هدى الفريطيس
اكتظت الساحة الصغيرة بالمركبات والناس، ووسط هذا بدت الحافلات الواقفة على أهبة الاستعداد لنقل الركاب حجاج بيت الله الحرام بهذا العام كان الحج أكثر من فريضة لهذه المدينة المنكوبة…
ازدحم المكان بمن فيه من حجاج ومودعين، وعلى عكس ما كان سابقا بمثل هذه المناسبة المتسمة بالفرح والحبور للذاهبين والمودعين فقد علا الجو شيء من حزن مكتوم وكآبة صامتة علت الوجوه برغم بضع ابتسامات مختلفة تبدو للرائي كدمعة مختبئة بين ثناياها..
ببطء هبط من السيارة، يستند بيد على عكازه وبيده الأخرى ممسكا بذراع أخيه خشية الوقوع:
– آااااااخ… صاح الحاج بحشرجة حاول كتمها.
– مالك. ؟هل تأذيت؟ سامحني يا اخي!!
– لا…. لا عليك إنا بخير… همس لنفسه (لا أنا لست بخير…إنا فعلا لست بخير)
– من هنا يا أخي، تمهل لا تتعجل ها هي الحافلة.. أنهم بانتظارك لن يرحلوا بدونك… أردف ضاحكا بتصنع لم يخفى عليه.
بادله ابتسامة صفراء كاتما لدمعة تتحرق للانفلات من حدقتيه المحمرتين، بدت عينيه لامعتين أكثر والدمع يكتنفها محاولا اختراق حاجز الكبرياء الحزين، راغبا بالهطول أكثر من غيمة حبلى بالمطر..
أراد التماسك لأجل إخوته وليبث شيء من الطمأنينة لهم، كانت نظراتهم القلقة الحزينة عليه تكتنفه كأم تعانق وليدها، لم يشأ أن يشق عليهم بحزنه. توقف قليلا ناظرا حوله، الجميع يودع المغادرين حجاج هذا العام، يطرق سمعه نحيبا وبكاء بلحظات العناق والتوديع، كان وداعا حزينا اهاج بالقوم حزنهم الأزلي الذي لن يغادرهم أبدا.
فهناك منهم من فقد أبنائه ومن فقد بيته ومن خسر ماله وكذلك أسرته، والكثير منهم مثله قد فقد أحبته…. زوجه وأبنائه وبيته وبستانه وكتبه وعالمه واصدقائه وجيرانه.. فقد كل عالمه وبقى وحده تطحنه رحى ذكرياته الحزينة.
لقد كان لأهل هذه المدينة الأسبقية بقرعة الحج هذا العام، قررت الدولة منحها للثكالى والحزانى لعلها تسلو شيئا من حزنهم.. كم كانوا يتسارعون لها سابقا، دون الحصول عليها إلا قلة محظوظة فالعدد المطلوب قليل جدا.. وبالمقابل فهم كثير… الآن هي هبة للفاقدين الحزانى الناجين.
تذكرها وتخيل طيفها رفيقه للحج.. وخزه قلبه، كما وخزه بموسم الزهر والنارنج حيث كانا معا يجهزان المربى اللذيذة أو يقومان بتقطير الزهر ببيتهما عادة…كيف يسلو ذكراها وحياتهما دائما معا. هذه المرة كانت الوخزة أعظم نكأت جرحا سيظل دائما مفتوحا بقلبه…تأوه مرتجفا مترنحا.
– لا تخف يا أخي! إنا معك استند على، ها هي الحافلة، سأركب معك حتى يحين موعد الرحيل…مشجعا إياه وقد أدرك ما يجول بذهنه فقرر تجاهله..
جال بخاطره ذكراها لطالما رغبا بالحج معا، سجلا اسميهما لعدة سنوات ولم يحالفهما الحظ بالقرعة،
السنة الماضية حزن جدا وغضب.
– لا ادري لما حظنا هكذا!!
– لعله خير، لا تحزن سيكتبه لنا الله بإذنه العام القادم، لم ينادينا الحج هذا العام.
بمحاولة لتهدئته.
– وماذا سأقول إنا التي تشتاق لتلك الأماكن المقدسة ولم أرها بعد…على الأقل انت قد سبق لك الحج مع والدتك!!
– آاااه ذاك كان زمنا، منذ ما يقارب العشرون عاما مضت، لقد كانت رحلة رائعة مع امي، الآن وددت مرافقتك، فأكون قد حججت بأحب امرأتين في حياتي أنت ووالدتي..
تضحك مبتسمة..
– مادامت هذه نيتك سيتقبل الله منا…ستدركنا القرعة العام القادم إن شاء الله.. أكاد اشعر بذلك، وعام من عام قريب !
– لعله كما قلت خيرا..
لم تصمد مدامعه طويلا، فقد اقتحمت ذكرياته حصونها ودكتها دكا، فانفجرت معلنة تمردها على عقالها.. إنهار بالبكاء معانقا أخاه مودعا ربت على كتفه مغادرا.. جلس وكل من حوله ينشج شارقا بدمعه…لا مكان هنا لكبرياء واهن أمام هذا الحزن العميق الذي سكن قلوب الجميع..
أغمض عينيه يتجلى طيفها أمامه.. زوجه الجميلة الأنيقة الطيبة الخلوقة المحبة الورعة.. آاااه وهل أحد مثلها، كان يحمد الله كثيرا على هذه النعمة العظيمة.. ناجى نفسه، (هل احد منهم يحمل حزنا أعظم مني وقد فقدتها وفقدت كل ابنائي وابني البكر وزوجه وحفيدي قرة عيني).
اخضلت عيناه بالدموع أكثر حين اقتربت الحافلة من البحر بالطريق الساحلي.. ودع بنظراته الازرق الشاحب مرسلا تحياته لمن صار مقامه وقبره هناك.. لازال طيف زوجه يحيطه.. لطالما احبها مصارحا إياها بطيب مشاعره…
– وددت لو املك المال الكثير لابني لك قصرا جميلا، يا مليكتي.
تضحك مسرورة بأمنياته المستحيلة..
– أي مكان يضمنا معا وابنائنا بسعادة هذا هو القصر، وماذا ينقصنا وهذا (الجنان) بستاننا الجميل بوروده واشجاره لهو قطعة من الجنة.. حفظك الله لنا واطال عمرك.
عض على شفتيه مخاطبا نفسه ليتها دعت لنفسها وابنائنا بطول العمر.. لم يدري كيف نجا تلك الليلة، كانا متماسكين يقاومان الطوفان الهادر، والصراخ حوله يزداد، بكل قوته تشبث بها، لكنه لم يكن بقوة الماء الذي انتزعها منه ورماه بعيدا عنهم جميعا صرخ بهم مناديا، لكنه اصطدم بشيء أفقده وعيه، ووجد باليوم التالي بين أغصان شجرة كانت طافية وقد تركها الطوفان اللاهث نحو البحر.
نجا وحده ليتحسر حزنا على أحبته، ليحيا بشوق وحنين إليهم ما تبقى من عمره.. أعلن موته بينه وبين نفسه.. (أنا ميت واتنفس فقط).. هذا ما كان يردده لنفسه دائما.. اليوم فاجئه شيء من فرح، فاجئه امل استثار بعضا من سعادة منسية لديه.. بقدر حزنه العظيم لفقدها وكل أسرته. فقد كانت هذه مناسبة وفرصة أخيرة لتقديم هدية لها. لعل قلبه سيسلو.. سيحقق حلمها الذي انتظرته طويلا…لقد قرر أن يهب هذه الحجة لها…
رحم الله شهداء طوفان درنة وعوضنا خير بمدينتنا المفقودة بالبحر..