الذكرى الثالثة لرحيل الكاتب الليبي فوزي البشتي
فوزى البشتي
لم يعد من الممكن الفصل بين الشعر وتوجهات أي مجتمع في فترة محددة وفي زمن محدد. فالشعر وسائر فنون الإبداع الأخرى هي انعكاس للواقع الاجتماعي بشكل ما .. يتأثر ويؤثر في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولذلك يندر أن تجد الشعر مزدهراً في مرحلة انحسار اجتماعي أو إحباط إنساني.
قد يتوهج الشعر في الأزمات، وينير بعض الظلمة؛ ولكن ذلك لا يشكل القاعدة. صحيح أن هذا الشعر لا يكتفي بمواكبة الأحداث أو مرافقة القافلة، بل غالباً ما يكون حاديها ورائدها في آن. والريادة هنا لا تأخد طابع التنجيم أو الرجم بالغيب، ولكنها تفعل من خلال استيعاب الواقع بكل علاقاته المتشعبة واستقراء المستقبل وما يمكن أن يكون عليه من خلال ذلك.
صحيح أن الشعر ينزع أحياناً إلى تصوير الأفق بلون أجمل من واقعه أو ربما أسوأ، ولكن ذلك لا يقلل من أمر الريادة في شيء، بل غالباً ما يعززه. صحيح ذلك وغيره ولكن أثر الجماعة بعلائقه المتشابكة يلون الشعر ويؤثر فيه بشكل غير خاف على أحد. ولذلك نرى شعرنا العربي في أيامنا هذه يعيش أزمة شبه خانقة. ليس أهمها التشتت الواضح في مفاصله ورؤيته للحياة، فمازلنا نسمع عن الشاعر الذي يقفز على الواقع ويكتب للمستقبل، ونسمع عن الشعر الذي يكتب ويوضع في جرة ترمی في البحر، ولا بأس بعد ذلك إن صادفت هذه الرسالة أحداً أم لم تصادف. وما زلنا نسمع عن الشاعر الذى يکتب لنفسه فقط، ولا يعنيه بعد ذلك أحد. ونسمع عن الشاعر الذي ينتقي الكلمات، ثم ينسج حولها الكلمات الأخرى، ثم (يضع) القصيدة، وبين كل حرف من حروفها علامة ترقيم تحيلنا إلى شرح أو بيان لا نستطيع بعده العودة إلى الشعر. وإذا عدنا فإننا لن نجد شيئاً سوى ثرثرة ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا يستطيع أحد أن يحدد للشاعر كيف يكتب .. ولكن ألا يحق للمتلقي أن يطمع بشيء من هذا الشعر؟ ألا يحق له أن يفهم وأن يتجاوب وأن ينفعل وأن يعترض على الأقل؟!
ومما لا شك فيه أن القصيدة الموعظة سقطت، والقصيدة المنشور سقطت كذلك. والقصيدة التي تستدر التصفيق الآني لم تكن أحسن حالاً .. ولكن هل نضب معين الشعراء؟ وهل صحيح قول من قالوا إن الشعر العربي المعاصر مازال على الباب ولم يلجه بعد؟ وللموضوعية فقط نقول – لولا بعض الاستثناءات التي نلمها بين هذا العدد الهائل من الشعراء – لصح القول، أيّ قول، ولولا هذه الاستثناءات كذلك لصدقنا من قال إن الشعر تراجع في هذا العصر ليفسح المجال لفنون الإبداع الأخرى، لأنها أكثر التصاقاً بالواقع وتعبيراً عنه. فلو استعرضنا عدد الشعراء على طول هذا الوطن الكبير وعرضه لهالنا العدد، ومع ذلك لا نلمح الدور الريادي لهذا الشعر، بل لا نلمح قدرته على التجدد والتجاوز. ويمكن القول إن زمننا هذا قد ابتلع الشعر أو كاد، وأن ما هو موجود ليس من الشعر في شيء، ولا يمت له بصلة من قريب أو من بعيد، ومع ذلك فالنقاد مطالبون بالكتابة عنه وعدّه دفقة عطاء جديد، وليس تجربة متخلفة ومشبوهة وقاصرة وميِّتة، تستفز المشاعر بركاكتها إلى درجة دفعت بعض الشعراء المحدثين – محمود درويش على سبيل المثال – إلى أن ينشر في العدد السادس من مجلة (الكرمل) ربيع 1982 صرخة بعنوان (انقذونا من هذا الشعر) .. صرخة شبيهة بإعلان البراءة مما يكتب باسم الشعر الحديث.
يقول درويش: – ((إن ما نقرؤه منذ سنين، بتدفقه الكمي المتهور ليس شعراً إلى حد يجعل واحداً مثلي متورطاً في الشعر – منذ ربع قرن – مضطراً لإعلان ضيقه بالشعر، وأكثر من ذلك يمقته، يزدريه، ولا يفهمه. إن العقاب الذي نتعرض له يومياً من جراء هذا اللعب الطائش بالشعر يدفعنا أحياناً إلى قبول التهمة الموجهة إلى الشعر العربي الحديث. ولكن هل يكفي أن يتبرأ كل شاعر بطريقته الخاصة لينجو من الاتهام العام؟ ماذا يفيد التبرؤ مما ليس يشبهك إلى درجة تشبهك، وهل جرب أحد أن يرى أعضاءه في أجساد الآخرين، دون أن يتحمل المسؤولية عن سهولة تفكيك جسده؟)).
على الشعراء والنقاد إذا وجدوا، أن يدخلوا في عملية حساب النفس العسير. فهذه هي فترة النقد الذاتي. إذ كيف يتسنى لهذا اللعب العدمي أن يوصل إلى إعادة النظر والتشكيك في كامل حركة الشعر العربي الحديث، ويغربها عن وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية؟
إن تجريدية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض حتى سادت ظاهرة ما ليس شعراً على الشعر، واستولت الطفيليات على الجوهر لتعطي الظاهرة الشعرية الحديثة سمات اللعب والركاكة والغموض وقتل الأحلام والتشابه الذي يشوش رؤية الفارق بين ما هو شعر وما ليس بشعر، ما هو ارتقاء باللغة وامتلاك للمعاني والأخيلة والصور والقواعد اللغوية وما هو تجربة فنية متخلفة ومشوهة وقاصرة. نقول متخلفة لسبب بسيط وهو أن اللغة التي يكتب بها هذا الشعر متخلفة، وعندما تتخلف لغة مجموعة ما ينتفي إبداعها بالضرورة، لأن الإبداع عامة والشعري خاصة هو في الأساس عمل لغوي أو عمل في اللغة.
إذن، السؤال عن سبب تخلف التجربة الشعرية هو في الواقع سؤال عن سبب تخلف التجربة اللغوية عموماً، والسؤال يأخذ بعداً مأسوياً عندما يوجد التخلف اللغوي في أصل معاناة فكرية أو إبداعية موجعة، أي عندما يعي الكاتب هذا التخلف ويدخل في صراع جبابرة مع عجزه اللغوي، مع انتفاء امكاناته التعبيرية بسبب قاموس محدّد، بدائي، أو أفق مسدود خانق.
إن القضية التي نطرحها حول تخلف التجربة الشعرية يمكن اختزالها في هذا السؤال الجوهري: – كيف يمكن أن نكتب أدباً جيداً بلغة رديئة، أو بلغة توقف نموّها الطبيعي فظلت كسيحة لا تؤذي وظيفتها التعبيرية بصورة كاملة ولا تفي بضرورات الابداع التي هي ضرورات الحداثة بمفهومها الأول: أي نفي القائم والتجاوز؟ وبما أن الإبداع هو تجاوز ونفي لما هو قائم، وبما أن العمل الأدبي هو في الأساس عمل لغوي، فإن الابداع الادبي يكون بالضرورة إبداعاً لغوياً، أي تجاوزاً لغوياً لوضع لغوي قائم وسائد. بهذا المعنى تقاس جودة الأعمال الأدبية ومدى تطورها أو تخلفها، بقدرة الكاتب على قطع الصلة باللغة القائمة وعلى إبداع وتوزيع رموز محدثة، مغايرة .. لكن الرغبة الذاتية في التغيير لا تتحقق فعلا تاريخياً خارج لغة مغايرة وثورية ليس فقط على مستوى الطموح، بل أيضاً على مستوى الانجاز الفعلي.
إن السياب وأدونيس ودرويش والفيتوري وعبد الصبور وحجازي، وعلى الجندي ومحمد عمران ونزار قباني شعراء مبدعون لأنهم ألغوا لغة قديمة وأحدثوا لغة جديدة، لأنهم الغوا الذاكرة وسموا واقعهم الراهن بقاموس الراهن.
الإبداع إذن هو تغيير شكلي أو تغيير في الشكل، وهو ممكن فقط داخل اللغة، ولكن بتغييرها المستمر من الداخل، أي بتفجير طاقات الايحاء والتغيير الكامنة فيها، وهو ما ينبغي أن يظل في حساب الاجيال الشابة من الشعراء الذين يحاولون أو يتطلعون إلى إبداع أدب جديد بلغة جديدة لا تصور الواقع فقط، بل تعيد ترتيبه حسب ضرورات التغيير التي هي ضرورات الشعر، وتعيد ترتيب ذاتها خلال ذلك.
كذلك تمضي لغة الإنسان، تحكي، تصور، وتسمي الاشياء وفي الأثناء تغيرها .. تغير نفسها، أليس التجديد الشعري ثورة في الكلام م في شكل الكلام؟. أعني أن هذا التغيير في شكل اللغة هو إحدى نقاط الانطلاق الرئيسة نحو قول الجديد، ولأن المضامين نفسها ينبغي أن تفرض إطارها اللغوي والتعبيري الخاص.
وإذا عدنا إلى السؤال الأول حول تخلف التجربة الشعرية ((اللغوية، الإبداعية، التغييرية)) وأعدنا طرحه على ضوء هذا التحليل وصلنا إلى النتائج – الأسباب الآتية:
– هذه التجربة الشعرية متخلفة لأنها لم تتجاوز بعد تجربة جيل الرواد، لم تنتج بديلاً شكلياً لها، أي بديلاً إبداعياً، بل ظلت في أحسن الأحوال تراوح بين تقليد لما هو قائم (بعض الشعراء ساروا على خطى درويش أو البياتي أو مظفر النواب) وبين محاولة تجاوز لما هو قائم. ولكن بلغة هجينة، ملفقة منقطعة عن هذا الواقع …
البعض الآخر ساير التجربة الشعرية الغربية مسايرة فجة بيضاء، وتابعة. والغريب أن معظم هؤلاء لا يعرفون اللغة الأجنبية التي يستلهمون إبداعات كتابها. ويعتمدون على الترجمة التي هي في معظم الاحيان سريعة ومبتورة ومزيفة، ناهيك عن جهلهم لقواعد اللغة العربية. ومع ذلك فقد أصبح مألوفاً أن نراهم ينظرون للشعر ويرددون أسماء (آلان بوسكيه) و(جاك بريفير) و(كلود ليفي شتراوس) و(رولان بارت) ولقد أتيح لي أن أستمع إلى أحدهم خلال إحدى الندوات التي اقامتها رابطة الأدباء والكتاب، واتحاد الكتاب العرب، يقرأ بحثاً مطولاً كان واضحاً بعد الدقائق الأولى من القراءة انه كان يحتاج إلى من يقرأه له، رحمة بمن يستمعون إليه، فقد كان عاجزاً تماماً عن نطق مفردة واحدة بصورة صحيحة.
وهذا المثال لا يتعلق بفرد عاجز تسلل خطأ إلى ندوة من الندوات ولا هو يتعلق بارتباك وضعف وركاكة في الطرح تعتور ندوة من الندوات، فما أكثر الملتقيات الأدبية الفاشلة والركيكة. لكنها ظاهرة عامة انتشرت مثل الوباء وعلى كل المنابر بحيث بات الأمر أشبه بالمسخرة أن لم يكن بالفضيحة.
وإلى أن نتنبّه من غفوتنا ونحاول ترميم ما يمكن ترميمه فسنظل ننتظر الشعر لا القصيدة، فالقصائد موجودة والأسماء الكبيرة موجودة، لكننا في انتظار عصر شعري لا يقتنع بالدور المرسوم له سلفاً، ولا يقتنع بالمتابعة أو الصراخ أو البكاء؛ فالشعر كما نعتقد هو اللغة الجديدة والرؤية الجديدة، وبغير ذلك يتنازل الشاعر طوعاً وضعفاً عن الشعر، ويتحول الشعراء إلى ماسحي أجواخ أو ندابين بمناسبة أو بغير مناسبة، أو مترجمين لبعض أفكار الشعر العالمي، أو إلى متعهدي أمسيات شعرية، أو وجهاء في منظمات الثقافة الرسمية أو صيادين مهرة لبطاقات الدعوة إلى الملتقيات الشعرية الرسمية، أيا كانت نوعية هذه الدعوة وقيمتها.
ومما لا شك فيه أن هذه ليست دعوة إلى هجر الشعر أو وضع العصا في عجلاته، أو إحباطاً لهمم الشعراء الكبار والصغار على حد سواء، ولكن دعوة صادقة إلى تجاوز هذه المرحلة بسلبياتها المدهشة واختراق زمنها اللا شعري الخانق الذي لا يبشر إلا بالويلات … والشعر قدر صاحبه فإما أن يحمله برجولة أو يبحث عن مهنة أخرى. ولست أدري ما الذي أحضر إلى ذهني هذه القصة في هذا الوقت: ((قيل إن والد أحد القياصرة كان شاعراً، ثم لاحظ أن الشعر في بلاده صار مهنة من لا مهنة له، فاقترح على ولده القيصر ان يصدر بلاغاً بإعدام أي شاعر يكتب قصيدة .. فوجئ القيصر بالطلب (طبعاً) واستغربه، ورداً على دهشته قال الوالد: (افعل يا بنيّ فالشاعر الحقيقي سيكتب قصيدته ولو علم أنه سيموت بعدها، ولن يصمت إلا الأدعياء).
الناشر العربي | رقم العدد: 14، 1 يوليو 1989م، ص: 107 – 109