أن تكون بلسماً يعالج الجراح التي حفرت عميفاً ونزفت من الأرواح قبل الأجساد.

صرخة امرأة ــ صراخ نساء… سعاد ــ عائشة

الرواية خرجت من رحم الواقع تجد أن المرأة في هذه الرواية هي المحرك الرئيس للمشاهد والبطلة الأبرز، تطلق صرخات متعددة وفي كل اتجاه، صرخة من ظلم وضغوط العائلة التي تمثل نموذجاً واضحاً للأسر الليبية والعربية، هذا النموذج الذي يرى الذكر هو السند والعضد ومحل الفخر والمسؤولية والعمل والاستقلالية، وسط هذه الأجواء كبرت وترعرت “سعاد” إحدى بطلات الرواية، ساقت الكاتبة مواقف عديدة عاشتها سعاد وتحدت فيها الظروف العائلية لتثب لوالدها وللمجتمع أن لا فرق بين المرأة والرجل، الاثنين يمكنهما تأدية كل المهام بكفاءة وجدارة، تألمت سعاد من والدها حين قال لها “آه آه لو كنتِ يا بنتي ولداً، آه لو كان إخوتك مثلك” لكنها أيضاً تلقت الدعم منه ولا يمكننا أن ننكر أن عائلتها كانت أفضل حالاً من عائلات أخرى وخاصة حين عادت من الجامعة بعد مشهد المشنقة رافضة الاستمرار لتواجه رفض والدها لقرارها وإصراره على استمرارها في التعليم قائلا لها “إنها معركة وطن ولا يجوز الاستسلام”، العائلة هنا تخضع لسلطة المجتمع، رهينة للعادات والتقاليد، تضع المرأة في مواجهة مباشرة معها، وهذا ما شهدناه هنا لدى سعاد التي تمردت على السلطة بشخصيتها القوية وهنا وجب التنويه أن سعاد لم تكن النموذج السائد في المجتمع، بل هي أحد الصور لنساء اجتهدن وصارعن ليثبتن أنفسهن وخاصة في الساحة الثقافية للوسط الجامعي الذي سيطرت عليه أذرع النظام وفي هذا ورد على لسان سعاد بطلة العمل أثناء خوضها لنقاش عن قصائد كتبتها ” إن الأدب لا يزهر في القفر والشنق والسجون، إنها أرض جدب” وسط هذا الجدب والقفر أزهرت ونسجت القصائد وعاشت قصة حب مع طاهر الذي اختلفت معه سياسياً واحتارت لمن ستحكي وتبوح مكنون القلب “مع من أتقاسم فرحي” فحياة المرأة المقيدة بأصفاد العادات والتقاليد تجعلها تخشى الفضفضة رغم احتياجها لها ولمن ينصحها، لكنها عشقته وكادت أن تتزوجه، الصراع الذي عانت منه في علاقتها مع طاهر هو صراع العقل والقلب وإلى أي منهما ستميل وتصغي، طال الزمن بها لكنها بلقاء عائشة ومعرفتها لبعض الحقائق اتخذت قرارها الذي رجح ناحية العقل في إشارة واضحة للانحياز للمبادئ لا العاطفة.

عائشة صديقة سعاد منذ الطفولة فرقتهما الظروف والانشغال بالدراسة وغيره، عائشة وعائلتها كانت النموذج الأقرب للفتاة والعائلة الليبية، عاشت الفقر والقفر والخيبات المتلاحقة وحين قررت الحياة أن تبتسم لها تعرضت لاغتصاب من شخصية سياسية كانت الأبرز في النظام السابق، قصة عائشة مع المعاناة والقهر التي أجادت الكاتبة إبرزاها ووصفها بدقة، تجعلك تشعر بغصة لبلد يطفو على الثروات ويعيش مواطنوه الفاقة والمرض والامتهان في خليط عجيب، “أي مدينة هذه تلك التي لا تستطيع شراء قنينة ماء” عائشة ومحاولاتها الحثيثة للهرب من شبح الفقر الذي لاحقها وعائلتها، بطموح وعزيمة سعت لتحسين وضعها من معلمة إلى متابعة دراستها الجامعية والعمل في الجامعة مع جهات تتبع النظام، ابتسمت لها الحياة فجأة راتب أفضل وسيارة وبحب تسلل إلى قلبها لكنها لم تكد تهنئ به لتخطفه منها حرب تشاد، لم تكتمل سعادتها فبينما هي قلقة ولا تعرف مصيراً لحازم، تتعرض للاغتصاب وانتهاك جسدها، وتربط الكاتبة هذا الاغتصاب والنزف للروح والجسد بنزف الوطن لجنوده القتلى والأسرى في حرب عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، واقع مأساوي تقدم فيه الكاتبة صوراً لمعاناة النساء في مجتمع منغلق تتعرض فيه المرأة للقهر الذي يتناسب مع ما يلاقيه الرجل من كبت وظلم يلقيه على المرأة كطرف أضعف، وهذا يذكرني بما كتبه المفكر مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجيا الانسان المقهور إذ يصف القهر الذي تتعرض له المرأة العربية بقوله (قهر يتناسب مع درجة القهر التي يخضع لها الرجل، كلما كان الرجل أكثر غبنًا في مكانته الاجتماعية كلما مارس على المرأة قهرًا أكبر،في الطبقة الكادحة وحتى يحتفظ الرجل بشيء من توازنه وكبريائه الظاهري باعتباره كاسب الرزق يسقط الهوان على المرأة، ويشحن الرجل بقوة لا يتمتع بها في واقع الحال، أما في الطبقة المتوسطة التي تتمتع بالمرونة والسير في اتجاه التغيير بدأ الرجل يعي أهمية مشاركة المرأة وضرورة نمو شخصيتها وبناء كيانها الذاتي كشرط لارتقائه هو، لكن هذه الفئة ما زالت تعاني الكثير من رواسب الماضي عند كلا الجنسين).

وتشير الكاتبة أيضا على لسان عائشة للمجاهدة “سليمة بنت مقوس” التي همشها التاريخ ولا تذكر لأنها امرأة، بلقاء عائشة وسعاد تبدأ كل منهما بالبوح للأخرى، وتنتهي الرواية بمشهد سوريالي للجندي حازم العائد بقدم مبتورة وحب ضائع ينعي حظه مستلقياً في مقام سيدي حامد.

طرابلس وشوارعها ومدينتها القديمة وبحرها كانت مشهداً لمعظم الأحداث، وصفتها الكاتبة بحب وتعلق شديدين وحزن وأسى على تلك المدينة التي تغمرها الأحزان وتبتلع القهر والظلم بصمت، من خلال بطلتي العمل نرى واقع المرأة بالعموم في المجتمع الليبي والأحلام التي تتساقط وسط خيبات الواقع المر واستعادة للذكريات، كما أشرت في البداية الكاتبة فتحت باب الماضي على مصراعيه وتركته موارباً، فهذه الوقائع التي قدمتها كعمل أدبي سياسي واضح الخطوط لم يترك المجال للتأويل والتحليل، بل ترك صدى صرخات للطابق السفلي.

الرواية طويلة “351” صفحة مليئة بالأحداث والتفاصيل التي لا يمكنني الكتابة عنها، وحتى ما اخترت الكتابة عنه لم أفه حقه، مع ذلك في الأسطر الأخيرة ومع انسجامي بها وفضولي وأمنياتي لنهاية تخفف الوجع اكتشفت أنها “تمت”.

_______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

تجــارب في عمق الذات؛ حول كتاب “مغامرة السؤال حكمة الجواب” للطيب الجمّازي

عمر علي عبود

بين الشعر والرواية مسافة لهواجس سنان

مهند سليمان

أحمد مصطفى الرحال يدرس أحوال يهود ليبيا

سالم أبوظهير

اترك تعليق