قصة

حكايةٌ من الطوفان

عوض عقيلة

آثار فيضان وادي درنة في 10 سبتمبر 2023 (الصورة: عن الشبكة)
آثار فيضان وادي درنة في 10 سبتمبر 2023 (الصورة: عن الشبكة)

صبيحة العاشر من سبتمبر الأمور على طبيعتها أمام عمارة العوامي في شارع الجيش، كما كان يعرفها أهالي المدينة، اللهم إلاّ الأمطار التي تسقط بفعل الأحوال الجوية التي أعلن عنها.

بعد الظهر تُسمع بين الحين والآخر صفارات الإنذار التي تُطلقها سياراتُ الإسعاف وعددٌ من سيارات الجيش والداخلية، وهي تطالب المواطنين بمغادرة بيوتهم تارةً وتُحذرهم تارة أخرى، حيث استجاب عدد قليل، واكتفى الآخرون بالسخرية والتهكم، بل ذهب بعضهم لوصف هؤلاء بالوهميين!

بعد أن انتهى مؤذنُ مسجد الصحابة من آذان صلاة العصر، أخذت مريم ترتب شقتها في الطابق الثاني والتي لا تقبل أن تكون في حالة فوضى.. مُصطفى الابن البكر لمريم، وأسماء تصغره بعام واحد.. طلبا من الأم الإذن لمشاهدة المياه التي تغمر مجرى الوادي وصولًا للبحر، حيث كان الناس يصطفُّون لمشاهدتها وهي تتدفق في مجرى الوادي.

مريم أرملة في عقدها الخامس، قرّرت أن تهب عمرها لمصطفى وأسماء، مصطفى يدرس الهندسة، وأسماء تدرس الفنون الجميلة، حياتهم مستقرة وأمورهم المادية مستورة والحمد لله.

مريم أيضًا تُخطط لمشاهدة المياه التي تغمر مجرى الوادي، ولكن بعد الانتهاء من ترتيب شقتها، استمرت الأمور على هذا الحال حتى بعد صلاة العشاء، شيئا فشيئا أخذت المياه تزداد في مجرى الوادي، والناس منقسمون بين محذر ومستمتع، وآخر يُشاهد المنظر من شرفة شقته.

قررت مريم الصعود إلى شقتها، طلبت من مصطفى وأسماء الصعود أيضًا، صعدت أسماء ورفض مصطفى وطلب البقاء صحبة أصدقائه.

بعد منتصف الليل صمت كلّ شيء عدا أصوات المطر المنهمر بقوة، نامت أسماء، ومريم تتابع ما يحدث على صفحات التواصل الاجتماعي، صمت مخيف، شعرت بالقلق؛ لأن مصطفى لم يصعد بعد، خرجت من شرفة شقتها لتطلب منه المجيء ، لكنها لم توفق في تمييزه بين الحاضرين، ألقتْ نظرة على أسماء في سريرها، أحست بالعطش، ذهبت لشرب الماء من المطبخ، سمعت حركة مريبة بالقرب من باب شقتها، اعتقدت أنه مصطفى، أضاءت النور فوجدت المياه بدأت في التدافع إلى داخل شقتها، أصابها الفزعُ، أصوات الجيران تحذر أن المياه غمرت الطابق الأول، وهي في طريقها للطابق الثاني، هرعت إلى أسماء أيقظتها وطلبت منها الإسراع … في الأثناء انقطعت الكهرباء والاتصالات، أضاءت مصباح هاتفها، فتحت باب شقتها لاستطلاع الأمر، وجدت منسوب المياه مرتفع وبالكاد تستطيع الخروج، صراخ في الجوار، صراخ في الطابق السفلي، تكبيرات تُسمع في كل مكان !

ثُمّ انهار السدُّ.. فجأة تذكرت أن مصطفى لم يصعد معها، نادت عدة مرات.. مصطفى.. مصطفى.. مصطفى.. ولكن لا مجيب لندائها.. خرجت صحبة ابنتها، الظلام دامس، فقط ضوء هاتفها، ترددت بين الهبوط والصعود، قررت الهبوط بحثًا عن ابنها، صراخ وتضرع وتكبيرات تسمع في كل مكان.. أشياء تطفو فوق سطح الماء، تطلب من أسماء أن تغمض عينيها وأن تتمسك بها جيدًا، مرّ من أمامها شيء كأنه جثة، صرخت وهرعت ودعت الله ألاّ تكون لابنها، تأكدت في لحظة شجاعة نادرة أنها ليست له، استمرت وهي تردد الدعاء تلو الدعاء، تعثرت سقط هاتفها، وقفت ولم تفكر في البحث عنه، شخص ما يقف في الجوار … يردد (لا إله إلا الله لا إله إلا الله، صوت آخر يتضرع إلى الله أن يوقف المطر، وآخر يستغيث طلبًا للنجدة!

تجاهلت كل هذا واستمرت في التقدم دون النظر لما يصادفها … الأجواء مخيفة والأصوات مفزعة.. الجثث في كل مكان.. والسيارات تطفو فوق سطح الماء في طريقها للبحر.. مبان مهدمة وأخرى اختفت تمامًا.. والناجون في فزع وهلع.. ضوء الصبح بدأ يلوح، جلست في مكان ما وسط الركام لالتقاط الأنفاس وهي تقبض بقوة على معصم ابنتها، نظرت حولها وجدت جثة بالقرب منها، صرخت وأجهشت بالبكاء، احتضنت أسماء، وحمدت الله أنها وابنتها بخير، رفعت رأسها للسماء وطلبت أن يكون مصطفى بخير.

عند العاشرة صباحًا، وبعد ما تبين حجم الدمار الذي خلفه الطوفان، ذهبت مريم حيث يجتمع عدد من الناجين، وأخذت تتفحص الوجوه بحثًا عن ابنها دون أن تسأل أحد!

الأحد: 17.9.2023م

مقالات ذات علاقة

“الست” في مبنى “البركة”

عزة المقهور

جيتارة المدينة

المشرف العام

الكلبة

علي محمد رحومة

اترك تعليق