أحـلام عـمار الـعـيـدودي
عبر مقالي السابق عن (رواية صندوق الرمل) للكاتبة الليبية عائشة إبراهيم والذي نُشر في صحيفة فبراير(1) وبرغم ما حدث فيه من خطأ في نقل المادة تفاجأت به أنا شخصياً وقد تفضل حينها المهندس عبدالسلام مسعود مدير مكتب باريس والمدير الإقليمي (ليبيا – تونس – الجزائر- العراق) لموقع شبكة المدار الإعلامية الأوروبية بإعادة نشر المقال مرة أخرى بصورته الصحيحة.(2) أشرت في المقال السابق الذكر إلى ما تحويه هذه الرواية من محاكاة لمسلسلات مكسيكية ،ومشاهد من فيلم عمر المختار، ومحاكاة لروايات ليبية ذكرتها وأخرى لم أذكرها.
إن المحاكاة بالنسبة لي هي ليست عيباً في النص بقدر ما هي ظاهرة أدبية وجب دراستها وتحديدها وتتبعها والإشارة إليها وتحديد وجودها ومدى تأثيرها في النص الروائي الليبي على وجه الخصوص؛ وحيث يرى بعض أساتذتي أن انسب المناهج النقدية لدراسة أي نص روائي هو( المنهج السيميائي) الذي ينطلق في تحليله للنص الأدبي بوصفه يحتوي على بنية ظاهرة ،وبنية عميقة، وهذا ما حاولت تأكيده من خلال مقالي النقدي الذي قدمته في رواية(الكلب الذهبي) للكاتب الليبي منصور بوشناف.(3)فمن خلال تسليط الضوء على الأبعاد الدلالية المختلفة لمفهوم المحاكاة يُنظر اليها كظاهرة اتصال سيميائية ؛ لأنها مرتبطة بالتقليد والتمثيل والمفاهيم السيميائية الأخرى.(4) وهذا يدل على أنها ظاهرة أدبية “سيميائية” يهمني كطالبة ماجستير متخصصة في الأدب والنقد دراستها والكشف عن وجودها في الرواية الليبية بالذات.!
مـحـاكــاة الأفـكـار وإعادة تدويرها شـكـلاً وأسـلـوبـاً:
وصلتني رسالة على بريدي الخاص من إحدى الطالبات بالأكاديمية الليبية مصراته سألتني سؤالا مهما جداً هو في الحقيقة سؤال سيدور في ذهن القارئ لهذا المقال، والسؤال هو: هل يمكن أن يتكرر استخدام نفس الفترة الزمنية من أكثر من كاتب وفي روايات مختلفة؟ والإجابة: نعم! يمكن لأكثر من كاتب استخدام نفس الفترة الزمنية بل والمكانية لصناعة أحداث روايته، ولكن بطريقة مختلفة وأسلوب وشكل مختلف من ناحية الشخصيات وطبيعة سرد الأحداث، باستخدام رؤية وتقنية مختلفة تماماً، ودون أن تكون أحداث تلك الرواية عبارة عن محاولة لتدوير فكرة أساسية لنص سابق. وعن تدوير نفس الفكرة؛ فقد يقف القارئ أثناء قراءته لنص روائي ويشعر أنه قد قرأ جزء من عتبة معينة في نص روائي آخر لنفس الكاتب أو لكاتب غيره، وهذا في الحقيقة وارد وهذا ما يسمى إعادة تدوير نفس الفكرة، وفي هذا يقول بارت: “تكون كتابة النص لاحقة لقراءته بقدر ما يكون متعدداً”.(5) لكن عادة ما يكون ذلك بين نصوص من لغات مختلفة أو ثقافات مختلفة أو في نص آخر لنفس الكاتب، وإن حدث من كاتب أن أعاد تدوير فكرة كاتب غيره من نفس ثقافته وبيئته ،يشير إلى ذلك في موضع ما في الرواية كالمقدمة مثلا، أو في احدى الندوات أو اللقاءات التي تتم لتقديم روايته تلك، وبذلك يرفع الحرج عن نفسه وعن نصه.
في هذا السياق نشر الكاتب الليبي صالح السنوسي عبر صفحته الشخصية على الفيس بوك يوم التاسع من فبرابر من هذا العالم منشوراً قال فيه:( تواصل معي بعض القراء الذين قرأوا رواية صندوق الرمل :لأنهم يروا في هذه الرواية تقليداً وتدويراً لفكرة روايتي الهروب من جزيرة أوستيكا، فقلت لهم إذا كانت الروائية قد أشارت في مقدمة روايتها على هذا التأثير فهذا أمر مقبول مهما كان حجم التدوير؛ لأنه سبق للروائي الإرغوياني كارلو ليسكانو أن كتب في مقدمة روايته (ذكريات الحرب الأخيرة) أنه قرأ رواية الروائي الإيطالي دينو بوتزاني (صحراء التتار) عندما كان في السجن وأنه مدين له بذلك، أما إذا صح ما تقولونه ولم تشر الروائية إلى ذلك فإننا نكون أمام تدوير للفكرة وإنكار ذلك في نفس الوقت…)(6) واحقاقاً للحق فإن المتتبع لجميع لقاءات الكاتبة (عائشة إبراهيم) لم تُسأل عن أنها إعادة تدوير فكرة رواية الهروب من جزيرة أوستيكا حتي نقول إنها أنكرت ذلك التدوير! وفي نفس الوقت لم تضع مقدمة في بداية روايتها تذكر فيها تأثرها بأي شكل من الأشكال برواية “الهروب من جزيرة أوستيكا” التي صدرت قبل روايتها صندوق الرمل بنحو ثلاث سنوات.
عن نفسي لم اقرأ هذا المنشور الذي نشره الأستاذ صالح السنوسي الا بعد نشر مقالي الأول عن رواية صندوق الرمل، وكانت قراءتي له بمحض الصدفة. إن الكاتبة عائشة إبراهيم تناولت فعلا في العتبة الرابعة عشرة من روايتها “صندوق الرمل تحت اسم “السفينة سان جورج – الطريق إلى أوستيكا” العديد من الأحداث حول نفي تم لشخصية روايتها (حليمة) التي وقع في حبها الجندي الإيطالي ساندرو ومن عنوان العتبة ينتابك الشعور بأن ما تقرأه ليس بجديد عليك، خاصة إذا كنت من الأشخاص الذين قرأوا رواية “الهروب من جزيرة أوستيكا”.!
عــرض تـقـابـلي بـيـن الـنـصـيـيـن:
اولاًـ رواية الهروب من جزيرة أوستيكا:
قبل ست سنوات وبعد حلول ظلام أحد أيام شهر يناير في السنة الرابعة من العهد “الفاشيستي” الموافق لعام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين، تحرك مركب صغير من بين السفن الراسية في ميناء بنغازي ليرسوا على أحد الأرصفة المعزولة في الطرف الغربي من الميناء، حيث ينتظر طابور من الرجال المكبلي الأيدي تحت حراسة شرطة ” الكارابنيري” وخلفهم جنود بنادقهم تبرق شفرات حرابها تحت الإضاءة الخفيفة التي يسلطها المركب على الرصيف لكي يتمكن هؤلاء الرجال المكبلي الأيدي من رؤية طريقهم إلى جوف هذا المركب…ص2
يقابله في رواية صندوق الرمل:
1-عندما أخرجوهم من المعتقل في جنح الظلام، عندما اقتادوهم باتجاه البحر، حيث تنتظرهم مراكب الرحيل…ص144.
2- ورست السفينة عند أرخبيل صخري حين لم يعد باستطاعتها التقدم في المياه الضحلة، فسارعت نحوها قوارب صغيرة كجِرَاء ضبعة…ص149
3- ووقفنا في الجزء الأخير من الطابور عند حافة الجرف الثاني…ص149
ثانياً: من رواية الهروب من جزيرة أوستيكا:
دفعوا بهم في سرداب مظلم لا ينير طريقهم فيه سوى مصباح صغير في يد أحد الحراس إلى أن وصلوا إلى نهاية القبو، فتراجع حامل المصباح فأختفى الضوء وسمعوا صرير أكثر من باب حديدي خلفهم تردد صداه في حلكة الظلام الدامس. ص3
يقابلها في رواية صندوق الرمل:
اقتادوهم نحو درج يهبط إلى الأسفل، إلى مكان أكثر ظلمة، عبر باب صَدِئٍ، يقضي إلى قاع مجهول…ص145.
ثالثاً: من رواية الهروب من جزيرة أوستيكا:
تقدم المترجم ليقف إلى جانبه ويخبرهم بأن الماجوري” دانادوني” يريد أن يتحدث إليكم فأنصتوا. ص4
أخذ الماجوري “دانادوني” يشرح لهم اللوائح المعمول بها في السجن والإجراءات والعقوبات التي تطبق على من يخل بالنظام…ص4
يقابله في رواية صندوق الرمل:
وفي كل مرة يخفق الترجمان اليهودي، الذي يردد الكلمات بحروف خائية، في شرح التعليمات للسجناء…ص149.
رابعاً: من رواية الهروب من جزيرة أوستيكا:
كان اليوم الأول طويلاً تخللته مفاجأة محزنة عندما قامت إدارة السجن وهم ما يزالون مكبلي الأيدي بحلق رؤوسهم ولحيهم وشواربهم، فكان ذلك صدمة كبيرة لبعضهم ولاسيما المشايخ الذين اعتبروا ذلك مساساً بكرامتهم ورجولتهم فقال الشيخ مسعود الجارح متأثراً: كنت أتمنى أن يعدموني على سفح هذا الجبل من أن يقيدوني ويحلقون لحيتي.
يقابله في رواية صندوق الرمل:
كان يوماً بائساً وثقيلاً، وفي كل مرة يخفق الترجمان اليهودي، الذي يردد الكلمات بحروف خائية، في شرح التعليمات للسجناء، وقفوا ببلاهة لا يعرفون ما الذي ينبغي عليهم فعله حينما يصرخ في وجوههم الضابط المرقط بالنمش مشيراً إلى اتجاه البحر.
– لعلهم يريدون منا العودة إلى البابور…
السياط التي انهالت على الأجساد كشفت فحوى الأوامر، انحنى الرجال بانكسار، ونزعوا عنهم جُرُودهم، وكوموها جانباً، صاح الضابط مكرراً الأوامر بغضب بالغ، ثم صاح التُرجمان، انحنوا ثانية، وانزعوا كلًّ شيء.
في اللحظات الموالية، حين اقترب الترجمان من النساء، وطلب منهن الأمر ذاته، أطلقن بهلع موجة من الصراخ الهستيري، وركضن مذعورات باتجاه البحر…ص149-150.
خامساً: من رواية الهروب الي جزيرة أوستيكا:
هروب سالم البراني ص76 تناوله الكاتب بكثير من التفاصيل؛ لأن سالم البراني الفار من جزيرة أوستيكا هو الشخصية الرئيسية التي بنى عليها الكاتب صالح السنوسي أحداث روايته (7)
يقابله في رواية صندوق الرمل:
هروب سليمان ص182الذى قدمته الكاتبة بشكل مختصر وكحدث عابر ولكنه كان مؤثر في أحد الشخصيات التي كانت من ضمن المنفيين في سجن أوستيكا.
حسناً ما عرضته في العرض التقابلي بين الروايتان هل هو محاكاة أم إعادة تدوير للفكرة.؟
إذا أردنا الإجابة على هذا السؤال بشكل صحيح علينا أن نفكك ونحلل أنموذجان مما سبق وليكن النموذج الرابع لنعرض ما جاء في الهروب من جزيرة أوستيكا:( كان اليوم الأول طويلاً تخللته مفاجأة محزنة عندما قامت إدارة السجن وهم ما يزالون مكبلي الايدي بحلق رؤوسهم ولحيهم وشواربهم، فكان ذلك صدمة كبيرة لبعضهم ولاسيما المشايخ الذين اعتبروا ذلك مساساً بكرامتهم ورجولتهم فقال الشيخ مسعود الجارح متأثراً: كنت أتمنى أن يعدموني على سفح هذا الجبل من أن يقيدوني ويحلقون لحيتي.) ما تناوله الكاتب في هذا الجزء هو تجسيد لطرق وأساليب المحتل المستعمر في إذلال وإهانة الشعب الليبي الأعزل، بدأ الكاتب عرض كلامه بأنه كان يوم طويل، حسنا في النص المقابل له في رواية صندوق الرمل ابتدأت الكاتبة بقولها: كان يوماً بائساً وثقيلاً، واستمرت عائشة إبراهيم لتصف لنا بنفس الطريقة التي اتبعها صالح السنوسي ،محاولة تجسيد طرق المستعمر وأساليبه في إهانة وإذلال المواطن الليبي عن طريق جعل جميع المنفيين رجالا ونساء وأطفالا عراة أمام بعضهم البعض:( كان يوماً بائساً وثقيلاً، وفي كل مرة يخفق الترجمان اليهودي، الذي يردد الكلمات بحروف خائية، في شرح التعليمات للسجناء، وقفوا ببلاهة لا يعرفون ما الذي ينبغي عليهم فعله حينما يصرخ في وجوههم الضابط المرقط بالنمش مشيراً إلى اتجاه البحر.
– لعلهم يريدون منا العودة إلى البابور…
السياط التي انهالت على الأجساد كشفت فحوى الأوامر، انحنى الرجال بانكسار، ونزعوا عنهم جُرُودهم، وكوموها جانباً، صاح الضابط مكرراً الأوامر بغضب بالغ، ثم صاح التُرجمان، انحنوا ثانية، وانزعوا كلًّ شيء.
في اللحظات الموالية، حين اقترب الترجمان من النساء، وطلب منهن الأمر ذاته، أطلقن بهلع موجة من الصراخ الهستيري، وركضن مذعورات باتجاه البحر…
الــخــلاصــة:
بما أن القراءة تشكل تأويلات الأدب وأفكاره لا يمكن الحديث عنها دون اشراك فاعل أساسي وهو القارئ، وهذا ما أكده رولان بارت بقوله: (النص وليد كتابات متعددة، تنحدر من عدة ثقافات فتدخل في حوار وتقلد بعضها، وتدخل معه في جدال، لكن هناك موقع يجتمع عنده هذا التعدد هذا الموقع ليس هو المؤلف، كما قيل حتى الآن، وإنما القارئ) (8) لذا استطاع القارئ لروايتي الهروب من جزيرة أوستيكا، وصندوق الرمل أن يجتمع في ذهنه ذلك التعدد الذي قصده رولان بارت. إعادة تدوير فكرة نص ليست عيباً وهذا ما أكده أيضاً الأستاذ الكاتب صالح سويسي فيما نشره على صفحته الشخصية، وإعادة تدوير الفكرة يمكن النظر إليها بوصفها ظاهرة سيميائية مثلها مثل المحاكاة، ولكن كما أسلفت الذكر كان التنويه عليها واجباً من طرف الكاتبة الأستاذة عائشة إبراهيم؛ لأنها أعادت تدوير فكرة رواية من نفس الأدب “الأدب الليبي”! لتصبح النتيجة واضحة أمامنا: نفس الأدوات في الوصف لا اختلاف كبير، فقط بعض التحوير والتدوير في طرح الفكرة وتغيير في بعض الأسماء.
الــهــوامـــش
- مقال صندوق الرمل بين التاريخ والفاعلية الاجتماعية – صحيفة فبراير العدد1218 الصادر يوم19-يونيو2023.
- https://www.almadar.be/archives/173408اعادة لنشر مقال صندوق الرمل بين التاريخ والفاعلية الاجتماعية.
- https://www.almadar.be/archives/175156مقال صوت الراوي الساحر في رواية (الكلب الذهبي)
- المحاكاة كظاهرة التواصل السيميائية – تحرير بواسطة: شريهان حوامده.
- الأدب وإعادة تدوير الأفكار والتعبيرات والصور والشخصيات – أكتوبر.
- https://www.facebook.com/saleh.senoussi.9?mibextid=ZbWKwLالصفحة الشخصية للكاتب صالح السنوسي.
- رواية الهروب من جزيرة أوستيكا – للكاتب الليبي صالح السنوسي – الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام2018 – رواية صندوق الرمل – للكاتبة الليبية عائشة إبراهيم – منشورات المتوسط – ميلانو إيطاليا – الطبعة الأولى 2022.
- الأدب وإعادة تدوير الأفكار والتعبيرات والصور والشخصيات – مقال نشر في 12 أكتوبر- عهود المخيني.
4 تعليقات
الأستاذة أحلام العيدودي.. في هذه القراءة تفتح باباً مختلفا في نقد الرواية الليبية.
هذه المطالعة النقدية تكشف الكثير، وتلقي الضوء على جانب مهم في السرد الليبي.
شكرا للطيوب هذا النشر
القاء الضوء على جوانب جديدة ومهمة في السرد الليبي هذا ما أطمح له من خلال هذه القرءاة وغيرها، وأرجو أن تفتح هذه القراءة النقدية ثقبا في باب واسع للبحث في هذا الخصوص، صندوق الرمل والهروب من جزيرة أوستيكا قد يكونا نموذجا من نماذج لم تقدم بعد للبحث. اشكرك استاذ أدهم.
أستاذة أحلام، نشكر تعليقك الكريم.
اشكرك استاذ أدهم، يسعدني أن تكون هذه المقاربة بين روايتي:(صندوق الرمل، والهروب من جزيرة أوستيكا) تفتح باب جديدا ومختلفا في الدراسات النقدية.