تفتقر المكتبة العربية للكتب الإرشادية لفن الكتابة للناشئين والموهوبين؛ فبالرغم من ازديانها بعدة كتب، بعضها مؤلف وأغلبها مترجم، عن كتابة السيناريو والحوار والرواية والقصة والمسرحية، تبقى الكتابة في جوهرها، كعملية إبداعية خالصة، وكحالة نفسية وذهنية ووجدانية، وكتقنية وصنعة تتلون بلون الجنس الإبداعي، أدبياً كان أو فكرياً أو فلسفياً، قليلة ومحدودة.
وقد عثرت قبل أكثر من عقد ونصف على كتاب ظريف عن الكتابة والإبداع بعنوان طريق الفنان: سبيل روحاني لإبداع أسمى The Artist’s Way: A Spiritual Path To Higher Creativity، للكاتبة الأمريكية جوليا كاميرون، وهي شاعرة وروائية وكاتبة في فنون المسرح والسينما. وقد بُني الكتاب على تجميع نصائح وإرشادات كُتاب عظام قدّموها لغيرهم من المبدعين، سواء كانوا مبتدئين أو متمكّنين. وأهم استراتيجية طرحها الكتاب هي ما أسمته الكاتبة بـ “أوراق الصباح“. وهي أن يجلس الفنان إلى الورقة والقلم كل صباح ليسطّر ثلاث ورقات، يودعها أفكاره وأحاسيسه؛ دون تحديد مسبق لموضوع أو مراعاة لمعايير.
وقد اتّبعتُ هذه الوصفة مدة من الزمن، متصلة تارة ومتقطّعة أخرى، تمكّنت خلالها من تجميع عشرات “الأوراق” المليئة بالأفكار والآراء والمشاعر، في عفوية ودفق. ولنشر الفائدة، إن وجدت، وخاصة للكُتّاب الناشئة، فقد رأيت أن أشاركهم بعض هذه الأوراق.
قررت اليوم أن أبدأ ما أسمته جوليا كاميرون في كتابها طريق الفنان بـ أوراق الصباح، وهي وصفة تقول إنها جداً مهمة للكُّتاب والفنانين على مختلف مجالات إبداعهم.. ففي هذه الورقات الصباحية الثلاث، يواجه الفنان نفسه.. يمتشق قلمه ليشحذه، وليضع نفسه في حوار مع نفسه، يعاتبها، يعاندها، يعانقها، يصفعها، يبكي معها، يهدهدها، يتسلّق معها لاهثاً شعاباً لم يطأها من قبل.
تقول جوليا كاميرون إنّ على الكاتب أن يدع الكلمات تتشكل فوق بياض الورق بعفوية، دون أن يسمح للجانب المثالي فيه بالتدخل، ولا للناقد المثبّط، الذي يختبيء في أعماقه، أن يضع من قيمة فكرته أو لغته أو عباراته.. وبالنسبة لأمثالي دون أن تتدخّل المنهجية الأكاديمية بصرامتها لتتحكّم في الأدبي، الحامل معه نزقه ومخياله، وربما خروجه عن المعتاد. وهو ليس بالأمر السهل!
إنها تطلب من الفنان أن يكتب.. مجرّد أن يكتب…
يكتب أي شيء، مهما كان تافهاً أو ركيكاً.. المهم أن يكتب.. فهي تؤمن بأن كتابة ثلاث ورقات يومياً من شأنها أن تفكّ أسر الكلمات والعبارات والأفكار المتكلّسة في حنايا الذات، وأن تخفّف من العقبات النفسية والذهنية التي تحول بين الفنان وحلمه الإبداعي القابع في لاشعوره.. هذه العقبات التي تؤثر، في الحقيقة، في مسار حياته كاملاً، فتقضّ مشاعره بالإحباط والخيبة والعجز.
إن ممارسة الكتابة العشوائية، أو بالأحرى العفوية، التي لا تخضع للتخطيط أو التصحيح أو إعادة الكتابة، إنما هي، حسب كاميرون، وسيلة ناجعة لإطلاق عقال القلم، وفتح مسارات الفكر، والإذن للمشاعر المكبوتة الجياشة.. المرَاقَبة بعدسة الروتين اليومي، والمصفّدة بأغلال شروط الموهبة، والمأسورة بالحسرة على ما فات، والبكاء على بنات الأفكار المحنّطة في تلافيف الفكر وحنايا المشاعر.. الإذن لها بأن تخرج إلى الصفحات البيضاء متمطيّة مطمئنة، أو متسرّعة قلقة.. تتشكل وتتكوّن رويداً رويداً لتتراكم مع الأيام، علّ منها يتخلّق عمل إبداعي جيّد وجديد.
الصباح الخريفي يحاول، مثل أفكاري ومشاعري، أن يشرق متغلّباً على السحب الرمادية المهيمنة عليه. الساعة السابعة صباحاً، والشمس لم تشرق بعد.. لا زالت تصارع الغمام لتفترش السماء، مقبّلة وجوه البشر المتوجّهين بحماس نحو أعمالهم، ومباركة خطواتهم الحثيثة، وتفجّر الحياة في عروقهم.
سأخرج بعد ساعتين إلى الجامعة لأدرّس الفترة الصباحية ثمّ أعود ظهراً لأبدأ استعداداتي لأيام العيد.. مُحاولةً خلق جو مستبشر ينافس أعياد الغرباء، الذين طالما يحاولون تصنّع الفرحة، وتجاهل مشاعر افتقادهم للوطن والأهل والأحباب.
انتهى رمضان.. هذا الشهر الملكي المبجّل الذي يأتي بهيبة محببة وروح شفافة، ليزرع في محبيه هذا التوق الروحاني المبارك. لكن تقصيري فيه كبير ومؤسف.. فقيام الليل لم يكن منتظماً، والذهاب للتراويح ظلّ متقطّعاً.. وحدها تلاوة القرآن كانت منتظمة، أو شبه منتظمة.. فاغفر اللهم واعفُ وتجاوز، وضاعف الأجر، واجمع يا ربنا همّنا كله فيك.
الحمد لله أن العيد يأتي مع عطلة نهاية الأسبوع، لذلك سيكون بإمكاننا أنا ومحمود أن نتصل بأهلنا وأصدقائنا، في دار الغربة هذه وفي الوطن المكبّل، لنهنئهم بالعيد (أمسكت بورقة أخرى لأكتب فيها أسماء من يجب الإتصال بهم، لكنني سرعان ما اكتشفت أن ذلك قد يؤدي إلى التشتت أو الهروب من تكملة الأوراق، فعدلت!)
ها هي الصفحات الثلاثة قد قاربت على الانتهاء.
لا أدري بالتحديد ماذا كتبت.. لكنني سعيدة بأنني لم أخط على كلمة، ولم استبدل عبارة بأخرى، ولم انتقل من مسوّدة إلى مبيّضة،[1] وإنما تركت الكلمات تنساب لترتسم على الورق في عفوية، لم يسبقها اختيار موضوع، أو تحديد إحساس.. بل ودون تصوّر لما آلت إليه هذه السطور وما هي درجة ترابطها أو تفككها، منطقيتها أو لا منطقيتها.. هذه هي الوصفة وسأتابع التجربة.
كانتون – متشجن، الخميس 3/11/2005
[1] – قمت عند نقل الأوراق إلى الكمبيوتر بتصحيح بعض الكلمات المحدودة.