عامر الدبك | سوريا
هناك في أقصى الغرب، على ساحل البحر المتوسط، بسطت بساتينها من التفاح الذهبي، وجرى نهر النسيان أو نهر الحياة، أو نهر (الليثون)، ذاكرة من الأسطورة والحكايات لا تنتهي، لتبقى أسطورة بنغازي الغامضة التي حملت أسرارها وكتبت أقدارها بماء الخلود.
وحين نقرؤها في معجم الأسماء ودليل معانيها، ينهض اسم (يوهسبيريدس، وهسبيريدس، ثم هسبيريس) الذي يعني باليونانية أقصى الغرب، أو حدائق التفاح الذهبي، وربما المساء أو الغروب حسب أسطورة إيوس، لتكتسب في العهد البلطمي اسم برنيس متطوراً إلى برنيكس، ليصبح الاسم في العصر البيزنطي فرينشيدي، ثم برنيق ترجمة لبرنيس في اللغة العربية.
لكنها في المعنى؛ مدينة البساتين أو المزارع أو الحدائق الواقعة في أقصى الغرب، حين يختلط الرمل بالملح، وباللغة في ذاكرة بعض المسنين يصبح اسمها (كوية الملح) أي قرية الملح حين أعادها إلى الحياة جماعات التجار القادمين من إقليم طرابلس، من ناجوراء ومسلاته وزليتن، لتمنح الآخرين ملح وجودها، قبل أن يطلق عليها اسم بنغازي في عام (1450م)، ليظهر إلى الوجود مرسى بني غازي في العام (1579م).
وبرغم الأهمية البالغة في الحديث عن تاريخ نشأة المدن، فإن ذلك يضع المدن في مختبرات الزمن وهي تتحول بين الغياب والحضور، حاملة معها تحولات الناس والأفكار والعادات والأسماء، فإن هذه الأهمية تكفيها الإشارات التي تفي حق العبارة في التأويل التاريخي.
هكذا كانت بنغازي تغيب وتظهر، في مدونة الزمن الجغرافية والتاريخية، وكما يرى المؤرخ والباحث محمد مصطفى بازامة: (إن مدينة بنغازي صارعت الزمن وعادت إلى الحياة مرتين، فاستمرت موجودة بصورة مؤكدة تاريخياً منذ (2500) سنة، فهي لذلك من أقدم المدن الليبية عهداً وأطولها تاريخاً).
ويشير بازامة إلى أن بنغازي قامت منذ نشأتها على التجارة، حيث تركزت تجارتها في ثلاثة ميادين: تجارة الملح، وتجارة الاستيراد والتصدير، والزراعة وتربية الحيوان. إلا أن تجارة الملح كانت هي الأكثر حظاً في هذه المدينة، لوقوعها وسط ملاحات كبرى (سبخة جليانة، سبخة الكيش، سبخة السلماني، سبخة سيدي يونس). ولعل قرب الملاحات من الفُرضة الطبيعية الصالحة لرسو السفن، وحاجة الكثير من البلدان الأوروبية إلى ملحها، جذب السفن إليها، لتستمر هذه التجارة في المدينة حتى بدايات القرن العشرين. وإبان الاحتلال الإيطالي كان الملح مجمعاً على شكل آكام، فأطلقوا عليها اسم ميدان الملح.
ولأن الحرب عمياء تحمل ذاكرة الموت أياً كان دافعها، فقد تعرضت المدينة أثناء الحرب العالمية الثانية لدمار وقصف شديدين، حيث تم قصفها بالقنابل لأكثر من (1000) مرة. كما تم تبادل السيطرة عليها بالقتال بين قوات الحلفاء وقوات المحور خلال الحرب (4) مرات، لتسقط في المرة الخامسة تحت حكم البريطانيين الذين سيطروا عليها حتى بعد الحرب، وصولاً إلى استقلال ليبيا في (1951).
ومهما تكن يد الحرب قاسية في خلخلة ميزان الحياة، وخلع الكائنات والذكريات من وجودها، إلا أن ذاكرة المدينة الروحية لم تخلع من مساجدها، وزواياها، حيث تذكر مدونة التاريخ أن في بنغازي كان يوجد حتى بداية القرن العشرين (28) مسجداً، وهي: المسجد العتيق الذي يقع وسط المدينة القديمة، وكان يعرف بالمسجد الكبير نظراً لكبر مساحته وضخامة مئذنته، وهي تعتبر أول مئذنة في مدينة بنغازي، ومسجد الوحيشي ومسجد القاضي، ومسجد الدراوي يعتبر من أقدم مساجد مدينة بنغازي، ومسجد الزاوية المدنية ومسجد الحدادة ومسجد المسطاري ومسجد الشويخات ومسجد السلاك ومسجد قصر حمد، وكان هذا المسجد يعرف باسم الزاوية السنوسية، ومسجد بوراس ومسجد دردرة ومسجد النخلة ومسجد دريزة ومسجد أرخيص ومسجد بوغولة ومسجد بالروين ومسجد العقيب ومسجد الشابي ومسجد الشين ومسجد بوغولة بالبركة ومسجد ثكنة البركة ومسجد هدية ومسجد شلوف.
ومن الزوايا الصوفية: الزاوية المدنية وزاوية سيدي عبيد وزاوية بوسحيمة وزاوية القنطري والزاوية الرفاعية والزاوية العروسية والزاوية السنوسية وزاوية سيدي عثمان بحيح. أما من الأولياء؛ فهناك ثلاثة أولياء: سيدي ابن جحا، وسيدي بودبوس، وسيدي المسكين. كما تضم ضريح رمز الجهاد الوطني في ليبيا عمر المختار.
وما يثبته التاريخ الثقافي لهذه المدينة، أن الدعوة السنوسية حققت نهضة كبيرة خاصة في المجال الثقافي بكل أبعاده ورؤاه، كحلقات دروس الفقه واللغة والأدب، التي كان يعقدها العلماء في المساجد والمرابيع والزوايا، وكتاتيب تحفيظ القرآن الكريم الملحقة بالمساجد، ما هيأ لأبنائها صلة متينة بالثقافة العربية الإسلامية العميقة الجذور، ليترك لنا التاريخ الكثير من الأسماء، التي بقيت في الذاكرة الثقافية للمدينة، وفي الذاكرة الثقافية للمشهد الثقافي العربي والإسلامي.
يعتبر الكثيرون مدينة بنغازي عاصمة ثقافية لليبيا. بسبب انتشار المكتبات المختلفة، والصحف والمجلات ودور السينما والفرق المسرحية والفنون الشعبية، ففيها من المسارح: المسرح الشعبي ومسرح السنابل، إلى جانب عدد من دور السينما. كما تعد بنغازي مقر أول جامعة ليبية وهي الجامعة الليبية التي أنشئت في فترة الخمسينيات من القرن العشرين إلى جانب جامعة بنغازي والجامعة الليبية الدولية للعلوم الطبية، وجامعة العرب الطبية، والجامعة المفتوحة الليبية، وأكاديمية الدراسات العليا والجامعة الإفريقية، وغيرها..
ولا يغفل الزائر لهذه المدينة عن بيتها الثقافي، أو (حوش الكيخيا)، معرض بنغازي بطرازه العثماني، الذي يلعب دوراً مهماً في ترسيخ الذاكرة التاريخية لبنغازي، وترسيخ ذاكرتها الثقافية، باحتضانه العديد من المعارض الفنية المختلفة والملتقيات الأدبية والشعرية، إضافة لكونه مقراً لجهاز المدينة القديمة.
وحين نختبر ذاكرة المدينة الثقافية في أسماء أعلامها، ينهض أمامنا اسم الصادق النيهوم، الكاتب الذي أثار جدلاً مازال مفتوحاً على الأسئلة بكتاباته وأسلوبه المميز، دون أن تغفل الذاكرة عن أحمد رفيق المهدوي شاعر الوطن، وخديجة الجهمي أول مذيعة ليبية، والفنان علي الشعالية، والشاعر والباحث عبدالسلام إبراهيم قادربوه، والشاعر الغنائي وأحد مؤسسي فرقة الفن المسرحي (المسرح العربي حالياً) عبدالسلام زقلام، والكاتب الصحافي عمر فخري المحيشي، والفنان رجب البكوش رائد الحركة المسرحية في ليبيا، الذي قام بتشكيل أول فرقة مسرحية في بنغازي سنة (1926)، وفي عام (1961) قام بتأسيس فرقة المسرح الشعبي، وغيرهم كثير ممن أثروا المشهد الثقافي في بنغازي وفي ليبيا والوطن العربي.
ولا بأس من الإشارة في النهاية إلى ذلك الصراع بين الحرب والثقافة، لتنتصر الثقافة في النهاية، هذا ما أثبته الشعب الليبي وأثبته شارع عمر المختار في بنغازي، الذي يعد من الشوارع التي تحفظ للمدينة ذاكرتها الثقافية، لما فيه من المكتبات ودور المطالعة، ولما كان يشهده قبل الحرب من نشاطات ثقافية مختلفة، ليثبت مرة أخرى أن الثقافة أقوى من الحرب حين أقيم فيه معرض فوق الأنقاض احتفاء باليوم العالمي للكتاب عام (2019)، ليكون الكتاب منقذاً من الموت وسبيلاً للحياة ومبشراً بعالم أجمل، برغم ويلات الحروب.
الشارقة الثقافية | العدد الخامس والأربعون، 01 يوليو 2020