المقالة

‏أنا وأغوتا كريستوف

وائل عقيلة

الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف (الصورة: عن الشبكة)

في طفولتي لم أعرف قط أزمات الحرب، بل كانت كلمة حرب غامضة ومثيرة للتساؤل. أكملت طفولتي وأنا أشاهد قنوات التلفاز، أتابع برامج ديزني، أتأمل زرقة السماء بعناية، ألعب بمفردي وأصنع شخوصاً من وحي خيالي. لم أكن مثل مانغويل الذي كان في طفولته منجذباً إلى الكتب بدلاً من أن يمرح في الشارع، لم أكن مثله قط، بل كنت أمارس كرة القدم مع أولاد الجيران، أتسكع معهم لكن ليس كثيراً. لم أكن في مرحلة الطفولة طفلاً مشاغباً أبداً، كنت هادئاً في أغلب الأحيان، كنت نبيهاً لدرجة أنني فضلت الاستماع على التحدث والثرثرة عن أشياء أجهلها في هذا العالم الواسع. عشت طفولة نقية خالية من ندوب الفقر ومن شوائب الحرب. الكاتبة أغوتا كريستوف لم تكن مثلي، فقد ذكرت في كتابها الأمية أنها تعرفت على الحرب وهي في السن الرابعة. ولدت أغوتا كريستوف في قرية تشيكفاند بهنغاريا سنة 1953، قضت جزءا من طفولتها في هذه القرية، انتقلت مضطرة بسبب الحرب إلى بلدة كوزيرغ، التحقت في تلك البلدة بمدرسة داخلية، وعندما بلغ عمرها الواحد والعشرين هربت برفقة طفلتها و زوجها الذي كان أستاذها إلى نيوشاتل بسويسرا، واستقرت طيلة حياتها هناك. عملت في سويسرا خمس سنوات في معمل الساعات، كانت تشعر بالأُمية لعدم قدرتها على القراءة والكتابة باللغة الفرنسية في وقت ما. بعد مرور خمس سنوات في سويسرا غدت تتحدث الفرنسية لكنها لم تكن في استطاعتها القراءة والكتابة والتعرف على الكلمات. كان العاملات في المعمل يعلمنها بعض الكلمات المهمة. كن يتحدثن عند المراحيض وهن يدخن السجائر على عجل لعدم سماع بعضهن البعض بسبب ضجة الآلات. في سن السادسة والعشرين التحقت بدروس الصيف الخاصة بالأجانب الذين ينوون تعلم اللغة الفرنسية بجامعة نيوشاتل. بعد سنتين استطاعت الحصول على شهادة الدراسات الفرنسية. بعد ذلك صارت تتقن القراءة مجدداً. نجت بنفسها من فخ الأمية مجدداً، فصارت تقرأ لفيكتور هوجو، كامو، روسو، فولتير، الكثير من الكتب صارت بالنسبة لها مفهومة. في كتابها الأمية كتبت بهذا الخصوص: “أعرف أني لن أكتب قط الفرنسية كما يكتبها الكتاب الفرنسيون ولادة، بيد أني سأكتبها كما أستطيع، كأفضل ما أستطيع.” لم تختر قط هذه اللغة، لقد فرضتها الظروف، إنها تحد من نوع ما “تحد تخوضه امرأة أمية”. حتى في ثلاثيتها : الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة، تلاحظ أن طريقة كتابتها مباشرة، دون حشو، كما لو أنها تمرينات على الكتابة بهذه اللغة، لكن كل هذا جعل من كتابتها قريبة إلى قلبي، جعل من كتابتها لها وقع فريد على ذاكرة القارئ. أحببت كتابتها لأنها رغم قصر جملها وبساطتها إلا أنها تتسم بالعمق والجرأة. إنها تكتب كما تريد هي أن تكتب، لا كما يريد أي أحد آخر.

‏لقد عشت الحرب. اكتسبت من الحرب الخبرة الكافية لكي أعبر لك عن حجم حسرتي. رأيت المباني وهي تستوي بالأرض. بسبب الحرب دمرت مدن بأكملها، انهارت أحلامنا المتماسكة دفعة واحدة. لم نعد مثلما كنا قبل الحرب. لم أر البتة أيا من السحر الشاعري الذي تحدث عنه دوكنز في كتابه سحر الواقع. بحسب قوله السحر الشاعري هو ذاك الإحساس الذي نستمده من مقطوعة آسرة والذي يدفعنا إلى أن نصف تلك المقطوعة بأنها ساحرة، نستمده من منظر طبيعي خلاب، من المشي ورؤية شوارع مدينة ما بلا خراب أو حرب أو تدني في الذوق. في كتابه سحر الواقع كان يريد أن يقول أن العلم والحقائق المثبتة علمياً يحملان من السحر الشاعري ما يكفي ليأسرانا، لكن في مدينتي لم أَجد لمثل هذ السحر الشاعري الذي شبه به دوكنز العلم، لم أجد في مدينتي إلا خيبات الأمل، إلا الفشل، إلا الحرب. في الحرب تصير بمنأى عن العالم، تنكشف أمامك قباحة الحياة، تنعزل أكثر داخل تخوم المدينة، داخل تخوم الدمار والفقد. عواقب الحرب أنها تعود بك إلى حيث كان أسلافنا القدامى يقضون حياتهم في قمة بدائيتها. تخسر في الحرب ما هو في نظرك ثمين وما هو غير ثمين، تبحث فيها عن طمأنينتك التي ضاعت. عند قراءة رواية الدفتر الكبير ستعي معنى أن تعاني مدينة ما جراء الحرب. لقد درب التوأمان في هذه الرواية جسديهما على تحمل ظروف الحرب، تخلّصا من إحساسهما بالذنب، من العواطف الجياشة، عودا معدتيهما على قسوة الجوع. في الحرب التي حدثت في بنغازي، عشنا الظروف ذاتها التي عاشها الطفلان. كانت الكهرباء في انقطاع دائم، والشح في المال، ولتقوم بتعبئة سيارتك بالبنزين فما عليك إلا أن تتحمل مشقة أن تنتظر ساعات طويلة في الطابور. ولا ننسى أزمة الدقيق التي خلفت وراءها أزمة الخبز، والازدحام الشديد في الطرقات نتيجة إغلاق بعض الطرق الحيوية بالكثبان الترابية. ما الذي فعلناه لتحدث معنا كل هذه الأشياء الضارة؟ حاول دوكنز طرح هذا السؤال والإجابة عنه في كتابه سحر الواقع. ثمة أساطير كثيرة انبثقت بسبب هذا السؤال أحدها أسطورة اليهودية التي مفادها أن تمرد آدم وحواء في الجنة هو وراء سبب كل هذا، وأسطورة الأفريقية التي تقول أنه عند بوابة العالم كانت توجد بيضة كونية فقست ليخرج منها

‏توأمان، كانت الأمور ستبقى على أفضل حال لو أنهما خرجا في لحظة واحدة، لسوء الحظ جاء فقس أحدهما بسرعة وأفسد خطة الآلهة للكمال. وهناك من يعتقدون أن العالم يسعى للنيل منهم، ريتشارد دوكنز وضح أن السوء يزداد مصادفة عن ماهو حسن، وأن الكون لا يملك عقلاً أو أحاسيسا أو شخصية، وبالتالي لا يفعل شيئا من باب أنه يود أن يؤذيك أو ينفعك. لم تفكر أغوتا كريستوف في كل هذا، فالأمر بالنسبة لها سيّان. أغوتا كريستوف تفهم جيداً الضرر النفسي والجسدي اللذين تخلفهما الحرب، تفهم أن الدموع لا تفي بالغرض أمام الفقد، وأن الحب مجرد عطاء زائف لا يفيد في شيء أمام ضراوة الحرب والموت. أغوتا كريستوف تعتبر الكتابة عن الحب أمرا تافها. لقد عبَرَتْ للحياة ولم تجد سوى الحرب والنفي والعدم. كانت الكتابة قد أنقذتها في لحظة ما، خلصتها من الأيام البائسة التي تأتي في تتابع مستمر. جاءت رغبتها في الكتابة حينما لم يكن لديها أية طريقة أخرى تساعدها على تحمل ألم الفراق، ألم الأوقات السيئة. الكاتبة إيزابيل الليندي هي كذلك كتبت لحاجتها إلى نسيان مرارة فقد ابنتها للبقاء سليمة العقل، في كتاب “حياة الكتابة” كتبت إيزابيل عن تجربتها قائلة: “فالأسى رحلة طويلة، كالمشي وحيدة في نفق مظلم، ووسيلتي للمشي عبر هذا النفق هي أن أكتب!” كانت كل صباح تسحب نفسها من السرير، تضيء شمعة أمام صورة ابنتها باولا، وتفتح جهاز الكمبيوتر، وتبدأ في البكاء.

‏عندما كان يفرض عليهم الصمت في الداخلية، كانت أغوتا تلجأ للكتابة، قامت باختراع ما يشبه الدفتر السري الخاص بها، الذي لم تنو البتة إظهاره لأحد.

‏تحب أغوتا كريستوف القراءة، أصابها مرض القراءة حين أعطاها أبوها كتاباً مصوراً، وذلك عندما بعثتها أمها إلى أبيها لارتكابها ضجيجاً، بحسب قولها لم يحمل لها حبها للقراءة إلا اللوم والاحتقار: “إنها لا تفعل شيئاً. تقرأ طيلة الوقت”. حتى أن ضميرها كان يؤنبها عندما يذهب الناس إلى أشغالهم بينما هي تجلس على طاولة المطبخ طيلة ساعات تقرأ عوضاً عن ترتيب البيت، عن غسل الأواني، عن الذهاب إلى التسوق، عوضاً عن أشياء كثيرة كان يمكن أن تفعلها في حياتها اليومية. وفي الأخير كتبت “عوضاً أن أكتب”. في مجتمعنا يتم النظر إلى من يقرأ أو يكتب أو يرسم، إلى من يبدع على أنه مبدد لوقته وبلا فائدة ترتجى منه، لهذا السبب نرى التدني الواضح للثقافة هنا، ولمكانة المبدع.

‏توفيت أغوتا كريستوف في عام 2011، وقبل وفاتها بسنوات عديدة، في المدرسة الداخلية كانت الأضواء تطفأ في الساعة العاشرة مساءً، وهناك حارسة تراقب الغرف، في ظل هذه المراقبة كانت أغوتا منهمكة في القراءة على ضوء مصابيح الشارع، وأثناء شروعها في النوم بعينين دامعتين، كانت “تنبثق الجمل في الظلام. تدور حولها، تهمس لها، تتخذ ايقاعاً، تصير لها قافية، تغني، وتصير قصائد.”

مقالات ذات علاقة

سعادة افتراضية

عمر أبوالقاسم الككلي

فن القصة و آليات الكتابة

نورالدين سعيد

قـامـوس أمـنـا الـمـرأة

المشرف العام

اترك تعليق