للصديق العزيز.. نادر السباعي
لا يبدأ النص، ولا ينتهي في العدم.. ولا يتخذ له مخرجاً إلا من خلال ذات، وإذا افترضنا أن هذه الذات غير موجودة، فإن النص لن يكون، وهي الحالة الوحيدة التي لا يمكن أن تنتج نصاً، وغير المعوَّل عليها في خلق موازاة صحيحة مع الحياة.. وعندما قلت أن الإبداع عملية موازاة مع الحياة، لا تقاطع كنت أتعدى مجرد الطرح المجاني لمصطلحٍ جديد، لأن خاصية التقاطع هي الالتقاء في نقطة أو نقطتين، بينما الموازاة حالة من الترافق، والتعاطي بحساب البعد والقرب (تقول فرضيات الرياضيات أن الخطان المتوازيات يلتقيان في مالا نهاية).
إن هذه الموازاة أو ما أسميته (نظرية التوازي)، هي نظرية/مقولة قادرة على التفاعل والتعاطي مع كل تنظيرات الأدب الحديثة، حتى نظريات (نهاية النص)، (نهاية المؤلف)، وأنا أطورها وأستنتج (نهاية المتلقي)*.. وحتى مجرد قراءة النص في جناسٍ وطِباق، لأن فعل الموازاة هو فعل تعاطي مرافق، يمكنه خلق ذاتيته وعمومه.. وحيث إن الحديث كان تلك الظهيرة عن الشعر، فأنا أقولها بحق، إني أقتنع عندما أقرأ:
اذهب.. لترى أكثر وضوحاً
إشراقة الليل
تطوي ضحا النهار
في عنوةٍ أبدية، تجرح بمخالبها حفاوة النار..
اذهب لترى أكثر وضوحاً
نزقَ الأحداث
يسرمد الحياة، تحت أرصفة النمل..
وأقول إن “صلاح عجينة” عندما كتب هذا النص، كان ذاتياً إلى أبعد حد، وأنه في مجموعته الشعرية (كلام البرق) كان صنع أسطورته كما يريد هو، واستعان حقيقة بكل ما حوله، محتفلاً بيوميته، ثم كتب كما يريد على وزن أغاني “الشاب خالد”.
إن تنظيرات الجمال، لم تعد قادرة على تقديم أي جديد، حتى إنها لم تطور أدواتها للتعامل مع إيٍ من منجزات العصر، ووقفت عاجزة أمام (الحداثة) مرتبكة في هذا النص المغامر، إن تنظيرات الجمال التي تقول بقواعد هي أحوج ما يكون للرأفة بحالها من الاعتماد عليها، فأي جمالٍ بمقاييسها يمكننا الاعتماد عليه، وإلا عشنا مفصولين عن كل ما حولنا، لأنها ستقف عاجزة حقيقة عن تفسير ظاهرة مثل صَرَعات الأزياء الحديثة، أو شكل العالم وهو يتخذ شكل الخنادق.. إننا حقيقة نتعامل مع ما هو واقع، كما هو واقع، بدون أية رتوش، بنفس الوجه أكثر من منحه محسنات جمالية، قد يتفق فيها الجميع لأنها القانون العام الذي لا يجد من يقول بغيره، لكن التعامل بذاتٍ أكثر هو ما يعني المخالفة بمخالفة الذوات الباقية، لذا فإن الشعر المنظوم أو الخاضع لمعايير الوزن والقافية أكثر على شد الانتباه إليه، لأن الكل (عامة) يتفق في أنه شعر لاتفاق شكله العام الذي يتفق فيه الجميع، أما النص الحديث أو قصيدة النثر، فهي عمل فردي يخضع لشكل الذات المنتجة، مما يعني خضوعها لاتفاق واحد خارج عن الجميع.. وإن افترضنا وتقبلها العام صارت هي وما يخالف خارجاً..
أما لماذا هذا الخروج، وهذا التفكيك، فلأن التعامل يتم من داخل منظومة وعي، تدرك تماماً أبعاد التجربة التي تتعامل وإيّاها، أو تنتجُ نصها من داخلها.
الرئة المضطربة تجلس على حافة السرد،
تترك المتن لقص امرأة ترتجل نصوصها
تتوفز حوافها تتحصن بالسرد الذي اعتزلها
كانت عيناها محتقنتين لفرط الرقص
تحرك حرفا ثم تلوي آخر
تتناول معجما من أكفانه
ترتجل حضوراً وأمكنة غير الهامش
تحرر البكاء من مهنته
تخبُّ في مجدافين متناغمين
ترشو عاشقين قديمين
وتستصدر فتوى بالمشهد
حتى و”خالد درويش” وهو في هذا المقتطع يراجع تاريخاً كاملاَ، لا يعجز عن موازاة ليل طرابلس المزدحم، المكثف المشهد، المشتعل حركة وهياماً، بعيداً عن أي تنظيرٍ جمالي، لأنك لو عشت ليل طرابلس حقيقة لما اقتنعت أن ثمة توافق معين يمكنه حكم المشهد، واقعه الذي هو..
من هذه النقطة يبدأ النص التسعيني في ليبيا من نقطة التوازي، يحدد بعدها فعل (ارتياب) منتج، فعل ارتياب يقدم مفاتيح الولوج للنص وبالنص لعوالم ربما قد لا تعني غيرهم، عوالم صنعتهم وهذبت شطحاتهم، وكانت السند لهم عن الحفرة التي خلفهم، المفازة التي اجتازوها في الأمام.
إنها يا صديقي… معادلة نسعى جميعاً لتحقيقها، كلنا جميعاً.. نهجر شكل الرتابة الجاهز، إلى الأكثر حركية، ألا تستجيب حواسك إلى (البُب ميوزك)، وتتفاعل معها بحرية مطلقة، وبذات الفكر لم تستطع تقبل سماع غناء طرابلسي.. إنها ذاتك وحدها من تحكم العملية برمتها، وهي وحدها من تنتج إبداعها، راقب نفسك تجدها من تعطي الأمر لتتفنن في صنع صفحاتك، رامياً بكل مقولات الجمال التي لم تتطور من قبل مائة عام… واسمح أن أختم هذه المرة بمقتطع قد لا يعجبك، لكنه لي على أي حال:
خلفيةُ المكانِ ستارٌ من زهور لا أعرفُ اسمها إلا لونها المقاربَ للمحو،
والبساط أيضاً بعضاً من طبيعةِ المكان/ بلونيه الداكنِ والممحوْ
والقبة التي أظلتنا من صنعنا أيضاً،
خلعنا قمصاننا لتكون،
كما نخلع مزاجنا في سهرات الورق، والقمر الصناعيْ
نشحذُ الهمم لصناعة رموزنا الخاصة، وقتل التأجّج داخلنا..
* نهاية المتلقي.. ربما أفردنا له موضوعاً خاصاً (وهذا قريباً).
_____________________________________________
صحيفة الجماهيرية.. العدد: 3879.. 27-28/12/2002
3 تعليقات
أرفع قبعتي وانحني احتراما لرقي حرفك السامق الباذخ الماتع كالغيث حين يهطل في احدى شتاءات مدينتي..
نشكر مرورك الوثير
تحياتنا
شكرا لك أستاذ حسين ولكلماتك الكريمة!!