المقالة

بيتهوفن الذي لا يغادرني!

بيتهوفن
بيتهوفن


عرفت بتهوفن في سن مبكرة، عبر القراءة التي قادتني إلى الاستماع لموسيقاه. البداية كانت من كشك صغير في حي المحيشي ببني غازي الذي أسكنه يبيع الكتب والمجلات والجرائد، وكان من ضمن معروضاته كتب تتحدث عن المشاهير من موسيقيين ومخترعين وقادة وعلماء وجغرافيين وفلاسفة إلخ، وقد شدني كثيرًا كتاب بيتهوفن وصورته التي على غلافه وهو يرتدي الرداء الشبيه برداء إمبراطور روماني وأيضًا شعره المموج ونظرته المعبرة التي تقول الكثير، اشتريت الكتاب وبدأت أقرأه عرفت قصته وموسيقاه وصممه وأهميته الفنية وبدأت بعدها أبحث عن موسيقاه في أشرطة الكاسيت وفي أثير الإذاعات وتشاء الصدف أن آتي إلى مدينة بون مسقط رأس بتهوفن عام 1979 وكنت مبتهجًا جدًا وأنا أرى تمثاله البرونزي المهيب في ساحة مونستر بلازا.
وقفت أمامه وحييته وقلت له وأخيرًا التقينا أيها الفنان الذي أحب، فدعاني بتهوفن إلى بيته الذي تحول إلى متحف في شارع في Bonngasse 20 وهناك تجولت في كل غرفه واستمتعت بتأمل بمقتنياته من نوتات موسيقية وآلات وأدوات تعين السمع، وحتى مهده الذي ولد عليه، ثم قال لي الآن أتركك، سأذهب إلى الحانة لتناول الطعام وجرعتي المعتادة من الكحول، يمكنك أن ترافقني إلى هناك أو تبقى في المعمل الصوتي تستمع للسيمفونيات والسوناتات والرباعيات وبقية القطع الموسيقية، وقلت له غذائي موسيقاك، فعانقني وغادر.

دخلت غرفة الاستماع أو المعمل الصوتي، ثبت السماعات على أذني وأدرت زر المذياع وأخذت أهتز مع الموسيقى وأحرك يدي لا شعورياً كمايسترو الفرقة وعندما انتهت السيمفونية وهدأت يدي وأزلت السماعات من أذني، وجدت في الكرسي الذي بجانبي فتاة ألمانية إلى جانبها جيتار تبتسم لي وتصفق بهدوء وببطء وفي عينيها بلل ليس بلل دموع إنما ألق أو حبور أو رضا أو ابتهاج؛ أو بالأحرى مطر سماء اندلق في العيون، بادلتها الابتسام وقلت لها: شكرًا لك، قالت لي: ich bin كريستينا، وقلت لها: ich bin محمد، قالت لي: أنا أعرف السيمفونية التي كنت تستمتع بها وتابعتها من خلال حركات يديك كمايسترو وكدت أخرج جيتاري وأصاحب السيمفونية، غير أن المتحف يحظر عزف أي موسيقى داخله.

خرجنا معًا من بيت بتهوفن إلى ميدان سوق بلدية بون، ومنه مررنا إلى ساحة مونستربلازا حيث يربض التمثال، وهناك أخرجت كرستينا جيتارها وقالت لي: يشرفني أن تصاحب عزفي بحركات من يديك، حركات كالتي كنت تلعبها وأنت تستمع لموسيقى بتهوفن في بيته، وبدأت تعزف وبدأت أصاحبها كمايسترو، صارت تتبع حركات يديي وصار المستمعون يكتظون حولنا وينفحون صندوق الجيتار بالقطع النقدية. ذاك اللقاء القديم مع عازفة الجيتار ساعدني كثيرًا كي أتحول إلى كاتب، طيلة ثلاثة شهور نلتقي يوميًا تحت تمثال بتهوفن ونتعلم ونكتشف في بعضنا أشياء جديدة، هي كورس الاندماج الفعلي بالنسبة لي، وبعد أن غادرت ألمانيا ظل بتهوفن نشطًا في رأسي وحينما ضعف سمعي لم أشعر بالغضب إنما بالسعادة، قلت سيكون لي شأن كبير ذات يوم، فلن أسمع تلوثًا صوتيًا بعد اليوم و سأركز على الإبداع.

عام 1999 دخلت عالم الكتابة، فكتبت عدة قصص وروايات وكان من الضروري أن يطل بتهوفن وموسيقاه بين حين وآخر ليجعلا النص أكثر جمالًا وعالمية، في روايتي “بوق” الصادرة عن دار ميسكلياني في تونس هذا العام، والتي تتناول مقبرة ألمانية بمدينة طبرق نقرأ الآتي: “حشود قتلى الحلفاء تقترب أكثر وأكثر، وموسيقاها التي ليست غريبة عن أسماعنا غطت على هدير نشيدنا الحربي رغم أننا الآن ننشد بأقصى ما تملك حناجرنا من صوت، موسيقا يعزفها العدو الميت تسكتنا يا للألم..
حسنا فلنصمت نحن ولننصت لموسيقاهم التي بدت الآن واضحة جدا، غطت حتى على أصوات أحذيتهم التي يضربون بها الأرض بقوة، ماذا يريدون منا في يوم فرحتنا هذا؟ سينكدون علينا بالتأكيد أم أن الغيرة من المقبرة الجميلة التي بنيناها أحرقتهم، لا ندري بالضبط الآن ما نفعل، موسيقا ساحرة شتتنا، علينا أن ننتظر ليقتربوا أكثر لنعرف غرضهم..
ربما أتوا إلى التهنئة بافتتاح المقبرة أو فرحة بجمعنا معا بعد أن ظللنا أعواما مبعثرين في الخلاء ومدفونين تحت التراب دون صلاة، الآن يقتربون أكثر وأكثر، وأصوات حديثهم في الطريق واضحة جلية، اللعنة إنهم منظمون جدا، قادمون كتشكيل عسكري في زمن الحرب، لكن الفرقة الموسيقية التي تتقدم كل منهم تعزف ألحانا غير حربية، ليست مارشات عسكرية، تعزف موسيقا نعرفها جيدا، تعزف ألحانا عاطفية إنسانية، تعزف مقاطع من سيمفونية بتهوفن التاسعة أنشودة الفرح!

لكن بتهوفن موسيقي ألماني كبير ولد في بون ومات في فيينا حتى وإن كان اسمه هولندي، أيعقل أن يعزف قوم شكسبير موسيقاك؟ وماذا يريدون من ذلك بالضبط؟ ماذا في رأسهم البارد بالضبط؟ الإنجليز لا يقدمون عواطف مجانية، كل ابتسامة بثمن، كل رشفة شاي وقضمة بسكويت بثمن، الموسيقا تكاد تلتصق بنا، إنها تسبق خطواتهم المتجهة إلينا، إنها قريبة جدًا الآن، تطرق قلوبنا بود، وفعلًا دخلتها بسلام دون مقاومة وبدأت تتسلل إلى أرواحنا وتزرع فيها شيئًا ما اسمه أمان..
آه من موسيقا جعلتنا نثق فيها ونستسلم لها، وهم عليهم اللعنة بارعون جدا، يجيدون عزف موسيقانا بمهارة، حتى القرب الاسكتلندية نجحت في عزفها، هل أنفاس بتهوفن المنغمة المتسكعة عبر الأثير ساعدتهم وسهلت لهم الأمر؟ استنشقوها بحب وزفروها بحب في القرب وحركوا أصابعهم بحب، حسنا سنمثل دور الأطرش اللا مبالي، ولا نهتم بموسيقاهم، حتى نحس في داخلنا أن موسيقاهم ورود لا تخفي شوكا وسط أنغامها، أي أن موسيقاهم رسالة سلام، أي نغم سلام، لقد انتهت الحرب، وها نحن الموتى من الحلفاء والمحور في الهواء سواء، كلنا ميتون أكلنا الدود والتراب والزمن، كلنا مدفونون في حفرة، كلنا وحيدون دون قادتنا وساستنا الذين أرسلونا إلى هذا المصير التعس..

عندما وصلت الأرتال الثلاث للمقبرة لم تدخلها وطوقتها من جميع الجهات وصارت تعزف سيمفونية بتهوفن التاسعة الحركة الرابعة وتتغني بأشعار شيلر الداعية للسلام والرحمة والأخوة والحب وعندما انتهت السيمفونية استدارت الأرتال إلى الوراء في نظام وغادرت عائدة إلى قبورها في الجبانات الثلاث، عفوا ما هذا يا رب؟ كنا نقتل بعضنا والآن نغني لبعضنا، لماذا لم تكتب مثل هذا في قدرنا ونحن أحياء؟ عام 2015 كنت في سفارة ألمانيا بتونس وسألتني الموظفة ما المدينة التي تحب أن تقيم فيها؟ قلت لها بون، لأن بها صديق عزيز اسمه بتهوفن التقيته من قبل 35 سنة وقال لي مرحبا بك في كل وقت، بيتي حتى وإن صار الآن متحفا هو بيتك، قالت لي لكن بتهوفن مات منذ زمن بعيد، قلت له مات عند الرب لكن عندي سيظل حيا.
____________________________________________
– المقال بمناسبة مرور 250 عام على ولادة بيتهوفن

مقالات ذات علاقة

سعيد المحروق ونقد العقل الكروي

سالم العوكلي

أين ليبيا التي عرفت؟ (18)

المشرف العام

سالم الغائب الذي كان صديقي، وعاد بي إلى طفولتنا!

محمد قصيبات

اترك تعليق