قصة

الوجه الثالث للعملة

الذكرى الثلاثون لرحيل الكاتب الليبي سعيد المحروق

من أعمال التشكيلي بشير حمودة.
من أعمال التشكيلي بشير حمودة.

أعيتني الارض وأتعبتني السماء.

أعياني الغوص الى قيعان البحار والمحيطات، أهلكني التطواف فوق تضاريس اليابسة بين القطبين، في مهامة الصحارى، على قمم الجبال، بين بسائط السهول.

تهت في أزقة المدن القديمة والجديدة.. قلبت الكون سرا جهرا، نبشت القبور – بحثا عنها – قبرا قبرا.

تركت الارض وتوجهت الى السماء الرقيبة على كل شيء، عرجت على السماوات السبع الطباق… سماء سماء، أمعنت في المعراج. فتشت عنها في السماء الثامنة وساءلت كل كوكب، كل نجم عنها.

زرت كل العرافين والعرافات. مددت فناجين قهوتي لكل قارئات الفنجان. عرضت كفي على خبراء الاكف… ناشدتهم واحدا واحدا، واحدة واحدة أن يخبروني عنها، أو عن مسار نجمها…. لم اهتد الى شيء.

لم يسعفني المعراج والعرافون بشيء.

قمت بالإسراء.

سريت إلى كل مكتبات ومتاحف العالم. ساءلت كل حفرة أو صخرة ناتئة أو مطمورة. استجديت كل ورقة في كل كتاب. ناشدت كل كلمة وسطر…

خامرني شكي ويقيني التوأمان: قد تكون مختفية في كتاب سحري ما.

قرأت كتب الدنيا الشفوية والمدونة، باللغات المعروفة والمجهولة والمنسية.

أمعنت في التفتيش والبحث. قرأت الفراغ ما بين كل كلمة وكلمة، والفضاء ما بين كل سطر وسطر. ما دامت السطور خلوا منها فلا بأس أن أقرأ ما بين السطور.. ثم تركت المتون فقرأت الهوامش والحواشي… عدت فحدقت في الفاصلة والقاطعة والشارحة. وساءلت الشرطة العادية والشرطة المائلة الشرطة المضمرة. استفهمت كل اشارات الاستفهام والاستعجاب والاستغراب… علقت في الضمة والكسرة والفتحة… وسائر حروف العلة والحروف الصامتة عساها تنطق وتبوح لي بها…

صرخت في الحرف الصامت:

– الصمت هو الموت !

صرخت في حروف العلة:

– العلة اذن هي الموت !

عدت أبحث عنها في أشكال الحيوانات. في الفواقع والاصداف والمحارات. في الخلايا، وفى الحيويات المتعددة الخلايا. في الرخوات وفى الفقاريات…

رحلت الى عصور طيور الرخ والديناصور والماموث… ثم صعدت السلالم التي قادتني الى ما أصبح يعرف – اصطلاحها – بالإنسان، تأملت في الشعوب والقبائل من كل زوجين اثنين، ذكر وأنثى… بحثت عنها في العينين: هذا المدعو الانسان لا يختلف عن بقية افراد عائلته الفقارية، بل وعن جميع الاحياء في موضوع العينين. العينان دائما كرتان صغيرتان عالقتان فوق الانف، وعلى مقربة من المخ.

بحثت عنها في جميع الاعضاء. جميع اعضاء الانسان لا تختلف عن بقية الاحياء، بما في ذلك الاعضاء التناسلية، لا يختلف الانسان عن الحشرات في اخفائها – ليس حياء وحشمة – بل غيرة واعتزازا أو خوفا من العين الشريرة.

قلت لهم في نهاية الفصل: إنها لا تشبهكم في شيء.

كل المخلوقات، عاليها وسافلها أصيبت بالخرس، أمام اسئلتي في البحث عنها. حينئذ كررت صرختي:

– الصمت هو الموت !

– العلة هي الموت !

فكرت أن أكرر المعراج الى السماوات مرة أخرى. لكنني أهجمت. ليس من الذوق ولا من حسن اللياقة أن أزعج من في الأعالي مرة أخرى أو مهما كان هذا الئء الذى أبحث عنه عزيزا. صحيح أن الله صبور. لكن للصبر حدود، للمعراج حدود وقوانين واعراف.

لم أشأ أن أصبح الله. وليس في قدرتي أن أتعب أكثر ما تعبت وتجشمت. لقد أعيتني الارض وأتعبتني السماء.

بعد كل هذا الغوص والتطواف أصابتني قاصمة الظهر.

قبل ذلك كنت لا أكف عن استقصاء أثرها. لا أمل الاستفسار. لا أتوقف عن الاستكشاف… أملا في أن أشم لها رائحة أو ألمح لها أثرا.

الان… بعد أن حلت بي قاصمة الظهر، أصبحت لا أملك الا الاستلقاء.

هذا لا يعني الاستسلام – صحيح أن صمت الاشياء هو قاصمة الظهر، لكن رأسي منذ عقود طويلة أصبح مكونا بإيقاعات ذلك المعنى الغجري:

مررت على الجبانة.

لقيت الناس رقود… إلخ

لم ينكر وجودها الاحياء فقط، بل حتى الجماد أنكرها. كنت أتوقع أن أرى طيفا من أطيافها في قاع المحيطات، أو على رمل الصحراء أو قمم الجبال… لكنهم أنكروها بالإجماع !… هذا شيء قبيح، أليس قبيحا أن تنكر الدنيا وجود شيء موجود؟

لكن… ما دام كل شيء قبيحا الى هذا الحد الذى يقصم الظهر، فلا أقل من القاء عصا الترحال والاستلقاء.. لا أقل من الانتقال من عالم المرئيات.. الى مملكة الاصوات.

(2)

قبل ألن ألقى عصا ترحالي، وأستلقى على حافة قبري، كنت أملك الكثير من الارماق.

الان… بعد أن أنكرها الجميع، بعد أن أنكرتها الدنيا، وأنكرتها الآخرة… لم يبق في حوزتي سوى بضعة أرماق. حتى هذه الحفنة من الارهاق أراها تبدأ في العد التنازلي. لكن.. رغم كل ذلك فهذا شيء جيد. شيء جيد أن يحتفظ المرء برفق أو رفقين، اذ لو كان العاشق شخصا آخر عيري، لقضى حبه ونحبه منذ زمن طويل.

أنا ما زلت أملك ارماقا، هذه الارماق قد تكفي للحياة الجديدة في مملكة الاصوات. فلتدر الارض حول نفسها. فلتتوقف الارض عن الدوران. واذا شاء الله فليدر الارض حول الشمس واذا شاءت الشمس فلتدر هي حول الارض… ما الذى يهمني من كل هذا اللف والدوران؟ هذا العالم الخارجي الداخلي لم يعد يهمني بعد صمته القبيح. لم يعد يهمني سوى هذا الراديو.٠ هذه الاصوات التي تندفع منه.. عل صوتا منها يكون صوتها… هذه التي أبحث عنها ولا أجدها.

لم أعد أخرج الى البحر وأمواجه لأغوص في قيعانه. الامواج أصبحت طوع أصابعي. أدير مفتاح الراديو فينطلق الصوت… ثم أطلق يدي في المؤشر متجولا بين محطات الدنيا وأصواتها، بحثا عن آهة من آهاتها…

لم أعد أخرج الى البحر وأمواجه لأغوص في قيعانه. الامواج أصبحت طوع أصابعي. أدير مفتاح الراديو فينطلق الصوت… ثم أطلق يدي في المؤشر متجولا بين محطات الدنيا وأصواتها، بحثا عن آهة من آهاتها…

الأمواج في يدي، لن تغرقني مهما كانت عنيفة هادرة.. طويلة أو متوسطة، عالية مرتفعة أو صاخبة صارخة… ما لم تستطع العينان أن ترياه، تستطيع الاذنان أن تسمعاه، هب أن لا أمل لي فى رؤيتها… هذا لا يعني أنني لا أسمع صوتها. هل هذه حقيقة ثابتة؟ الحقيقة والاكذوبة وجهان لعملة واحدة لكن للعملة وجه ثالث.. هذا الوجه ممكن مهما كان مستحيلا..

بين صخب وأصوات محطات الدنيا والاخرى قد ينبثق فجأة صوتها تحت مؤشر الراديو.. تماما مثلما ينفجر ينبوع ماء في الصحراء أو ينهمر وابل من المطر في صيف قائظ.

هل يمكن أن أسمع صوتها خلال اذاعة من اذاعات الدنيا؟

لم يعد لي مزاج للضحك، لكن قبل هذه التداعيات جعلتني أنفجر ضاحكا بصوت سري: الاذاعات دعايات.. ولا يليق التمادي في قلة الادب، لا معنى للتفكير بأن الدعايات أكاذيب، لا معنى لكثير من الاشياء الا بوجود نقيضها: الاذاعات ليست دعايات بالمعنى الحقيقي للكلمة لن الحقائق ليس لها معنى من هذه المعاني الحقيقة للكلمات. حتى أصوات الموسيقى بدأت تتلوث بعدوى هذا الوباء. لكن لا بد من الاستدراك وترديد التعبير الشائع: لا يصح التعميم في الاحكام: ناك أنواع لا تحصى من الارسال اللاسلكي، تحملها أمواج الراديو لكنها منزهة عن الدعاية والكذب. الرعد مثلا يمكن التقاطه صاخبا محتجا.

لا الرعد يكذب ولا البرق يمارس التدليس.

صوتها لا يمكن لأذني أن تحلم به الا في ثنايا دمدمات الرعد، في خطفة من خطفات البرق، في تقلصات عضلات الصخر، في توترات اعصاب الماء.. كل هؤلاء الفرسان يمكن أن يمتطوا أمواج الجهاز..

صوتها قد يأتيني في تشنجات نجم ما في بعض المجرات القريبة من الله. كل هذه الفروض لا يمكن التغاضي عنها أو اهمالها.

لكن ذلك اليوم الذى كنت أعتبره يوما من الايام العادية، يوما مثل سائر الايام، كنت مستلقيا كعادتي أدير مؤشر الراديو بين الامواج الهادرة والهادئة، القصيرة والطويلة.. أحرك المؤشر فأتجنب ما وسعتني الحيلة اذاعات الدنيا والاصوات الآدمية، لأصغى الى تقلصات عضلات الصخور، والاصوات المتوترة عبر أعصاب الماء والهواء. أصيغ السمع عسى ألتقط فجأة صوتها. أما عيناي فلم أعد احتاج اليهما الا لمراقبة مؤتمر الجهاز خلف لوحته الزجاجية. عيناي نسيتا عالم المرئيات، ارتاحتا في محجريهما، لم تعودا تهتمان بشيء سوى هذا المؤشر. هذا الخيط الدقيق الواقف خلف سياجه الزجاجي… في لحظة مباغتة -رغم نسيان عيني لتلوينات الاشياء- خيل إلي أنني لمحت شيئا ما يتحرك خلف لوحة المؤشر، منطلقا من احد ركنيها الى الركن الآخر. لكنني لم ألبث أن كذبت ما رأيت، عيناي نسيتا أشكال المرئيات. أشار الى يقيني أن ليس ثمة خلف الواجهة سوى مؤشر الراديو، ولا يمكن للمؤشر أن يتحرك هكذا من تلقاء نفسه، كيف؟ المؤشر هو الشيء الوحيد الذى استطيع أن أتحكم فيه بعد أن فلتت من يدي كل الاشياء…

لم استسلم للحظة المباغتة. استأنفت القفز بالمؤشر فوق اذاعات الدنيا بأصواتها الآدمية والموسيقية المشبوهة.. عدوت في اتجاه أصوات رياح القبلي والرعد والبرق، تشنجات الاحجار والجبال واعصاب البحر.

استدعيت هذه المرة من قاع دماغي ذاكرة العين القديمة.

لم يكن أمرا ميسورا أن استدعى تلك الذاكرة المضمحلة الى عيني المتقاعدتين. هذا جهد مرهق سيكون على حساب أذني المستنفرتين أبدا والمتحفزتين، وهذا ارهاق لا يطيقه منهوك القوى، مقصوم الظهر مثلي.

بعد زمن من التحديق المضنى، شككت فيما شككت فيه عدة مرات.. في كل مرة أشك فيما شككت فيه أو صدقته في المرة السابقة… لم أبارح دائرة الشك. جهودي المتوالية في استدعاء ذاكرة عين أدخلتني الى دائرة المراوحة بين الشك والشك ٢ ثم ان عقلي تدخل بفضول: لا الشك شك ولا الصدق صدق. لا جدوى من التصديق أو التكذيب. الحقيقة يمكن تجسيدها أكذوبة، والاكذوبة يمكن تحويلها حقيقة، سيان، ففي جميع الاحوال يمكن استخدام المنطق في اثبات الشيء ونفيه، وفى آخر الامر فلا الشيء شيء ولا النقيض نقيض… دائرة فراغ.

دائرة الفراغ هذه التهمت المزيد من الجهد المضني لاستدعاء الذاكرة القديمة.. أفلت من دائرة الفراغ فأدخل الى دائرة أخرى لا اسم لها. هنا بدأت أتأرجح بين القاع والسطح. ما الذى خدر الحواس؟ تثاقات الاذنان. زاغت العينان. عقلي القابع في قاع دماغي يبدو وكأنه قد اشبع فضوله: أحسستني أطفو فوق السطح، كان المرئيات قد بدأت تتراقص امام عيني. كأن عيني أنهتا عقدهما المبرم مع السهو. ها هما الآن بدأتا تريان فيما ترى العينان الوسنانتان:

– شيء ما يتحرك اسرع من طرفة العين من ركن واجهة المؤشر الى الركن المقابل.

لم يعد هذا الشيء يخيل الى… لقد خُرجت من دائرة الفراغ الى دائرة لا اسم لها.. اصبح الآن هذا الشيء يباغتني، يباغت عيني،، فيما بدأت أذناي تنأيان عن الاصوات، ربما بدأت الاصوات تنأى عن أذني. ذاكرة الرؤية تأهلت وبدأت تنافس ذاكرة الاصفاء… أصوات تشنجات عضلات الصخر وتوترات اعصاب الماء بدأت تخفف قرعها لطبلتي أذني حتى توقفت تماما.

في هذه اللحظة أبصرت قبالتي في رقعة المؤشر صرصارا !

صرصار يجري في رقعة المؤشر لا يلوى على شيء، صرصار بكل قبحه، بقرني استشعاره، بكل جبنه ووساخته. تملكني الغثيان حتى أوشكت أن أقذف بأحشائي. دخلت في دوامة الغيبوبة والدوار، استليقت بعد أن خارت قواي المتبقية. غمر ني السبات.

(3)

استيقظت في الهزيع الثالث أو الرابع من الليل. أشعلت المصباح، واتجهت عيناي فورا الى واجهة الجهاز.. وجدتها تضج بالصراصير. لاحظت على الفور أن الصراصير تخاف النووهء٧ أسرعت تحاول الفرار الى الظلمة السائدة خلف رقعة المؤشر، عبر شقوق لم أرها من قبل، لم يعد في جوفي شيء لأقذف به الى الخارج، ولم يعد بوسعي النوم أكثر مما نمت. ليس أمامي الآن سوى أن أتحول بحواسي الخمس وبقية الحواس عن الراديو… أو أن أحدق في اللا شيء.

لكن اللا شيء نفسه كان مكتظا بالأشياء: منذ متى داهمت الصراصير خلوتي؟ كيف استطاعت أن تتسلل الى الراديو، والى المؤشر بالذات، لتتجسس عما اسمع وعما لا أطيق سماعه؟

عدت الى جهازي أتفحصه، عسى أن يكون مثقوبا ثقبا كافيا لإيواء كل هذا الجيش من الصراصير… هنا فطنت الى أن رقعة المؤشر خالية، كعهدي بها قبل عصر الصراصير. حدسي لم يكن مخطئا حينما شعرت قبل قليل بأن الصراصير لا تحب النور. أنا شخصيا تعودت ألا أحب النور اذا أردت سماع صوتها في الليل. في أحيان كثيرة يقودني النور الى الزور: أحرك المؤشر الى بعض الاذاعات الآدمية فتقتلني الدعايات.. لكنني أصبحت مضطرا الى محاولة سماعها في وهج النور… وهج النور أصبح ضروريا أكثر من شعاع الظلمة، اتقاء لشر رؤية الصراصير على مقربة من فمي.

هذا حل جيد.. لكن الله لم يخلق للمرء سوى ذاكرة واحدة، وعلى المخلوق أن يمنعها حيث يشاء. يستطيع المرء مثلا أن يضع ذاكرته حتى في رأسه، بل حتى في أي عضو من اعضائه. هنا تكمن الصعوبة في حسم الامر. اذا اخترت أن أبقى على ذاكرة عيني، فعلى أذني وعلى صوتها السلام.

عدت أحدق في اللاشى المكتظ بكل الاشياء. فاجأني في بؤبؤ عيني اليمنى صرصار منطلق على طول رقعة المؤشر في سرعة النور. حدث هذا قبل أن أحسم أمرى في مستقبل الذاكرة. هذا يعني أنني قبالة علامة خطر أمامي في الطريق لكن ليس معنى ذلك إنني أقف في منتصف الطريق، الواقع إنني ولدت في مفترق الطرق. وها أنا ذا الآن أصبحت أدور حول جزيرة الدوران التي لا تؤدى الى أي طريق.

مهمتي الآن أن أدور وأدور، لكى أعود ثانية للدوران. فمثلا حينما حاولت جهدي أن أتخلى عن ذاكرة العين، لم يكن الامر سهلا، لكنني كنت اطمع أن أسمع صوتها، وفى سبيل ذلك قمت باستدعاء ذاكرة الاذن.. حتى لو كلفني ذلك اغتيال عيني درت حول الجزيرة من الشرق، ثم غيرت اتجاه الدوران، رغم خطورة الاصطدام بذاكرة أخرى معاكسة، وحوادث المرور الاخرى.

عدت من دائرة الفراغ في الاتجاه المضاد، ودخلت دائرة أخرى لا اسم لها، لكنني صممت أن يكون مستقبل الذاكرة بنفس الكيفية: – يمكن أن أسدد كرة الذاكرة في مرمى البصر. ثم التقطها مرة أخرى لأسددها في طبلة الاذن. وكما تدخل دماغي مرة بفضول، فيمكن الاتفاق معه بأن كل شيء يمكن أن يكون صعبا، لكن كل شيء في نفس الوقت يمكن أن يكون في منتهى السهولة.

أنا لا أحب التناقض. نقد كانت هي كل شيء لدي، سخرت لها كل وقتي وحواسي التي لا تحصى. لكن المرء يجب أن يكون واقعيا أيضا، دون أن يناقض نفسه. الصراصير الآن أصبحت معطى موضوعيا، عنصرا جديدا دخل حياتي، وهو عنصر لا يستهان به، اما ذلك المغنى الذى سكن جمجمتي وهو يغني:

مررت على الجبانة

لقيت الناس رقود

… هذا المغنى لم ير المسألة الا من زاوية منفرجة: لأنه لم يولد في مفترق الطرق. أنا الدائر المزمن حول جزيرة الدوران. أنا المصاب بالدوار الأزلي بحثا عنها، لا بد في سبيلها أن أواصل الدوار حتى لو انتهيت الى الدوار المضاد… ها هو ذا صرصار يجرى في الرقعة في اتجاهه المضاد الذى انطلق منه منذ برهة.

أسلمني الصرصار المباغت إلى إيقاع يثرى أغنية المغني:

فيه ميت تحت التراب

وميت بلا لحود

يا دنيا.. يا جبانه

تقاعدت عن الاستلقاء، ذهبت أبحت عن شيء يسد فراغ أمعانى. راحت عيناي تفتشان عن رشاش مبيد للحشرات. أكلت، ثم عاينت الثقوب المتواطئة مع الصراصير، عسى أصيب من هذه الوحوش الضئيلة مقتلا.

شرعت في قضم الخبز واطلاق وابل من الرشاش على واجهة الجهاز. استمرأت الشروع في القتل. غمرت الجهاز بالمبيد. كنت جاهلا بالفتحات التي يمكن أن تتسلل منها الصراصير الى الجهاز: لقد كان جهازا جديدا، فأسرعت أبحث عن كتيبه الذى يحتوى على جغرافيا وتضاريس واسرار الاستعمال. صادفني انذار: (يجب عدم استخدام المبيدات والغازات عند تنظيف هذا الجهاز لإنها تشوه منظره)… وضعت الرشاش جانبا، واصلت قضم الخبز، مستلقيا، أفكر في أصوات أحشائي واحشاء الجهاز هذه التي لا أفهم منها شيئا.

عادت عيناي تحملقان في رقعة المؤشر. الآن فهمت معنى الانذار: لقد فقد جهازي بريقه، تشوهت الواجهة أكثر مما توقعت. أصبح الجهاز يبدو وكأنه من مخلفات جيل فات. هتفت: الصرصار ولا الدمار – ترجيعا لصدى هتاف قديم لا يزال يعيش في ذاكرة رأسي: الصرصار ولا الدمار.

بعد توقف قصير عن الهتاف، تأملت رقعة المؤشر، أبصرت صرصارا ينطلق من ركن ثم يدور في الركن المقابل، لينطلق مرة أخرى عائدا الى قاعدة انطلاقه. قلت: هكذا يجب أن تكون الذاكرة…

ثم استأنفت الصراخ: أصبحت مثل سلاخ الحمير.. فلا سمعت صوتها ولا سلم الجهاز..

الصراصير ما زالت على قيد الحياة.

(4)

بعد ذلك اليوم الذى باغتني فيه الصرصار -، أصبحت امتلك الفرصة لأتأمل هيئته عن كثب، وراء الحاجب الزجاجي على رقعة المؤشر. حتى الصرصار يبدو قد تمكن من خفض سرعته في العدو من ركن الرقعة الى ركنها الآخر. تمكنت من ضبط أعصابي وأنا أتأمل الصرصار. لا يمكن أن أصف ذلك بالتعايش السامي مع الصراصير، ولا أخطئ لو قلت انني دخلت في حرب باردة معها: من جهتي، كنت أتحين الفرصة التي يقترب فيها من المؤشر لأضعه في كماشة بين المؤشر والرقعة: لكن هذين الهوائيين المثبتين في رأسه، حساسان لحد مدعش، اذ سرعان ما يلتقطان إشارة الخطر المداهم فيسارع الصرصار الى الفزار رغم ملاحقاتي المستميتة، وقد خطر لي ذات لحظة أن أحاول احصاء الصراصير التي استوطنت في كنف جهازي، لكن اذا استبعدت فارق السن، بين الصراصير اليافعة، وتلك التي أصبحت في طور الشباب أو الحضانة… فلا تكاد تلاحظ علامة فارقة بينها. الصراصير ليس لها أسماء، لكن حدث لحظة أنني تركت المؤشر واقفا في مكان ما من الرقعة، على سبيل السهو، وحينما انتبهت من سهوي أبصرت بعين اليمنى صرصارا متمددا على طول المؤشر ساكنا لا يريم… فتحت عيني اليسرى فلاحظت قرني استشعار الصرصار المتمدد.. قد تمددا بدورهما.. كانا على درجة من طول حتى أن المساحة المتبقية من الرقعة لم تسعهما، فعادا معقوفين من سقف الرقعة.

هنا راودتني عن عيني ذاكرة التصنت.

راودتني لأسباب معقولة، ولم ترادوني هكذا عبثا:

– قرنا استشعار الصرصار هوائيان من طراز فريد. هذان الهوائيان الحساسان لأضعف شعاع وصوت ولأتفه ظاهرة.. لا شك أنهما سيعينان جهاز الاستقبال على التقاط أضعف بث مهما كان نائيا أو مشوشا وأينما كان مصدره.

أسرعت يدي فأدارت مفتاح الصوت الى منتهاه. غمرني الدوار العكسي في اتجاه مملكة الصوت: استقرت ذاكرتي في الاذن الوسطى، ثم ابتدأت التصنت…

شعرت بصوت حبات العرق تتفصد من جبيني، انه جهد مضن حقا.

رجعت من تصنتى الواهم فوجدتني نائما !.. لا أدرى، هل هي سنة نوم أو سبات طويل. عدت الى المؤشر فتأكدت أن الصرصار نام بدوره وامتد على طول المؤشر. ربما كان منبطحا وليس نائما مثلى. لكنني حين حركت المؤشر لم يستيقظ ولم يهرب كعادته رغم قرني استشعاره.

هذا غريب !.. حاولت ايقاظ الصرصار، أسرعت في تحريك المؤشر على الرقعة، من أقصاها الى أقصاها، لكن الصرصار بقي متمددا لا يريم. كدت أن أتأكد بأن الصرصار قد لفظ انفاسه الاخيرة ومات. هذا شيء.

فكرت في وسيلة لإخراج جثمان الصرصار: أعياني التفكير واستعصت الوسائل. عادت عيناي الى المؤشر فلم أجد للصرصار أثرا !.. هذا شيء محير.

استغرقت في حيرتي… ولم أكن أدرى كم ستطول هذه الحيرة لو لم يضع لها حدا صرصار لمحته يحبو هذه المرة على الواجهة الزجاجية. لم يعطني الصرصار بقفاه، كما فعل في الازمنة الماضية، هذه المرة واجهني خلف اللوح الزجاجي بتكوينه السفلى، بصدره وبطنه وبقية اعضائه… حتى الصراصير انعدم منها الحياء والحشمة، واجهة الصرصار هذه طرحت على سؤالا لم يخطر لي من قبل: هل هذا ذكر أم أنثى… راحت عيناي تدققان في اعضائه. ازداد الامر تعقيدا حين لم ألمح أثرا لأى عضو من اعضائه السرية. حتى الصرصار يحرص على اخفاء هذه الاعضاء… ولم يكن بوسع معرفتي البسيطة لعالم الصراصير حتى التأكد من هوية هذا الصرصار: هل هو نفس ذلك الصرصار الجريء الذى خدعني بمكره وتنكره، حينما كأن متمددا على طول المؤشر، ويتظاهر بالموت؟.٠٠ لم يبق لي من تبرير سوى أن الصرصار لا اسم له.

خطر لي وأنا أتأمل الجزء الاقبح من هذا الصرصار القبيح.. أن أتقزز.. لكنني عدلت عن التقزز.. ذلك الزمن الذى أوشكت فيه أن أتقيأ أحشائي من رؤية صرصار قد ولى… تداعيت لأقارن بلن الصرصار والجرادة. أنا لا أفهم في التشريح، لكن من ناحية ذوقية محضة، أدركت أن الفرق بينهما طفيف ومضحك ومثير للحقد والشفقة: فالناس عندنا لا يتقززون من الجراد، بل يسارعون إلى أكله وإقامة الولائم بلحمه، وعندما يحل موسم الجراد، فعلى الرغم من تشاؤم الفلاحين منه، لكنهم سرعان ما يهرعون الى اصطياده والتلذذ بأكله، وفى المواسم التي تكون فيها اسراب الجراد كافية للتجارة والربح السريع، فان الناس بعد أن يتشاءموا، يصلون على النبي، ثم يتفاءلون ويقومون ببيعه لسكان المدن… ورغم هذه الفروق التافهة بين الجراد ذي الاجنحة القوية، والصراصير التي فقدت قدرتها على الطيران لأسباب قد تعود الى كسل مجهول في اجنحتها، فان الناس لا يحبون التفكير بهذه الطريقة.

اعتراني الكسل أنا الآخر.. منذ زمن طويل نسيت ذاكرتي مرمية في مرمى عيني. لم أحرك المؤشر منذ أن تمدد عليه الصرصار وتظاهر بالموت. حاولت أن أحرك عقيرتي بأغنية ذلك المغنى القديم لكن السهو غمرني.

أيقظني من سهوي صرصار لمحته يتسلل الى الجهاز، ثم لم يلبث أن تسلل خارجا من الجهاز. كأن الصرصار أصبح حيوانا اليفا.. أنا بذوري شعرت به حشرة أليفة.. حاول أن يتسلقن وئيدا، كان يجرجر جسمه بصعوبة بالغة، حاولت أن أثير انتباهه مداعباً برأس هذا القلم الذى أكتب به، فلم يكترث للأمر كما كان يفعل من قبل. جربت أن استفزه، فلمست قرني استشعاره، لكنه لم يأبه بشيء. واصل طريقه عبر تضاريس جسدي… الى جهة غير معروفة.

عدت الى عقيرتي لكى ترتفع بالغناء، بأغنية ذلك المغنى التي سكنت جمجمتي منذ زمن طويل… حاولت أن أتذكر الايقاع حاولت أن استدعى الى لساني الكلمات.. لم أستطع.. لقد نسيت المغنى والايقاع والكلمات تماما.


(الوجه الثالث للعملة)، سعيد المحروق، العدد: 85، 1 سبتمبر 1989م، ص: 51 – 62.

مقالات ذات علاقة

حكايةٌ من الطوفان

المشرف العام

سيـرة الجـد الهـارب

إبراهيم بيوض

سردية الحال

كريمة الفاسي

اترك تعليق