لم تسبقه نسائم الشمال فتؤجج اللهفة وتذكي الشوق والانتظار. انبثق من قلب العاصفة ودخـل البلدة كجمل هائج، فلفظ على الضفاف الزبد، اقتلع أشجار الزيتون، وبنى وسط الوادي تلالاً من أشجار السدر وجذوع الطلح والبطوم.
قرأت البلدة غضب الزائر فلم تستقبله بالزغاريد، بل تحدثوا عن لونه الأحمر الأشبه بالدم، انتشروا على الضفاف يجتهدون في تفسير النذير، ويقرؤون خفايا الرسالة. لكن خبراً انتشر كالوباء، اسكت الاجتهاد واوقف التخمين:
– ضريح الجد غرق، تلاشى !
فتهافتوا للضفة قبالة ضريح الجد أعلى الوادي، حيث كان يجثم بجلال على تلك التلة، يراقب تمايل أشجار الزيتون، ويرعى البلدة ويبارك الأبناء، تكسوه عمامة بيضاء من الجير، وعلى الرأس ترفرف الرايات فيبدو المقام الوقور كحارس مهاب.
قبالة ضريح الجد على الضفة انتشرت الجموع، فجالت الأبصار كل ذرة بحثاً عن أثر للجد، أو هرباً من الفجيعة. تهافت العقلاء لتفسير الحدث وقراءة الموقف. أفزعهم المصير المجهول لغد البلدة إذ تركها الحارس!. فكيف تغدو وقد رحل الجد ؟
كانت البلدة تقصده إذا خنقها الجذب وأعيتها العلل، تملأ النسوة مواقد البخور ويهمسن له بالشكوى ويبحن بالسر. يذرفن الدموع إذا عجز اللسان، تم ينثرن على الأجساد من تراب الضريح، ويعلقن على جدرانه السخب ويستعرن قطعاً من راياته لتمام البركة.
كلما استعادوا مكانة الجد أفزعهم الحدث، وهالهم الخواء، وأذهلتهم الفجيعة، فبادروا إلى حمل الوزر:
– صحيح أننا حافظنا على الوصية، فلم يتجرأ أحد أن يسكن غرب الضريح، فظل أول من يستقبل الغيث وينتشي بالهدير، يرقد على ضفة المجرى فيداعب الماء براحتيه كالأطفال.
– صحيح أننا حفظنا له مكانه، لكننا أضعنا مكانته. ألم يتجرأ عليه الفجار في العام الماضي بحثاً عن كنوز الذهب؟!، فنبشوا القبر وصدعوا الجدران. الأوغاد نبشوا تحت رأس الجد كما تفعل الذئاب!، وحين لم يعثروا على الذهب صبوا جام غضبهم على المقام الجليل فمزقوا الرايات وقطعوا المسابح والسخب، فاختلطت حبات العقيق بقطع البخور، وامتزجت تربة الضريح برماد المواقد وقطع الجبس والجير، حتى الطبل المعلق في الجدار، المخضب بالحناء لم ينج، فمزقته مخالب الذئاب. أما نحن فتباطأنا في ترميم الضريح وفي تعقب الجناة فشاركنا في الخطاء بالخطيئة.
انتشروا على الضفاف بحثاُ عن أثر أو علامة. أدركوا أن الجد لم يختر موضع قبره على التلة عبثاً. فها هو ذا يرحل دون ان يترك أثراً. استعادوا الوصية القديمة حين طاف الجد بالتلة وخطط بعصاه موضع قبره، فسهل عليه اليوم أن يرحل دون أثر، اتخذ من السيل وستاراً ليحفظ السر ويمحو الأثر!
الجد كان يقرأ الزمان. الزمان كان يدفع بالسيل عاماً بعد عام لينحت في المجرى ويتطاول على جدران الضريح، هو نفس الزمان الذي يدفع بالأبناء عاماً بعد عام فيتجرؤون على مكانة الجد، السيل أداة، والأبناء أداة.
ازدادوا اقتناعاً بغضب الجد وثقل الوزر كلما أوغلوا في قرأة القصة، وكرروا نفس العبارة كلما استعادوا الحدث:
– لا، لم يكن ذاك الموضع صدفة، ولا تلك الساعة عبث!
أعادوا البحث بعد أن جفت الغدران. فتشوا الوادي، نبشوا تلال الرمل بحثاً عن أي أثر أو حجر، ثم عادوا إلى التلة واجتهدوا في تحديد الموقع القديم للقبر. شرعوا في إحاطة التلة بسور من الحجر ليبقوا على بقية من أثر الجد، تفانوا في البناء وتفننوا في الصنعة فاحكموا سد الحجر في وجه الطوفان. ودوا لو تلقوا من الغيب صفح الجد، رمزا أو علامة، أو أن القبة البيضاء تعلوها الرايات تُبعث من الأرض أو تحط من السماء في ذات الموضع القديم على التلة غرب الوادي، تحرس الشجر وترعى الأبناء، وتستقبل المعشوق، وتشهد لحظة العناق المحموم للجذوع الظمأى. لكن السور الأشبه بالفخ ظل فارغاً.
أثقلهم الوزر وأعياهم التفكير. فأعادوا القراءة، اجتهدوا في التأويل، فأدركوا الحكمة في مواساة أشبه بالأحجية: أحجار الضريح في رمل الوادي، ورفات الجد في عروق الشجر.