المقالة

خطاب الذات المقهورة

العصر الذهبي للعصر العباسي، وبغداد تموج بما يعقل وما لا يعقل، ثقافات وافدة وعقائد تتكلم لغة الفلسفة، وفلسفة تراود الدين عن نفسه، وقصور تترع بكل شئ ولا تفتقر إلا إلى لحظة سكون.

في خضم هذا الضجيج الحضاري كان المدعو “زيد بن الجون” الشهير بابي دلامة، قد دخل ذات يومٍ على المهدي خليفة المسلمين، ووجد عنده كبار قواده ووجوه القوم آنذاك، ولأن الجلسة الملوكية كانت تستلزم بعض المرح المقدس فقد شاءت الإرادة العليا لخليفة المسلمين أن يعالج الملل بالابتكار، فكان أن أصدر أمراً لا يرد لتابعه ومهرج قصره أبا دلامة بأن يهجو أحد الحاضرين في القاعة الملكية العامرة.

تطلع الشاعر المهرج إلى من حوله، بحث عن شخصية يمكن المزاح معها، لم يجد إلا وجوهاً تنطق بالخطر وتنذر من يلهو معها بالشر المبين والهلاك الذي لا صلاح بعده.

لا شك أن المسكين رأى آنذاك كبار رجال المخابرات ومدراء أجهزة أمن الدولة ووزراء الأمر الواقع وحكام الأقاليم البعيدة والقريبة، لا شيئ يمكن اللهو معه في هذا المكان، ولا شيء أيضاً يمكن أن يجد له العذر لأنه لم ينفذ أمر المهدي.

عندها تفتق الذهن عن فكرة، ومضة ابتكار ناجمة عن لحظة عجز، فقد قرر أبو دلامة أن يهجو الشخصية الوحيدة التي لا يمكن لها أن تبادله الهجاء، وأن ينكل بالوجه الوحيد الذي لا يمكن له أن ينكل به.

لقدر قرر أبو دلامة أن يهجو نفسه، فكانت هذه الأبيات:

ألا أبلغ إليك أبا دلامة .. فليس من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قرداً .. وخنزيراً إذا نزع العمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا .. فلا تفرح فقد دنت القيامة

إلى هذا الحد انتهت الحكاية التي أفردت لها كتب التراث مكاناً لائقاً في كل مرة، انتهت الحكاية وضحكت الوجوه، ورضت مشيئة الحاكم على المحكوم، لكن هذه الحكاية بالذات تطرح سؤالاً مهماً عن العجز عندما يصبح دافعاً للابتكار، وعن قلة الحيلة عندما تدفع بالتمساح إلى أن يعض فكيه مادام عاجزاً عن عض الآخرين.

لقد هجا صاحبنا نفسه لأنه كان عاجزاً عن هجاء من هم حوله، فهل تحول العرب في آخر مطاف هزيمتهم إلى أبي دلامة العصر الحديث؟

ما دفعني إلى استحضار ذلك المشهد القديم هو ما حدث منذ أسبوعين من حرب ضروس بين بلدين عربيين بسبب مباراة كرة قدم.

البلدان هما مصر والجزائر، والآن وقد هدأ قرع الطبول وترجل بعض فرسان الحرب عن صهوات جيادهم، هل تسمحون لي أن أناقش على مهل ما حدث، ليس من موضع تعصب أو انحياز لطرف ضد آخر، ولكن من زاوية تحليل تاريخي لحدثٍ تاريخي، بمعنى أن تاريخ العرب الحديث قد سجل تفاصيل هذه “الاشتباك العنيف” بالنص والصوت والصورة، فلا مجال إذن لإنكار واقعة الخلاف الكبير هذه، ولا ضرر من مناقشتها بهدوء وبالكثير من التعقل على غير عادتنا في مثل هذه المواقف.

البلد الأول هو الجزائر، الذي عانى لفترة طويلة من حرب أهلية ضروس سببها هيمنة الجماعات الإسلامية المتشددة على مناطق ظلت بعيدة عن قبضة السلطة لفترة طويلة، تحولت فيها الجزائر إلى بلد غير آمن شهد العديد من المجازر المؤلمة التي راح ضحيتها الآلاف من العزّل الأبرياء.

هذه الأحداث الدموية عادت بالسلب على الاقتصاد الجزائري، وعلى الواقع السياسي المعاش، وأضرت بالنسيج الاجتماعي هناك، واحتاج الجزائريون إلى وقت طويل لتعود الأمور إلى ما كانت عليه باذلين جهداً جباراً لاجتياز النفق المظلم الذي مرت به البلاد.

لا أحد بإمكانه أن ينكر قدرة أبناء البلد الذي بذل مليوناً من الشهداء على مذبح حريته على اجتياز نفقه، ولكن هذا النفق بالذات، وحسب تقارير الاقتصاديين خلق حقائق مرة من بينها أن إنتاجية القطاع الصناعي في عام 2006 هي ذاتها نفس الإنتاجية في عام 1983، وأن اعتماد الاقتصاد الوطني على قطاع النفط وحده لايزال يشكل تلك النسبة السحرية 98% والتي توحي دائماً بأن ثمة وطن كامل يتكئ على عكاز المحروقات ولاشئ غيره، هذا إذا لم نتطرق إلى مشاكل البطالة والتمويل وضعف الرأسمال البشري.

كل هذا يؤكد أن الآثار السلبية لحرب “العشرية السوداء” لم تنته بعد، فهذه الحرب التي بدأت في عام 1992 على إثر مسألة الانتخابات الشهيرة وفرّخت في تداعياتها عشرات الجماعات والتكوينات المسلحة، التي لوثت التاريخ السياسي الجزائري بعنفٍ طرزته المجازر الدموية التي انتهكت حرمة الأجساد، فكان مثلث الموت في البليدة والعاصمة،وكان الضحايا من مختلف التركيبات الاجتماعية في البلاد.

ولم تستسلم الجزائر كعادتها، قاومت كبوتها ونهضت من جديد، فبعد جهود اليمين زروال كانت مساعي بوتفليقة قد نجحت في إيجاد صيغة للحوار الوطني استوعبت كل التناقضات، لكن هموم الحاضر ظلت متعلقة بمحاولات مستميتة لحل مشاكل الماضي،وما أكثر مشاكل ما مضى.

الجزائر ليست مجرد رواية طويلة للعنف السياسي،فهذه صفحة طويت،لكن إرادة الإصلاح لاتنفي هيمنة معضلات اقتصادية واجتماعية وعلامات استفهام كبيرة تتعلق بالإدارة والتنمية.

كلها خيوط كتان تشد إلى الوراء وتفرض قدرة جبارة على السير بعكس الاتجاه، لكنها ليست كل شئ، ففي الجزائر أيضاً بوادر انفراج كبيرة ودوائر ضوء تبدد الوحشة وتبعث على التفاؤل.

هذا عن الوضع في الجزائر، فماذا عنه في مصر؟

هناك يبدو الواقع السياسي أكثر صخباً، فالعنف هنا ليس دموياً بقدر ماهو عنف الحوار إذا صح التعبير، فسؤال التوريث مازال مطروحاً، وتيارات المعارضة تشهر صحفها في وجه محاولات هيمنة الحزب الوطني على الساحة،ومشاكل البلد الاجتماعية لا تعني فقط وجود أكثر من مليوني طفل في الشوارع مشكلين ظاهرة مقيتة تعارف الرأي العام على تسميتها بظاهرة أطفال الشوارع التي تؤكدها إحصائيات الإدارة العامة للدفاع الاجتماعي مشيرةً إلى زيادة حجم الجنح المتصلة بتعرض أطفال الشوارع لانتهاك القانون، حيث كانت أكثر الجنح هي السرقة بنسبة 56%، والتعرض للتشرد بنسبة 16.5%، والتسول بنسبة 13.9%، والعنف بنسبة 5.2%، والجنوح بنسبة 2.9%..

“مصر التي في خاطري”، الغنية بمبدعيها ورموزها الثقافية والأدبية والسياسية وحضارتها العظيمة، تعاني أيضاً من مشكلة بطالة تطال أكثر من ثلاثة ملايين مواطن أكثر من نصفهم من الشباب، وتعاني من اقتصاد عانى من الانتقالات الغير محسوبة من النهج الاشتراكي إلى الانفتاح المطلق على سوق رأسمالية.

البطالة تستلزم الفقر،والفقر ملازم لظروف مجتمع يعاني من تزايد مضطرد في عدد سكانه مع عدم تناسب في تزايد فرص العمل، أثناء ذلك يضطرم الحراك الفكري ويزداد الجدل السياسي ويتكلم الجميع في وقت واحد دون أن يستمع أحد إلى الآخر.

هذه خارطة مختصرة للبلدين، لم أكن أقصد هنا أن أتشاءم فقدرة الفعل في مصر بألف خير، ومحاولات المصريين لا تتوقف في جهد صادق للإصلاح رغم العقبات، لكن الداخل هنا يموج بكل شئ، والخارج يتربص بمؤسساته القوية، وبالحذر الممزوج بالعداء مع إسرائيل،الجار المعدني المدجج.

برميل من البارود هنا،وآخر هناك، مشاكل عديدة،وحلول مؤجلة،وكأن هذه المباراة كانت الإذن المنتظر لولادة انفجار كبير يقال فيه ما لا يمكن أن يقال،وادٍ كامل من الصراخ كان ينبغي له أن يكون، إن أبادلامة يريد الآن أن يهجو، ولكنه لا يهجو إلا نفسه في نهاية المطاف.

في المباراة الأولى التي أقيمت في الجزائر لم يكن ثمة ما يذكر، فقط حالة تسمم غذائي أشارت إليها وسائل الإعلام المصرية والجزائرية على استحياء، وهي حالة تحدث كثيراً في ظل تغير ظروف السكن واختلاف الوجبات الغذائية.

التداعيات بدأت في التشكل قبل المباراة الثانية في مصر، حيث بدأ الإعلام المصري القوي (داخلياً) في حملة مرئية ومسموعة هائلة لشحن اللاعبين والجمهور معاً، الحملة كانت أقوى من أن يحتملها وعي الجمهور حتى أنها ذكرتني بتلك الحملة الإعلامية المشؤومة التي تورط فيها الإعلام العربي قبل حرب 67، وقتها رمينا باليهود في البحر، وحررنا فلسطين ألف مرة، فعلنا ذلك قبل حتى أن تبدأ الحرب.

في الجزائر انتبه الإعلام إلى هذا الضخ الإعلامي الهائل، وفوراً بدأت صحيفتا الهداف والشروق حملة مضادة.

نقطة مهمة لم ينتبه إليها سدنة الإعلام المصري، وهي أن الإعلام الجزائري هو إعلام تعبوي بطبيعته، أكثر منه إعلام مهني، زادت من قيمته التعبوية الداخلية أحداث الحرب الأهلية التي دارت هناك، وفوراً بدأت المشاعر تتحفز هنا وهناك، كل هذا ولم ينتبه أحد من الدوائر الحكومية ولا من المثقفين ولامن دوائر الفن والمؤسسات الاجتماعية والتربوية إلى ما يحدث، لا أحد دق ناقوس الخطر، بل أن الكل انساق وراء طبول الحرب، وولد فجأة ألف “يونس بحري” جديد، ويوماً بعد يوم كانت كرة الثلج تكبر،لكن مساحة العمى كانت أكبر من أي كرة ثلج في العالم.

أقبل موعد المباراة الثانية، ولم يكن المشجعون المصريون الذين أحاطوا بحافلة المنتخب الجزائري إلا ضحايا لآلة الإعلام الضخمة التي غسلت أدمغتهم طيلة شهر كامل، وعبأتهم بفكرة واحدة، مصر ستتأهل لكأس العالم، كبديل عن العجز في حل مشاكل الإسكان والبطالة والجريمة والاقتصاد وحوار المعارضة والحكومة الذي لا يتوقف.

وقعت إذن حادثة الأوتوبيس المشهورة، وأصيب لاعبون جزائريون، وهنا بالذات كان على المسؤولين في مصر أن يتدخلوا للجم أفواه الإعلاميين الذين تفننوا في إثارة مشاعر الشارع بصورة غير مدروسة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.

في الجزائر اندلعت النار، واندفع سيل الحملات الإعلامية الشرسة في الاتجاه المضاد، واشتعلت صفحات الصحف بالعناوين النارية، وتدهورت لغة الخطاب إلى مستوى لاعلاقة له بأخلاقيات المهنة، إن ابادلامة يهجو الآن نفسه لكن أحداً لا يهتم للكارثة.

انتهت المباراة، وكان لزاماً على الفريقين (اللذان تحولا إلى جيشين بفعل الإعلا ) أن يلعبا مباراة أخرى في السودان، وهناك كان الفوز للجزائر، وهنا بالذات وقع الإعلام المصري في مأزق حقيقي، لقد عبأ الناس طيلة دهر كامل من أجل الوصول إلى كاس العالم، ورقص رقصة الفرح قبل أن تحضر العروس، فماذا سيحدث الآن؟ وبأي وجه سيقابل مشاهديه بعد أن تبدد الحلم؟ كان هذا وضعاً مشابهاً تماماً لوضع الإعلام العربي بعد النكسة، فكيف سارت الأمور؟

أعلنت الحرب، وكعادة أي إعلام مكابر، كان الشعار هو أننا لم نهزم، واستعمل الإعلام المصري نقطة قوته الكبرى المتمثلة في القنوات الفضائية الكثيرة التي يهيمن عليها بفضل قمره الصناع (النايل سات) فيما أدرك الإعلام الجزائري أن قوته ليست على الفضائيات بقدر ماهي على شبكة (النت) وشبكة علاقات قوية في أوروبا، إن كل طرف يشهر سلاحه فلمن كانت الغلبة؟

حرب أهلية عربية، لقد لفنا الذهول ونحن نراقب الموقف، لغة خطاب انفلتت من عقالها، في الجزائر كانت اللاعقلانية في التهجم، وفي مصر قاد اللاعبون المعتزلون برامج مباشرة جنحت نحو تمجيد الذات على حساب الحط من مكانة الآخر.

الكل كان على خطأ، فلغة الخطاب المسفة لم تكن تثير الا طبقة المسحوقين بتأثير الفقر والأوضاع الاجتماعية الصعبة، وهؤلاء يصعب التحكم بعد ذلك بردود أفعالهم، أما تمجيد الذات والتعالي على الآخرين وتسويق مقولة “أم الدنيا” فلم ينتج في نهاية المطاف إلا حالة من الرفض ليس لدى الجزائريين فقط بل عند كل مشاهد عربي.

والآن، وقد خف إيقاع الطبول وخفتت الأصوات،هل يمكن لنا أن نسأل عما إذا كان العرب قد تعلموا الدرس هذه المرة؟

هل تعلمنا أن الإعلام لعبة خطرة ينبغي الا توضع في أيدي من كانوا يلعبون بأقدامهم؟

وهل تعلمنا أن للصحافة لغة مهمتها أن ترتقي بالقارئ الى مستوى رفيع بدلاً من أن تنحدر هي إليه؟

وهل تعلمنا أن خطاب (الذات العلية) هو فعل غير محسوب لن ينتج عنه الا المزيد من الرفض لهذه الفكرة بالذات؟

وأخيراً .. هل تعلمت الدوائر السياسية هنا وهناك الدرس؟ هل عرفت أن المشاكل الداخلية لن تحل بمجرد صرف الأنظار عنها بمباراة كرة؟

وأخيراً وليس آخراً، هل أدرك أبودلامة أن هجاءه لنفسه لن يجنبه هجاء الآخرين له واو حاز على رضى الخليفة؟
18.12.2009

مقالات ذات علاقة

الهوية الضائعة في عالم متغير

يوسف الشريف

حشرجة الصفصاف

عمر أبوالقاسم الككلي

يوم التقيت بدرويش

منصور أبوشناف

اترك تعليق