المقالة

الوجه الآخر للإنسان

 

الوجه الآخر للقمر لا نراه، فصورته تبدو لنا واضحة وثابتة، حتى حين اكتمال استدارته في نصف الشهر القمري، فهو يقبع هنالك خلف الوجه المنظور منه، ومرجعية ذلك عائدة إلى أنَّ زمن دوران القمر حول نفسه مساوٍ لزمن دورانه حول الأرض، التي نحيا عليها ونقف على سطحها بزاوية النظر إليه، فهذا هو التفسير لهذا المانع، من حيثُ الناحية العلمية.

أما الشمس فتبدو لنا غير واضحة المعالم، فما هي إلا نجمٌ يتوهج إشعاعاً، بالكاد نستطيع النظر إليه بالعين المجردة، فقط لثوانٍ معدودة، بفعل التفاعلات والانشطارات النووية التي تحدث في جوفها، فالنظر إليها يُبهر الأبصار ويُصيبها بشيءٍ من الغشاوة، بل أن مؤداه إلى العمى (عافاكم الله) إن أطلنا النظر إليها، لاسيما في ساعات الذروة، ومع ذلك لا يستطيع أحد منا أن ينكر ما للشمس من أهمية في رؤية الأشياء التي تُحيط بنا، فهي لا تتيح لنا فرصة النظر إليها، بقدر ما تساعدنا على رؤية الأشياء التي تبدو من حولنا، ومن بينها وجه الإنسان.

فالإنسان ليس له إلا وجهٌ واحدٌ مرئي وواضحُ الملامح، ويمكننا النظر إليه ورؤيته من جميع زوايا الرؤية ومن جوانبه كافةً، وعن كثب، فكل جوانبه تبدو لنا ظاهرة للعيان وغير مخفيّة لكل من أراد النظر إليها بالعين المجردة، فإذا كان وجه الإنسان بكل هذا الوضوح والجلاء، السؤال هو: ما لنا لا نكتشف أغواره ومواطن الجمال التي تتربع على مساحته المحدودة ؟.

ونحن إذ نطرح هذا السؤال، لسنا نطمح إلى إجابةٍ عنه تأتينا من أيٍّ كان، بل أن ثمة أمراً مهماً هو من دفعنا إلى ذلك، ويتمثل في عبارة ما فتيء يسمعها كل منا، حينما يقع في مشادة كلامية مع شخص آخر فيخاطبه الأخير قائلاً: (إنك لا تعرفني جيداً وسأُريك وجهي الآخر) يُسمعك هذه العبارة وهو يتوعدك لدرء الخطر الذي يزعم أنه سيأتيه منك، ولكي يمحو ذلك الانطباع الذي تمخض في مخيلتك بشأن رأيك به من كونه إنساناً سهل المنال، فهذه العبارة في حقيقتها ما هي إلا مناورةٌ منه، وجد فيها خير وسيلة ليجعلك تحذر جانبه وألا تستهين به وبذا تكون قد أقمت له شأناً واعتباراً، وبُعيد ذلك سُرعان ما سوف ترى منه العجب العُجاب، حينما يُقابلك بتصرفات لم تتوقع في يوم من الأيام أن تصدر منه، للحد الذي يجعلك تتساءل في قرارة نفسك: هل هو الشخص الذي أعرفه أم أنه شخص آخر شبيه به ؟ ذلك أنك لا تزال تراه بوجهه المعتاد، على الرغم من إنه قد توعدك بأنه سوف يُظهر لك وجهه الآخر، ثم لا تلبث أن تُجيب نفسك بنفسك، عن ذلك السؤال الذي قد جال في خاطرك بتساؤلٍ آخر يُخامرك شك فيه، عندما تتساءل: أتُراه كان يقصد بوجهه الآخر الأسلوب الذي قد فاجأني به ؟ ثم لا تلبث أن تجزم بذلك، بعد أنْ تصل بتفكيرك إلى أنه كان يعني بالوجه الآخر الجانب السيئ والمظلم من شخصيته.

لكن الغريب في الأمر والجدير بالذكر في آنٍ واحد، أنَّ هذه العبارة لا تجيء على لسان أحد، إلا عندما يُريد أنْ يُكشر عن أنيابه، ولا تسمعها للغرض المعاكس وهو تبيين الجانب الجيد والمضيء لشخصية أخرى، كنت قد أخذت عنها انطباعاً يُخالف انطباعك عن شخصية الأول، فبمجرد أنْ تتناهى إلى مسامعك تلك العبارة ـ تتوخى الحيطة والحذر من قائلها بشكلٍ تلقائي، لكونها تحمل في طياتها تهديداً ووعيداً شديدي اللهجة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل حقيقةً أنَّ الوجه الآخر لأيٍّ كان في الغالب سيىء ومظلم ؟ للإجابة عن هذا السؤال، سنجد إننا مضطرون للعودة بكم إلى ما ورد في مقدمة المقال لا محالة، أي إلي الأجرام السماوية الثلاثة، وهي الشمس والقمر والأرض وما يجرى حين دوران الأخيرين حول الأول، فأثناء دوران القمر حول الأرض ودورانهما معاً حول الشمس، يحدث بين فترات متباعدة أن يقع الثلاثة على خط أو استقامة واحدة في حالتين كل واحدة منهما لها نوعان، فإن حدث أن وقع القمر بينهما، تُعرف هذه الحالة لدينا بظاهرة (كسوف الشمس) حيث يحجب القمر عن الأرض قرص الشمس، ما يعنى بالتالي عدم وصول أشعة الشمس إلينا، ما من شأنه أن يجعل الأرض تسبح في بحر من الظلام لوقت قصير، ثم لا يلبث أن ينجلي ويتبدد ذلك الظلام، الذي هو في حقيقته، ظل القمر الساقط على سطح الأرض، فيظهر النور من جديد، كأن شيئاً لم يكُن، هذه هي ظاهرة كسوف الشمس وهذه هي حيثياتها أما عن نوعيها فهما الكسوف الكلي والحلقى، وبالنسبة للحالة الثانية، تحدث عندما تقع الأرض بين الشمس والقمر، وتُعرف بخسوف القمر عندما يتساقط ظل الأرض على سطح القمر، فيكاد يختفي عن الأنظار لأنها قد حجبت عنه أشعة الشمس، كما فعل ويفعل هو في الحالة الأولى (كسوف الشمس) وكما ذكرنا فإن لظاهرة خسوف القمر نوعين هما الخسوف الجزئي والخسوف الكلي، بقي لنا في هذه الفقرة الإشارة إلى أن من أطلق هاتين التسميتين على هاتين الظاهرتين الفلكيتين، من يقف ناظراً إلى القمر والشمس من موقع بعيد عنهما، وهو الإنسان الذي يقف على سطح الأرض، والذي غاب عنه أنه سيكون لهاتين التسميتين مصطلحان آخران، فيما لو كان هناك من يقف على سطح القمر بزاوية النظر إلى الأرض والشمس، فكسوف الشمس بالنسبة للإنسان هو في حقيقته خسوف الأرض، وبالمثل فإن خسوف القمر هو كسوف الشمس ولأن لا حياة على سطح القمر، فبإمكانكم أن تسألوا رائد الفضاء لتتحروا هاتين الحقيقتين، على أية حال، فإن ما يهمنا في هذا الأمر، أن ظاهرة كسوف الشمس التي نراها، يحدث فيها أمر غريب، وهو أن وجه القمر الذي يتراءى لنا بصورة ثابتة على الدوام وبشكل مضيء، سيتراءى لنا أثناء ذلك مظلماً في حين أن وجهه الآخر الذي لا نراه هو الذي سيكون مضيئاً، لأنه مازال يقبع خلف الوجه المرئي، ما يجعله يواجه قرص الشمس في الناحية الأخرى، حتى إن كان مشهده غائباً عنا، ما معناه أن القمر يستثمر حدوث هذه الظاهرة الفلكية، كي يرسم في انطباعنا صورة جيدة لوجهه الآخر، على النقيض من الإنسان الذي ما أنفك دوماً يجعل وجهه الآخر مظلماً وقاتم السواد بتلك العبارة التي يتلفظ بها متبجحاً.

فياليت كل إنسان يجعل وجهه الآخر والظاهر، منيرين دائماً مثلما يفعل القمر الذي اعتدنا أن نرى وجهه الظاهر منيراً وإن بدا لنا مظلماً يُنير وجهه الآخر، فسبحان الله أنْ أبدع ذلك.

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (13)

المشرف العام

علاقة الاتزانية بالوضع المحلي والدولي

علي بوخريص

مقدمة كتاب: الدور الريادي للأديب الليبي خليفة حسين مصطفى أدب الأطفال

المشرف العام

اترك تعليق