النقد

رواية نبش في ذاكرة الماضي- إعلاء القيم من أجل الحاضر

سكان مدينة غدامس (الصورة: عن الشبكة)

تتكئ رواية (نبش في ذاكرة الماضي) للروائي الليبي إبراهيم الإمام، على أحداث قديمة شهدتها مدينة غدامس في العهد العثماني ابان هجوم حاكم تونس الباي رمضان على المدينة والتصدي الشجاع الذي أبداه السكان وتضحياتهم الجسام من أجل مدينتهم فتتعدد أصوات السرد ليحكي عدد من ساكنة المدينة قصة مشاركتهم في صد هذا الغزو. النص يعلي من القيم الإنسانية والبطولات والتضحيات التي قدمها الرجال والنساء من أجل مدينتهم حتى تحقق لهم النصر، وتستند فكرة السرد على ترجمة وقراءة وثائق قديمة وجدها البطل السارد في جراب جلدي كان قد دونها أحد شهود تلك الموقعة الغابرة.. يقوم البطل السارد بقراءة الوثائق ويعيد معالجتها وإدماجها لتظهر في صورة رواية.

الحبكة تتبع أسلوب الميتاسردية، فنحن في رواية بعنوان (نبش في ذاكرة الماضي) تتحدث عن (رجال حول غسوف) وهي رواية أخرى مدونة في وثائق كتبها ذلك الشاهد العابر قبل أكثر من 400 سنة. وسارت الحبكة بأسلوب منضبط في هارمونيك إيقاعي متواتر يكشف أحداثاً تاريخية انثربولوجية، يتداخل فيها الصراع من أجل البقاء والكرامة والحرية، مع تمظهرات الحياة الاجتماعية والثقافية والقيم الإنسانية، حيث يستحضر الكاتب البيت الغدامسي القديم وتفاصيل القرية، ملامح الحياة والعادات والثياب والطعام والعطور والأهازيج، الحياة الاجتماعية من خلال الحرف القديمة، خياطة الجلد وصناعة الأحذية، الطبخ ورائحة الطعام، رائحة عطر التافندا الذي تتعطر به نساء الواحة، هذه المشاهد تفلح في تأثيث النص باللون والرائحة والدندنات الموسيقية وفي كل مرة يضبط الكاتب الإيقاع على الخط المحدد له من دون تشتيت أو تنقلات مربكة.

الشخصيات في هذه الرواية كانت متنوعة، حرص الكاتب على إبراز أفضل ما لديها وبما يخدم النص، وعلى اعتبار أن الرواية منقولة عن وثائق قديمة فقد كانت طريقة عرض الشخصيات ملائمة تماما للسياق الملحمي، فكل شخصية تتحدث كشاهدة على تلك الواقعة، فهناك للا عيشا الأم التي تفتتح مقاليد الحكايات لتخبر ابنها عن بعض الشخصيات التي ساهمت في تلك الحرب، لتأتي بعد ذلك شخصية للا مبروكة التي فقدت خطابها الأربعة الذي قتلوا في تلك المعركة، وكأن الرواية تصالحت مع تضحيات النساء فأنصفت حضورهن كفاعلات واعيات قويات يملكن العزم والمبادرة، فهنالك القابلة الفقيرة التي دفعت ثمن عشاء أطفالها للمساهمة في توفير المال، وللا تيما التي آثرت تقديم نفقات تعليم ابنها الذي كان يتأهب للسفر، والشابة التي تنازلت عما جمعته لتجهيز عرسها، هنالك أيضا عدد من الرجال التاجر والحداد والكهول والرجل الضرير والفتيان اليافعين، وجميعهم ذكرهم هكذا غفلا من الأسماء لضرورة اجتماعية متجاوزة لحضور الأنا الذاتية، وفسر ذلك في أماكن كثيرة من الرواية بأن أهل الواحة لا يحبون الحديث عن أنفسهم كأشخاص مستقلين، بل كجزء من المجموع.

الحوار جاء متناغماً مع لغة النص ومستوى الأحداث، وغطى بشكل كاف المعلومات التي أراد الكاتب إبرازها كشهادات تاريخية، وتخلص بشكل جيد من اللغة التقريرية، يمكن القول إن الحوار هو من قام بعرض أحداث الرواية بشكل تفصيلي من خلال إشراك الشخصيات في سرد الأحداث وتطوير الخط الدرامي كي يتخلص من الأسلوب الحكائي الذي تفرضه في العادة الرواية التاريخية.

الرواية تاريخية بامتياز، واستطاع الكاتب من خلالها أن ينتخب أحداثا معينة متنوعة تشد نسيج النص وأن يصور الحالات النفسية التي لامسته من ذكرى تلك الواقعة وإعادة إحيائها لدى المتلقي كقيمة إنسانية نبيلة تعيد إنتاج رسائلها لدى الأجيال.


رواية نبش في ذاكرة الماضي، فازت بجائزة أحمد ابراهيم الفقيه للرواية الليبية في نسختها الثانية- العام 2022.

مقالات ذات علاقة

المهدوي شاعر الثورة في ليبيا

عادل بشير الصاري

قراءة في نص (ناسكة في محراب الحب )

المشرف العام

قراءة في مجموعة:الخيول البيض.. للقاص “أحمد يوسف عقيلة”

عبدالرزاق العاقل

اترك تعليق