“هيا انعكسوا “…. جملة من كلمتين … ولكنها كانت كافية لإطلاق حماسنا ولتسري في أجسادنا قشعريرة التحرر من قيود يوم دراسي ممل.. وللتمرد على سطوة المدرسين والإدارة.
كنا ندرس في مدرسة “توريللي”.. وهي ثكنة عسكرية إيطالية سميت على اسم أحد ضباط الجيش الإيطالي.. احتلها الجيش البريطاني لفترة ثم قام بتسليمها لحكومة المملكة لتحيلها الى مدرستين ابتدائية وإعدادية … وكانت المدرسة تضم مبنى فريد من نوعه لا أعتقد بوجوده في مدارس العالم الأخرى.. كان بها مبنى من الخرسانة المسلحة اسمه.. ” ريفودجو” … أي ملجأ بالإيطالية.. حيث كان يحتمي به الجنود أثناء غارات الطيران المعادي. كانت المدرسة تضم عددا من الفصول وغرفة المدير وغرفة للمشرفين تزينها مجموعة من العصي المتعددة الأحجام والأغراض وكرات القدام واللوازم الرياضية…
كان بالمدرسة عدد يسير من الصبية صغار السن والحجم دخلوا المدرسة مبكرا ونالوا تشجيع أهلهم لهم وأحبوا القراءة والشعر والحساب والتنافس على الإجابات في الفصل… ونالوا بذلك عداوة واضطهاد مجموعات أخرى من الطلبة الذين يكبرونهم بالسن والحجم والذين كانوا قد تأخروا كثيرا في الالتحاق بالدراسة.. أو تعثروا فيها. كانت المرحلة الإعدادية بما تمثلها من تغيرات فسيولوجية ونفسية ومن ميل للتمرد وللعدوانية تلقي بظلالها على الجميع … فكثير من طلاب السنة الأخيرة من الإعدادية قد اخشوشنت ملامحهم وتبدلت أصواتهم وازدادت شراستهم وميلهم للعراك.. بل إن البعض منهم كان لا يختلف في بنيته الجسدية كثيرا عن مدرسيه.
كانت مدرسة توريللي أو “النهضة” كما أسمتها وزارة المعارف آنذاك.. تقع بالقرب من شاطئ بحر خلاب وجميل.. وكان يوجه نداء ساحرا للطلاب خصوصا في أواخر العام الدراسي للهروب من الفصول والواجبات الى المياه المنعشة.. والى جو الحرية … فكان النداء “هيا انعكسوا “…. الذي عادة ما يحتكر إطلاقه زعيم أو اثنان من الطلاب … كنا ننتظره بشعف لأن نداء الزعيم يلبيه الجميع.. ولأن الغياب الجماعي سيعفينا من العقوبة على يد الإدارة أو على يد الأهل.
“هيا انعكسوا ” … ما أن نسمع هذه الصيحة حتى يحتضن كل منا كتبه ويخبئها في ثيابه.. أو يقوم برمي شنطنه من على السور.. لنخرج للاستراحة “الفطور” وكأن الأمر عادي.. وما أن يدق جرس انتهاء الاستراحة حتى ينطلق الجميع إلى خارج المدرسة كل إلى مقصده.. وسط تهديد المشرف الذي اعتقد أنه في قرارة نفسه كان أسعد منا بهروبنا من المدرسة.. وبلحظات الصفاء والراحة التي منحناها له.
تنطلق مجموعة من كبار السن نحو البحر أو نحو الملاعب الرياضية … ويرجع البعض الآخر الى بيوتهم… بينما تذهب ثلاثة أجساد نحيفة وضئيلة الحجم في سعادة وهدوء نحو مكان لن يخطر ببال الطلاب الآخرين أو الإدارة … كنا نتجه صوب المكتبة العامة … سالم الشريف والمرحوم محمد قرقوم وعطية الاوجلي … نذهب سوياً ونحن نتحدث بلهفة واعتزاز عما سنطالعه من قصص أو نستعيره من كتب… كانت هذه الرحلة الخاصة بنا تمنحنا نوع من التميز وحماية الذات في وسط كان يعتمد على عضلات لم نكن نملكها وعلى روح عدوانية لم تتملكنا…
كانت المكتبة العامة بشارع عمر المختار.. والتي ما إن نطل عليها حتى يرحب بنا أمين المكتبة الذي كنا من أشهر رواد مكتبته… قرأنا فيها روايات غالبية الكتاب المصريين مثل نجيب محفوظ والسباعي وعبدالقدوس وعبدالحليم عبدالله وغيرهم.. وكتب التاريخ وسير العظماء.. كما طالعنا العديد من الروايات والمسرحيات العالمية.. خصوصا رواية البؤساء لفيكتور هيجو التي قرأتها أكثر من عشر مرات.. وعشت حياة وعذابات وتضحيات جان فالجان … ساهمت تلك القراءات في تشكيل وجداني وصاغت بدايات وعيي بذاتي وبالعالم من حولي …. وهكذا تحولت “التعكيسة”.. إلى زاد معرفي وإلى عشق للمعرفة والاطلاع دام عمر بأكمله… وهو أمر دونما شك لم يكن ليخطر ببالنا أو ببال من أطلق صيحة التعكيسة… في ذاك اليوم.
20/6/2020