نجاح بن زائد
يُسمى الشعراء بهذا الاسم، كما يرى ابن رشيق القيرواني، لأنهم يشعرون بما لا يشعر به غيرهم، ولذلك يظلون في حالة تنازع قوي بين الألفة والمفارقة. ومن رحم هذا التنازع تولد القصيدة، فكيف بنا إذا تمخض هذا التنازع عن رواية؟!
حقيقة لا أعلم فيما إذا كانت هذه الرواية هي الأولى لصاحبها أم سبقتها كتابات أخرى، وكل ما أتمناه ألا يكون قد جال في ذهن الشاعر فكرة التخلص من الرواية كعادة بعض الأدباء في ازدراء العمل الأول بحجة الضعف وقلة التجربة.
يأتي الهدف العام لرواية «عمر آخر» متماهياً مع هدف ورسالة كل الكتّاب والروائيين والشعراء، المتمثل في خوض غمار قضايا إصلاح المجتمعات وتشخيص وحل مشكلاتها. ولعل المتتبع إنتاج كبار المؤلفين من أمثال دوستويفسكي وتوماس مان وكافكا وغيرهم من المؤلفين المعروفين عالمياً وعربياً، يلاحظ تمحور الإنتاج الأدبي حول قضايا المجتمع الإنساني بشكل عام.
يقول الصوفي شمس الدين التبريزي: «أنت جزء من موسيقى الكون. قد تكون مستمعاً أو عازفاً». كاتب الرواية هو عازف ماهر حملنا في إيقاع فني على أوتار الحب والحرب والوطن، فكانت الرواية ملحمة للحب والحرب عبر توليفة رائعة، تتشكل فيها الصور بحركاتها وانفعالاتها مع جمال السرد السلس ورصانة اللغة.
ما يميز الرواية هو هذا التعدد للأصوات، وتنوع خطوط «الحكي»، بالإضافة إلى كسر خطية الزمن السردي للرواية في دلالة على الإبداع في استخدام تقنيات كتابة الرواية. مع ذلك، سأترك النقد الأدبي لأهله، وسأقف مطولاً، وبحكم التخصص، عند الرسائل الفلسفية التي تموضعت في خط الدفاع الأول، وكتبت بلغة لن يفهمها إلا أهلها .
أبدأ بأول ثيمة جوهرية في الرواية، وهي:
* الحب
في روايتها «الأسود يليق بك»، تقول الروائية أحلام مستغانمي: «ثمة خسارات كبيرة حد لا خسارة بعدها تستحق الحزن». الخسارة الكبيرة هي خسارة الحب. خسر أيوب حبه، وعاد ليتجرع مرارة الفقد، واقتاده الحنين إلى السفر إلى بلد حبيبته بعد نحو عشرين سنة من الفراق.
يتساءل أيوب: «لماذا آتي إلى هنا؟ هل هو الحنين؟ فقط الحنين لسنين غابرة؟».
يُخيل إليّ أنه يجيب بهذه الأسئلة عن أعمق سؤال طرحه دوستويفسكي في روايته «الليالي البيضاء»: «كيف يشعر من تعلق قلبه بإنسان ثم أدرك أنه لم يعد له وللأبد؟».
في الحب، كما في الحرب، لا تُستعاد الفرص الضائعة. «ماريا» كانت الفرصة الضائعة التي سيبكيها «أيوب» عمراً بأكمله، وسيضطر مرغماً للتعايش مع هذه الحقيقة.
وفيما يشبه حالة التجلي والوعي يقول أيوب: «عجيبة هذه الحياة، فما الأجساد فيها إلا قوارب تنقل الأرواح من ضفة إلى ضفة. المدهش في الأمر أن كل القوارب معدة لرحلة واحدة ويتيمة، وأنها لا تتسع إلا لشخص واحد. مهما بلغ الحب بين شخصين، فلن يتمكنا من ركوب القارب نفسه».
إيهٍ يا أيوب.. بعض الحقائق حريّ بنا أن نستقبلها كفاجعة!!
* الوطن
سُئل الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: «ما هو الوطن؟»، فقال: «الأرض والحق معاً، فإن كانت الأرض لهم، فليكن الحق معك».
في هذا الوطن المنهوب لا مفهوم واضحا للحق. يتساءل أيوب: «أي استشهاد هذا الذي يكون في وطن الغير، وعلى ترابه؟ وفي أي عرف يكون قتلى الغزاة شهداء؟ ولما نكيل في هذا الشأن بمكيالين مختلفين؟». أسئلة استشكالية تضع إشارات استفهام كبيرة عن مفهوم الوطن، والانتماء، والحرب، وقذارة السياسة، والتاريخ الذي يعيد نفسه متخفياً وراء قناع جديد ما بين حرب الثمانينيات، والحرب الأهلية في العام الحادي عشر بعد الألفين؟
أيوب هو ذاك المكلوم الذي يفتقد الوطن في وطنه! «ماذا كان ينتظر من مجتمع مأزوم مهزوم يلوك الفراغ، ويتغذى على الكذب؟!».
كم من أيوب بيننا يعاني الغربة.. غربة الأفكار.. غربة المفاهيم.. الغربة بين الأهل.
* الحرب
الحرب هي تسلية الزعماء الوحيدة – كما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون – التي يسمح فيها لأفراد الشعب بالمشاركة.
يطمئن أيوب صديقه عباس بقوله: «ربما انتهت الحرب قبل أن تصل إلى بغداد، فوقف القتال يأتي في لحظة متى ما أراد الزعماء». أمام إرادة الزعماء يتساءل أينشتاين في كتابه «لماذا الحرب؟» كيف تنجح هذه الفئة القليلة في إخضاع جموع الشعب، ودفعها إلى المعاناة والخسارة في الحرب؟
أيوب، المكوي بنار الحرب والأسر، يعي جيداً أن كل الحروب بشعة مهما تجملت، كل الحروب قذرة مهما تطهرت.
الحرب هي الحرب، سواء كانت بين الليبيين والتشاديين، أو بين الليبيين والليبيين! يقول أيوب بمرارة: «الموت يلد الموت، والقتل يتبعه القتل. أشقاء أرحام يقتلون بعضهم بعضاً بدم بارد، بعد أن انحاز كل منهما لطرف».
هنا تظهر شخصية أيوب كنموذج للفكر الواعي الذي يقول: «لا.. لا أيها التائهون، فلئن تهت معكم أوائل سنين عمري، فالله يشهد بأني ما كنت معكم يوماً. إن هي إلا جغرافيا وتاريخ. لم يكن لي الخيار فيهما أبداً».
* التيه
يقول الصوفي جلال الدين الرومي: «اذهب.. اعثر على نفسك أولا حتى تستطيع أن تجدني».
في رحلة الحياة هناك حروب مختلفة عن تلك الصراعات بين البشر، حروب يخوضها الإنسان داخل نفسه، ما بين خوف وحزن ويأس ووحدة، يكون فيها البطل والضحية في آن واحد. إنها العزلة ومراجعة الذات. تقول الرواية: «بعد عودته إلى مسقط رأسه، وكما تعلم عقب كل معركة، شرع أيوب في إحصاء خسائره، فوجدها كثيرة، وكبيرة، وثقيلة فلم يجد الإنسان ولا الذكريات ولا نفسه، حتى نفسه لم يجدها».
إنه التيه.. التيه الذي يعبر عن القلق الساكن في النفس الإنسانية، وكم يكون ذاك التيه موحشا عندما يكون رديفا للغربة في ذواتنا.
كلنا تائهون، وكلنا باحثون عن الطريق الذي سيخرجنا من معركة التيه، منا من يهتدي، ومنا من يقضي عمره يتخبط بلا جدوى.
كلنا سيخوض معركته وحده، ولكي ننجو لا بد أن نبحث في ذواتنا عن المصباح الذي سينير لنا الطريق. وأتساءل: ما حجم الجراح التي سيحملها الواصل لخط النهاية؟ يتضاءل هذا السؤال أمام سؤال أكبر ينتصب بحجم خيمة: ماذا أراد الشاعر أن يقول؟ وتتبدد كسراب كل الإجابات المحتملة أمام حقيقة أن «المعنى في بطن الشاعر».
بوابة الوسط | 26 مايو 2024م