(1)
لقد جرى الدأبُ دائماً، وقتما نشاء مطالعةَ أيما نصٍّ أدبيّ، أنْ نأتي رأساً إلى رأس الصفحة المُدون فيها، لنطالع عنوانه أولاً، فنأخذ عنه انطباعاً مبدئياً، ونرى بعدئذٍ إنْ كان سوف يروق لنا أم أننا سنستهجنه، ومن ثم نلج فحواه، لو مسّ شيئاً في ذائقتنا، هكذا اعتدنا رغماً عن أعيننا، ولأن أصول الكتابة والنشر ومن بعدها أصول القراءة تقضي بهذا، عنونت مقالي بهذه الكيفية المُبهمَة ‘ لغاية في نفس يعقوب ‘ كما يقولون، مع أنني في الحقيقة وبصريح العبارة، ما كنت أودُ أنْ أجعل له تسمية، لولا خشيتي من أنْ يعاب عليّ، خرقي لمقتضيات الكتابة المُتعارف عليها، وجهلي بها.
عشرة كلمات قد لا تعني لقارئها شيئاً،ولا تُغني عن كلمة واحدة، ورُب كلمة صريحة، تُبطل تلكم الكلمات؛ كيف ذلك؟.. سوف لن أشطح وانبذ بكم قصياً، آن إجابتي عن سؤالكم المُلح هذا، وسأكتفي كمثال بتسلية (الكلمة الضائعة) التي تجدونها على الدوام في الصفحات الأخيرة من المجلات مع تسالٍ أخرى، وهي التي تُعدُّ أبسطها حلاً، فلكي يتمكن الواحد منكم من معرفتها، يقتضي منه الأمر، أنْ يشْطُب حروف (مكونات) الكلمات المُسجَلة أسفل الخلية الحاوية لها، بخطٍّ عريض في كُلِّ مرة، حتى تتبقى أمامه حروفٌ مُتفرِقة، فيقوم فيما بعد بإيصالها، وبكُل أريحيَّة، ليرى الكلمة (المفقودة) شاخصةً قُبالته، وغالباً ما يجدها بعد كُلِّ هذا العناء، تنصُّ على اسم لاعب أو فنان ذائعي الصيت.
وهناك مثال ثان، يُرسخ ما ارمي إليه واطرحه خلال هذا القالب من هذا المقال، فإذا ابتغيت معرفة تعريف مصطلح علميّ أو لغويّ ما، يتألف من كلمة مفردة لا غير، فستعثر عليه بعد البحث الطويل والتمحيص الدقيق في صفحات المعاجم مكتوباً لوحده، وعلى ميِِِسرته تحديداً توضع علامة الشارحة (:) ومُقضَّى وراءها مباشرة وعلى السطر التعريف المروم في شكل جُملة مضفورة بعديد الكلمات والفواصل التي تتخللها، وبكُلِّ أقسام الأولى (الاسم – الفعل ـ الحرف) ومن الراسخ، أنّ هذه الجُملة (التعريف) تستهلك سطراً بأكمله، على أدنى تقدير.. فأية كلمة هذه التي اعنيها؟.. وبالمثل، فإنّ عشر رجال قد لا ينفعون واحداً، لكنّ هذا الواحد ربما يفيد مئة رجل.. فمن تراه يكون؟.
حينما تغيب الحقيقة وتكثر الأقاويل والحُجج الواهية التي ما أنزل الله بها من سُلطان وتغدو في (حيص بيص) كما يُقال، وممّا يُقال ويتناهى إلى مسامعك، بشأن أمرٍ ما، فإنه لا مُخلص ولا مُصرخ لك من هذه المتاهة التي بين نقطة الدخول والخروج من هذا الأمر الشائك، سوى كلمة صدق ضائعة تُبطل كُلّ ما قد قيل من تُرهات المهاترات وتلغيه شطّباً بقدرة قادر، ليشخص إزاءك حرفان، ثانيهما مُشدَّد ومسبوقان ب(الـ) التعريف، فتقوم بإيصالهما بها، لتتكون لديك الكلمة الضائعة، وهي: (الحقّ) التي يتلفظ بها من لا يخشى فيه لومة لائم، فيفيد بها الخلق أجمعين.. لكنه ليس الفنان و لا الاعب بل الكاتب.
(2)
ثمة ملاحظة قد أوردتُها في القالب الفائت، أراها تستدعي الذكر والتذكير وباستفاضة في هذه المرة، لأنها خليقة ٌ بذلك، وهيّ: أنّ علامة (الشارحة) بين الكلمات فيما أتصور ويبدو ليّ، تمُاثل غرضاً، وتُشاكل رسماً، علامة َ(التساوي) بين الأرقام في العمليات الحسابية، وبين الرموز الرياضية في المعادلات الجبرية كذلك، فما هو موجودٌ على ميمنة علامة التساوي مساوٍ قيمة ومُختِزلٌ اختصاراً أيضاً لما هو آتٍ على ميسرتها، كما هو مُجسَّدٌ في هذا المثال: ( 6=8+3-5) فالرقم (ستة) هنا، يساوي حاصل (الجمع الجبري*) للأرقام المُتمظهِرة في الضفة الثانية ـ أي ـ التي تلي علامة التساوي، لذا فإن الكلمة الوحيدة (المعُرَّفة) والماثلة قبل الشارحة، تساوي وتختزل هي الأخرى، مُجمل الكلام الوارد بعدها، وهذا على حد ِّ تصوري، ولك أنْ تُمعن بنفسك النظر ملياً إلى هاتين العلامتين، كي تستشعر مدى التشابه بينهما، حتى من خلال طريقة رسمها، فعلامة التساوي (=) كما ترى، هي عبارة عن (شرطة) موضوعة فوق أخرى، أما الثانية (الشارحة) فما هي إلا نقطة مجعولة تحت أختها.. بهذا الشكل(:).
لكنْ ما لنا وهذه الأشياء التي قد يظنُها البعض عابرة، وعبارة عن استعراض للعضلات من كاتب ٍ لم يجد ما يكتب، فأمسى يتقول بمعلومات لا طائل منها؟ فما وشيجة هذه بتلك؟ وحتى لو أفترضنا جدلاً صحة العلاقة بينهما (يقصد العلامتين) ـ فلِمَ لا يدخل بنا فوراً إلى صُلب الموضوع؟.
ولكي أُجيب عن هذه الحُزمة من الاستفسارات، سأقوم أولاً بفك رباطها، ثم اطلب إلى كُلِّ من يُلقي بها علىّ، أن يُجاريني ولو مجاملةً، ذلك أنني سأعود مُجدّداً إلى تناول التشابه الذي أوجدته بين علامتي الشارحة والتساوي، وقبل أنْ أُباشر في الإجابة، أودُّ أنْ أذكره بأنني لم أضع عنواناً صريحاً لمقالي هذا، لذا فمن حقَّي أن اقول ( اكتب ) ما أُريد.
إنّ فحوى أي نصٍّ أدبي، إنما هو في الواقع تعريفٌ لعنوانه، على الرغم من أننا لا نقرأ علامة الشارحة وراءه، كما في كل تعريف، أي بمعنى، أننا لا نراها مرسومةً بعده، ومهما قصرت أو زادت سطور وصفحات مضمونه، ولأن ّ الكتابة تمضي وفقاً لنمط ثابت، أي أنها تكون عمودية ( من أعلى إلى أسفل ) فبرأيي الخاص، لا يصحُّ البتّة أن نضع عنوان النصِّ بعاليه، لا بل بأسفله، أقول قولي هذا مؤسساً فيه على بدء، وللإجابة عن أي تساؤل يُعارض فيه طارحه ما اطرحه الآن، أرجع به إلى ما قد تعلمناه ونحن في الصفوف الدراسية الأولى، ففي طريقة ( الجمع الرأسي ) لم نعتد في مرة، أنْ نضع ناتج أية عملية في أعلاها، إنما في ذيلها، مثل:
8
+ 3
– 5
————-
= 6
ولكون الناتج هنا يترتب على العمليتين الموجودتين قبل علامة التساوي، أي على ما هو فوقه، واللتين أدتا إلى تحصيله حسابياً، تمّ إدراجه في الأسفل، فإن حدث أنْ أحدثنا العكس جدلاً، بكتابة القيمة المُتحصَل عليها في أعلى الإدراج، نصبح كأننا فكًكناها فكّاً،أو بتعبير أدق، سنكون قد جعلنا من الناتج المُتحصل عليه تحصيلاً حاصلاً، فما الذي يجبرنا على إجراء هذه العملية بالأساس، طالما أنّ ما نبحث عنه هو في متناولنا؟ على أية حال،امحُ هذا التصوُّر من مخيلتك، لأنه سوف لن يحدث أبداً.
أدمغ’ دليل استشهد به في هذا السياق، هو النصُّ القرآني الكريم، فعندما نزمع ترتيل آي الذكر الحكيم تجويداً أو تلاوةً، نستهل القراءة بالبسملة، إنْ قرأنا أية سورة من أولها، أو أن نبدأ بالتعوذ من الشيطان الرجيم حال البداية من أواسط آياتها، ولكن ْ حينما نأتي على قراءة الآية الأخيرة منها، نقول في خشوع وتدبر:’ صدق الله العظيم ‘ في الحالتين سواء بسواء، وهي نتيجة ما قرأناه، إيماناً وتصديقاً.
إذاً أفليس من المندوب و المستحسن، أنْ نضع عناوين النصوص الأدبية في الخاتمة؟ ذلك أنها هي النتيجة التي يؤدي إليها مضمون النصِّ ونودُّ إدراكها، فالرأي عندي، أن ّ المضمون هو من يترك الانطباع لدينا بشأن الاتساق بينه والعنوان، أتكئ هنا مُجدداً على علامتي التساوي والشارحة، فسبق أن ذكرت لكم، أنّ الشارحة تُماثل علامة التساوي بين الأرقام، حين مجيئها بين الكلمات، فالثانية تفصل بين عدة أعداد تأتي قبلها، وعدد وحيد يتلوها، هو الناتج المُختزل لما سبقه، وتأسيساً على هذا، فصلب الموضوع مع توطئته مضافاً إليهما ختامه، يجب أن تساويهم جميعاً كلمةٌ واحدة، هي عنوانه المسبوق بالشارحة، وهذه الكلمة قد تكون عبارة ً عن عبارةٍ طويلة، كمثل قولهم: ‘ ألقى المُحاضر كلمته ‘ التي تتمثل في الغالب الأعم، في محاضرة تستغرق وقتاً طويلاًً لقراءة صفحات كثيرة من جانبه، ولو أكملت لك سياق قولهم: (ألقى المُحاضر كلمته وكانت بعنوان:……….) فستصل بنفسك إلى حقيقة مفادُها: أن ّ العنوان في سياق هذه العبارة ورد في أخرها.
سأتطرق الآن بصدد هذه الفكرة إلى منحى آخر محاولاً بذلك أنْ ألمّ بجوانبها كافة، وهو الجانب الفنيّ ؛ تحضرني مشاهد مُضحكة، هي في أصلها صورةٌ لمشهد واحد لطالما تكرر في أشرطة الخيالة والمسرح كذلك، عندما نرى المُشخصاتي (المُمثِل) يمسك بصحيفةٍ ما لمطالعتها، فيستعصي عليه الأمر ويشرع يتلكأ في قراءته، إلى أنْ يأتي إليه أحدهم ويكتشف أنّ الأول كان يريد قراءتها بالمقلوب، ولكنه ليس السبب الرئيس الذي لم يمُكنّه من ذلك، بل أنه عائدٌ إلى كونه أُمياً لا يفُكُّ الخطَّ، فلا يظنْ أحدٌ بأننا نريد أنْ نجعل الكتابة بالمقلوب، فحاشا و كلا إن حتى فكرنا في ذلك.
فهل ستأتي أيامٌ على الصُّحف،نجد فيها عناوين موادها مُذيَّلة في الأسفل مع أسماء بعض كاتبيها، أقول (بعض) لأنّ البعض الآخر تُدوَّن أسماؤهم بعاليها؟ ومادُمنا في مسألة (التبعيض) سأخفّف من لهجة تساؤلي، قائلاً: هل سيأتي بعضٌ من الأيام على بعض الصُّحف، نجد فيه عناوين بعض موادها مُوّقعَة في أخرها مع بعض أسماء الكتَبة؟ فإنْ حدث أنْ وجدنا بعض أسماء الكُتّاب في الأسفل على عكس غيرهم،فليس من العجيب أن نقرأ بعض عناوين النصوص مُسجَلاً في الختام، لاسيما عناوين الذين تُدرج أسماؤهم في صدور الصفحات، لنرى معاً، هل أنّ ما يسطرونه بأقلامهم من كتابات يؤدي إلى نتيجة ما تُختزل في كلمة واحدة، أم أنَّ هذا (المضمون) لا يتساوى ذلك (العنوان) أم أنّ الأمر برمته، لا يتعدى كونه مسألة انتقائية أولاً وأخراً؟ والسؤال بالطبع موَّجهٌ بكُلِّ أدب إلى المُحررين، أما أنتم أعزائي القُراء ففي حلٍّ منه، ومن كُلِّ ما ورد في هذا المقال، وفي حالة أنه لم يرق لكم، أعطيكم كُلَّ الحقِّ في أنْ تشطبوا ما جاء فيه، لكي تصلوا إلى الكلمة الضائعة المُتصلة بعنوانه، فكُلُّ ما تطرقت إليه ما هو إلا مجرد: وجهة نظر .
_________________________________________________
(*) الجمع الجبّري: هو الذي يتضمن عمليتي الطرح والجمع معاَ.