الشاعر عبدالسلام العجيلي.
النقد

القصيدة الأكثر نقاءً

مع أن رغبة الكتابة عن كل إبداع أقرأه قدتُنغِّص عليَ متعة القراءة وكعادتي مع كل إبداع متميز ,لطالما وددت الكتابة عن شعرالشاعر عبدالسلام العجيلي إلا أنني كنت أُؤجل ذلك في كل مرة وها قد أتت الفرصة علىغير توقع بعد قراءتي لنصه الذي نُشِرَ في صفحة قصائد ليبية مختارة على الفيس بوك, وما أن أتيت على النص قراءةً حتى وجدتني ألتقط القلم لأدون بعض الملاحظات حولهوأصوغ بالتالي ما كتبته في هذا المقال .

الشاعر عبدالسلام العجيلي.
الشاعر عبدالسلام العجيلي.

من أراد أن يشبع من الشعر ويحصل على كفايته منه فليقرأ للشاعر عبدالسلام العجيلي , الشاعر المُقل والمُجيد في ذات الوقت , لا سيما في هذه القصيدة التي تمتدح مدينته , مدينة درنة , رغم أنهُ لا يُصرح بذلك حتى أن المرء قد يعتقد أن ما يقصده بكلامه هي ليبيا ككل , وفي حقيقة الأمر إن القصيدة إذا ما اعتبرنا أنها تتحدث عن ليبيا فإنها ستكون معبرة تماما عن حالها اليوم وفيما مضى من عقود , حال البلاد عندما تكون مختطفة وأمرها ليس بيدها , وكذلك إذا ما افترضنا أنها تتحدث عن درنة فإنها جاءت في وقتها لتعيد الأمل إلى ربوعها المكلومة , خاصة بعد المحنة القاسية التي تعرضت لها جراء افتكاكها من قبل قوى الظلام وعزلها عن محيطها الطبيعي , عزلها عن ليبيا , ولا شيء يعادل فرحة الوطن بعودة جزء مفقود , عودة درنة إلى أحضانه , ومع أن القصيدة لم تؤرخ من قِبل كاتبها ولم يذيلها بتاريخ كتابتها إلا أننا نكاد نُجزم بأنها كُتِبت عقب تحرير المدينة وبدافع من فرحة استعادتها , وأتصور الشاعر غير قادرا عل تفويت هكذا فرصة للأحتفاء بمدينته , إذ لا بد من أن يكتب حتى تكتمل فرحته , وأما إذا كُتِبت القصيدة قبل عودة المدينة إلى حضن الوطن – وهو ما نستبعده – فلنا أن نعتبرها قصيدة تنبؤية حدست بانتهاء محنة المدينة وعودة الحياة الآمنة إلى دورها وطرقاتها ووديانها وشواطئها وشلالها , وقبل ذلك قلوب وأفئدة أهلها الذين ذاقوا الأمرين من شح المؤن والأدوية والوقود والخوف الدائم من السيف المسلط على الرقاب ومن هيمنة الفكر الظلامي .

ها هي المدينة ترتدي حُلة قشيبة وتجدد شبابها , ثم أن مكان بهذا الجمال والعراقة أجاد الشاعر في وصفه بالشعر وتأطيره لا ينبغي أن يظل مجهولا ولا بد من توضيح اسمه وإلا فما جدوى الشعر إن لم يسمي المحبوب بإسمه ويرفعه عاليا ليراه الجميع , ولكن الشاعر لضرورات فنية في الأغلب أبقى أسم المحبوبة غير معلوماً وهذا ينأى بالقصيدة عن أن تكون قصيدة مناسبة ينقضي تأثيرها وحيويتها بانقضاء المناسبة التي كُتِبت من أجلها , القصيدة هنا قصيدة إنسانية شاملة تُقرأ في ضوء اللحظة الراهنة كما يمكن أن تُقرأ بعد ألف سنة طالما أن هنالك إنسان ينطوي على مشاعر متأججة وعواطف جياشة .

هنا الشاعر جمع في متن قصيدته كل ما أراد قوله الآخرون عن أماكنهم الأثيرة ولم يستطيعوا , ولأنه شاعر بحق استطاع أن يتبنى أصواتهم ويقول بسلاسة قل نظيرها وبانسيابية غير معهودة , ما انطوت عليه أنفسهم وما تربى في دواخلهم من حب يزداد رسوخا مع كل لحظة تعبر من الأعمار , قصيدة من هذا النوع وعلى هذه الشاكلة تُقرأ بنفس واحد حيث تحيلك الجملة إلى التي تليها وتتفوق عليها في الجمال والعذوبة , ومع طول القصيدة واضح أنها لم تفقد حمولتها من الشعر على غرار الكثير من القصائد التي تقل حمولتها منه كلما استطالت , بل أن معانيها وعذوبتها ظلت تتأكد وتترسخ مع مرور كل كلمة منها حتى تصدمنا نقطة النهاية وفي النفس لهفة للمزيد , وفي غياب أية فجوات أو ضعف قد يلحق بالقصيدة ويخلخل انسيابيتها , بذات المستوى سارت منذ كلمتها الأولى وحتى آخر كلمة فيها , ومع أن الشاعر قال جل ما يريد قوله بطريقة فنية آسرة إلا أنه لم يفرغ ما في جعبته من حب لمحبوبته ونتصوره واقفا أمام القصيدة كمتبتل وملء نفسه الحسرة والشعور بالتقصير في حقها , لأنها أكبر من أن تحتويها قصيدة وأعظم من أي كلام , بل أننا والحال كذلك نتصور المدينة قصيدة تنطوي تحت اسمها كل القصائد وكل ما يمكن أن يقال .

في هذه القصيدة نرى الشاعر منشغلا باعتصار الجمال وتكديس أسباب الفرح , فبالرغم من أن كل ما فيها يحيل إلى الإحباط والخواء ورغم أن المدينة ليست في عافيتها فلا مسارح تؤثث غربتها ولا أندية ولا ملاعب ولا أرصفة تتسع للخطو إلا أنها تبدو جميلة في عين الشاعر ولا يضاهي جمالها المتجسد وجمالها المحفوظ في الذاكرة شيء , إذ يبدو أن فرحة عودتها سالمة إلا من جرح طري قد أخفت ما قد يعتريها من نقصان وذبول , ولا ينسى الشاعر أن يخاطب المدينة كأُنثى ولربما كان هذا سر تألق الشعر هنا وتدفقه بعذوبة غير معتادة .

الأكثر جمالا في القصيدة هو تلك الصور والتلاوين التي أفلح الشاعر في ابتداعها ورسمها بريشته ونحن لا نمتلك إلا ان نقف منبهرين من قدرته على تطويع اللغة لفكرته وافتكاك الجميل منها والرقراق ليرصع به قصيدته أو رائعته التي تندرج تحت بند أو غرض حب الأوطان , نقف منبهرين ومتسائلين في ذات الوقت عن مهارة الشاعر الذي استحضرها وقام بتشكيلها في غفلة من كل القبح الذي عاشته المدينة , كما لو أنهُ ينتزعه انتزاعاً من براثن الخواء أو ينحته من صخر المرارات وينتشلهُ من مستنقع القسوة الآسِنة .

القصيدة جميلة وتليق بالمكان الذي قيلت انطلاقا منه – أياً كان هذا المكان – إلى الحد الذي نستطيع معه أن نتماهى في تفاصيلها ونُسقط فتنتها على اماكننا الأثيرة فإذا بنا نتعلق بأهدابها نحن كذلك هاته المهرة العنيدة السامقة لأنها وببساطة فادحة :-

جميلة رغم كل شيء

… وظامئة

مثل عانس

تُمشط أيامها المتكررة

أيامها الخالية

من الحلوى . . . والضحك

مازالت شبابيكها

تُصعد الأغاني إلى السماء

… ومازالت

الأسماك المهاجرة

موعودة بأحضانها الدافئة

ومازالت تفتح

ذراعيها

للطيور الهاربة

من جليد الضفة الأخرى

ومازلنا

نتمسك بأهدابها الناعمة

إذا اشتد عصف الريح .

نأكل كراثها

إذا جفتنا المحاريث

ما زالت

… جميلة

… رغم كل الحروب

ورغم كل

الصفقات الرخيصة

تلك التي تتآمر

على كحل عينيها

… ومسك أردانها

وما تبقى

لها من ظل

… وماء وورود .

… جميلة

رغم انطفاء الدفلة

في الوادي الكبير

… وصمت السواقي والطواحين

وغياب النوارس

والمراكب والمسافرين .

… لأننا

لا نعرف سواك

ولم نجرب البعد عنك .

… هنا

كانت زيتونة

يضيء زيتها

وحشة الازقة

في ليالي

الشتاء الحزينة

… هنا

كانت نخلة

ترشق بزهوها

النوافذ الخارجة

من جبة النعاس

في صباحات الخريف

… هنا

حكاية حب

لعذراء حملت نسرينها

وصعدت تصلي .

… لأننا

… نريدك جميلة

… وقفنا

في طوابير

الخبز

ونحن على مرمى حجر

من سهوبك الشاسعة

اشترينا الماء

ونحن قبل هدير

شلالك بخطوتين

علمنا

أولادنا وبناتنا

الصبر والأحلام البسيطة

… دربنا

زوجاتنا

على المجاعة والحروب

… ربطنا الأحزمة

وانحنينا للعواصف .

… ما زلتِ جميلة

لأنك وسادتنا المُعطرة

وفرحتنا المسروقة

من أيامنا المتشابهة

لأنك هوانا

وهويتنا الصامدة

في وجه كل ريح قبيحة .

… جميلة

حتى وإن

كنت بكل هذا الفقر

بكل هذا الخواء

… جميلة

بلا أندية

ولا ملاعب

ولا مسارح

ولا شواطئ

ولا صحافة

ولا إذاعة

ولا أرصفة تسمح بالعناق

ولا حدائق تتسع للغزل

… لكن

سأهمس لك من بعيد

سوف يسمعني

زهر أشبيلية

الناهض رغم الخراب

سوف تسمعني

براكة ” المسرح الوطني “

الواثقة بنجومها

رغم هذا الضباب

… لأجلك

… ولأجل حمرة الرمان

وهذا الأزرق المنسي

ولأجل مزمار

… أعتلى سدة البوح

فذاب في الأجساد

في ليلة أسمرية

جمرها توقد

وبخورها غطى النجوم

حين مزقت

بالقصائد والرقص

الحُجب الثقيلة

طارت مجاسدنا

وطرنا نفاوض

السماء

على وقت أطول .

وغني عن القول أن الشاعر عبد السلام العجيلي يعد اليوم وكما كان بالأمس من أنقى الأصوات الشعرية التي عرفتها ليبيا , فيما يخص قصيدة النثر تحديدا , إلى جانب ثلة من شعراء يعدون على الأصابع نذكر منهم مفتاح العماري وأحمد بللو وفرج العربي وعمر الكدي على سبيل المثال .

العجيلي الذي صدر له حتى الآن عدة دواوين شعرية ومارس مهنة التدريس يؤمن بالجودة قبل كل شيء , وهذا ما يفسر قلة إنتاجه الشعري , إذ يُخضع نفسه لشروط قاسية حتى يكون راضيا عن قصيدته قبل خروجها للعلن وقبل أن تستقل بحياتها بمعزل عمّن أنتجها , وهذا يجعل من الشاعر محل تقدير واحترام ويجعل المتلقين يترقبون إنتاجه الإستثنائي , وهو في هذا المنحى يشبه إلى حد بعيد الشعراء العرب القدامى الذين كتبوا ما يُعرف بالحوليات والذي يظل الواحد منهم يشتغل على قصيدته لعام كامل قبل أن ينشدها على الملأ .

10 / 9 / 2018

مقالات ذات علاقة

“الهروب من جزيرة أوستيكا” للروائي الليبي د. صالح السنوسي.. الحرية أو الموت!

المشرف العام

(أثوابُ الحُزن) للشاعرة هدى السراري

يونس شعبان الفنادي

العتبات النصية في الرواية العربية

المشرف العام

اترك تعليق