المقالة

نظرية المؤامرة

 

في شريطه السينمائي (نظرية المؤامرة)، يمثل (ميل جبسون) صحبة (جوليا روبرتس)، شخصية عميلٍ استخباراتي تم تجنديه ضمن مشروع خاص، لغرض خدمة أحد المخططات الأمريكية.. وبعد قفل هذا المشروع والاستغناء عن العناصر العاملة فيه وتصفية البعض، يتحول (ميل) بما تلقاه من أفكار إلى الحياة بها، ورغم كونه سائق سيارة أجرة، إلا أنه لا ينفك يتحدث ويتابع الأخبار وما تنشره الصحف، رائياً أن كل الأحداث المحلية والعالمية، وما يقوله الرئيس في خطبه، إنما تخفي مؤامرة، ونراه يعمل بحذر على تكوين نادي مضاد وإصدار مجلة خاصة يوزعها بالبريد، يكون أرشيفاً لما ينشر وما يحدث، حتى إنه يعمد إلى تشفير كل ما يخصه، فهو فاقد للثقة في كل ما حوله.. ولما تكتشف السلطة أن هذا العنصر يشكل خطر الكشف عما كان، فإنها تسعى إلى إسكاته، حتى نهاية أحداث الشريط.. ولأن أحداث الشريط لا تهمنا بقد ما تهمنا الفكرة فإن وقوفنا هنا لا يغير من شكل الفكرة في شيء، لأن بقية الأحداث خليط من الدراما والحب والأكشن.

أما (نظرية المؤامرة)، فكانت هي الفكرة السيد في فترة ما، في الفترة التي كان يستعد فيها الناس لصواريخ تأتيهم عبر الفضاء، تسيرها أقمار صناعية تعبر القارات والمحيطات، وهي ما تعرف سياسياً بفترة (الحرب الباردة)، التي نشط فيها طرفي النزاع عدواً مبيتاً، بحيث تم حشد الجميع من اجل مجابهته، حد نسيان باب الخزينة مفتوحاً.. وعند المراجعة كان كشف الحساب أكبر من حجم الخزينة، فأغلق.

باسم هذه النظيرة فعلت الكثير من المشاريع، الوطنية خاصة، بهدف الحماية من الخطر القادم من الشرق/الغرب، والعمل الوطني هذا لم يشمل الدعاية المباشرة، بل تعداها إلى إنشاء المكاتب الخاصة والمشاريع الموجهة لغرض دحر الخطر الشرقي/الغربي، مستوى التجسس وصل ذروته هذه الفترة، تقنيات الدعاية السوداء فاقت التصور، ما أنجز من مشاريع تقنية (خاصة في الجانب العسكري) فاقت ما أعد.. والجميل أنه في النهاية تم التخلي عن النظرية، بعد أن بدأ التفكك واضحاً في طرف الشرق، وتحول ما كان إلى كينوناتٍ صغيرة تسعى للاستقلال، بعد أن فرغت الخزانة ولم يجد الحديد لتعبئتها.. أما طرف الغرب فوجد نفسه أما مخزونٍ من الصعب استيعابه، مخزون غير توزعه، تكدسه وإثقاله دعامات البيت الذي يحتويه.. فكان من السهل تسريبه إلى أكثر من مكان، أما المشاريع فما أقفل أرتيح منه، وما بقى خرج عن السيطرة.

نحن الآن نعيش نتيجة (نتائج) هذه النظرية، وما خزنته ذاكرتها من خطوات ومشاريع حل جانبية، وما اتخذ من خطوات بنية الاختصار أو إيجاد حلول مرافقة.. وما ترتب من إجراءات تبعاً لمتطلباتها، بالتالي صار علينا تحمل كل ما خزن من أفكار وما جهز من جيوش بهدف القضاء على العدو (الشرق×الغرب).. أما نحن فكان علينا الحمل الأكبر، أن نتحمل النتائج والتبعات.. ففي أوج النظرية كنا أداة، ومن بعد مسرحاً لما تعلمه الممثلون من أدوار.

لقد قيل أن النظرية انتهت، وأنه لم يعد ما يستوجب الشك فيمن يسكن خلف الأجمة، وأنه لا حاجة لوضع جدول بالتخمينات، والبدء بمراجعته، والظن أنه ربما سكن خلف الأجمة لغرض التخفي والتسلل، وسلسلة لا تنتهي.

وقيل أيضاً، أن النظرية ماتت، ولم يعد من مقومات لبعثها من جديد، ما لم تحدث قيامة أخرى، تستوجب نشوء تكتلٍ أقوى.. وأن العالم يسير في اتجاه القطب الواحد، قطب المصالح، وأن ما سيكون عليه العالم، مدينة كبيرة تعمل فيما بينها بغية الاستمرار.

هل يعني انتهاء أحد الأطراف، سقوط المعادلة؟

حتى لو افترضنا أن (الصفر) تعويضاً عن الطرف الغائب، فإن المعادلة قابلة للتطبيق، فالصفر قيمة، صحيح أنها لا تعني شيئاً لكنها قيمة تعني الخواء، أو اللاشيء، وعليه فإن النظرية لم تمت، ومازالت قائمة، وأن هناك من يعمل على متابعة حلولها والنتائج، وتوجيه حدودها.. حيث تم صياغة مجموعة من النظريات الصغير (بالاستنساخ)، يمكن تطبيقها في أي اتجاه، وفي أي وضعية.. ولم يعد من الضروري طالما أن طرف المعادلة يساوي صفراً من وجود حلٍ، فالأكثر من الحصول على قيمة هو تطبيق المعادلة.. أما كيف، وأين، متى؟، هذا ما ليس من قدرتنا.

الأمر المهم في هذه القضية، أن الأمر تعدى حدود دواعي الأمن والسيطرة إلى الفكر والثقافة.. فكان النص ينغلق من أجل مخاطبة المختفي خلف السور، المختفي خلف ما يرتبه من خطوات، قبل القفز ومباشرة العمل.. تحول النص إلى حالة ارتياب، أو حالة شك، فثمة كائن ما وراء هذه الحروف.

الأمر تحول إلى ارتياب متبادل.. وكأن مرآة وقفت في المنتصف.. فبقدر ارتياب الكاتب ارتياب المتلقي، ولأن المرآة ذات بعدين، فلن نكون بالقدرة التي تكشف لنا عمق هذا الأثر في الصورة.. المثقف يبحث في ما وراء الحروف وتحتها، والمتلقي يرتقيها ليرى ما هو مخبأ فوق.

قد يستشعر البعض تهويلاً، لكنها محاولة معالجة ما استطعنا منها بمحاولة تفكيكها (أي النظرية) بعيداً عن التدقيق، وإلا انجرفنا وراء عمل الناقد المرتاب الأكبر في النصر، الذي يقرأ النص من باب النظرية الأكبر.

وحتى هذا الوقت مازالت النظرية حية في بعض الأماكن، تقتات بما تنتجه الوحدة من خيالات.. لنقدم كل شيء حتى لا نسقط في قبضة العدو المتمترس خلف الأجمة.. حيث سيكون من الأسهل إزالتها حتى نراه جيداً، بدلاً من إنفاق الوقت لكتابة ما يمكن من تخمينات.

___________________________________

مجلة غزالة.. العدد:04.. ديسمبر2004

مقالات ذات علاقة

القِــرَاءَةُ : فَــنُّ الحَيَاةِ الرَّائِــعِ

خالد السحاتي

ما اضيع الجمال عند البهائم

أحمد معيوف

ذكريات سينمائية في البيضاء الليبية

المشرف العام

اترك تعليق