إذا كان لابد من السؤال وهو كل ما نملك، فنحن نتساءل على الدوام عن الأسباب والعوامل وراء غياب الكتاب الليبي واختفائه من واجهة حياتنا الثقافية والأدبية، إلى حد أنه أصبح في السنوات العشر الأخيرة أثراً بعد عين.
وإذا كنا لم نصل بعد إلى درجة من الوعي تمكننا من إدراك مدى أهمية الوظيفة الاجتماعية للثقافة، وما يمثله الكتاب في إطارها العام، فإن هذا الأمر لا يلغي البديهيات المسلم بها في معادلة الممكن والمستحيل، التي كلما ننتبه إلى عدم توازنها واختلالها بين ما هو ضروري وملح، وما هو زائد عن الحاجة لا يجب الالتفات إليه، ولا أظن أن هناك ما يدعو في حالة كهذه إلى أن نتخذ موقف الأستاذ بإزاء عدد من التلاميذ الصغار، الذين هجروا ألعابهم المسلية لكي ينصتوا متملمين على مقاعدهم غير المريحة إلى حديثة الوقور، عن حميمية وجدوى التواصل مع الكتاب الذي هو الأب الروحي للحضارة الإنسانية، والتقدم الذي أحرزته البشرية في كل العصور، منذ أن تعرف الإنسان على ذاته أصبحت المعرفة هي هاجسه الأول، ثم تعرفه على الحبر والورق، إلى أن توصل – بجهود مضنية إلى- اختراع الطباعة، التي أحدثت في حينها ثورة هائلة في إنتاج المعرفة وتعميمها.. فلم تمد حكرا على طبقة بعينها، أو مقتصرة على أفراد محدودين يتبادلونها فيما بينهم باقتناء المخطوطات التي تنسخ بآلية، ويتم تداولها على نطاق ضيق، لقد جاءت المطبعة لتضع الإنسانية على أعتاب عصر جديد، من أبرز ملامحه أن أصبح الكتاب في متناول أيدي كل الناس، ومن كل الفئات والأعمار، وكيفما كانت اهتماماتهم الفكرية.
جاء الكتاب ليوفر المعرفة التي هي الشر ط الأول لارتقاء الإنسان في سلم التقدم، ولارتقاء إنسانيته وللإجابة على أسئلة كثيرة تواجهه في مغامرة الحياة، ولكي تزدهر صناعة الكتاب لدى هؤلاء الذين تهمهم هذه الصناعة نجدهم يحتفون به، ويقيمون له المعارض، ويخصصون لمؤلفيه الجوائز المادية الضخمة، ويتفننون في الحوافز التي تشجع على الإبداع والتفوق فيه، ومنح الأوسمة الرفيعة للأدباء والمفكرين والعلماء الذين يضيفون إلى التراث المعرفي والثقافي أعمالاً جديدة ومتميزة.
إذا كان كل ذلك يحدث في بلا تغتني -حتى التخمة- بالثقافة الأدبية والعلمية، فإن ما يحدث عندنا هو العكس أو النقيض، وبما يدعو إلى التعجب والحيرة، فمع أننا مازلنا نراوح مكاننا متخبطين في قاع التخلف، فإن الكتاب هو أخر ما نفكر به، أو ننشغل بقضاياه وأزماته المتراكمة، وأخيراً ويما يشبه الاتفاق المضمر فقد تقرر تجاهله ونسيانه، ولا مانع بالطبع من أن نتذكره من حين إلى أخر لكي نرثى له، ونثير من حوله زوبعة من الثرثرة التي لا تفيد، ولا مانع أيضا من أن تكون مصحوبة بتبكيت الضمير.
وهكذا فلم يبق إلا أن نتخذ ما نحتاجه من جرأة لكي نعلن موت الكتاب الليبي بصوت عال، وبذلك نقدم شهادة للتاريخ على أننا أول شعب من شعوب الأرض يزهد في المعرفة، ويعوم عن الثقافة والفكر، ويلزم حدود تخلفه الموروثة من عصور الانحطاط، فلا خطوة إلى الأمام ولا يحزنون.
ترى كم من الأمثلة الصاعقة التي يمكن أن نسوقها هنا للتدليل على أن قضية الكتاب الليبي ليست مفتعلة أو مبالغاً فيها، فهناك وقائع عدة ومؤشرات يمكن لمسها باليد، والتحقق منها بالأرقام لمن يهمه ذلك، وإذا كنا نفتقر إلى الإحصائيات الدقيقة، فإنه يكفي أن نشير هنا إلى أن الدار الجماهيرية، وهي مؤسسة النشر الوحيدة التابعة للقطاع العام لا يزيد ما أصدرته من كتب خلال العامين الأخيرين عن أصابع اليد الواحدة، أي ما يقرب من خمسة عناوين في السنة، ونحن منا لا نلوم هذه الدار المثقلة بالديون، مع انعدام أية مبادرة حاسمة لشطب هذه الديون، وحقنها بعدة ملايين من الدينارات لكي تقف على قدميها مجدداً.
وأما دور النشر الخاصة فلا أحد يعول عليها في شيء، فكل نشاطاتها وجهودها مكرسة لنشر وطباعة الكتب المدرسية المساعدة والكتاب الجامعي المقرر على الطلبة، أي بما يضمن لهذه الدور الربح الوفير الذي تجنيه من أقصر الطرق.
أما إذا جئنا إلى حجم الإنفاق على الكتاب، والمبالغ المالية التي يتم رصدها سنويا لإنتاج المعرفة والثقافة، ففي رأيي أنه لا يوجد لها حجم يذكر إلا إذا كان للصفر حجم أو قيمة.
لقد انعكست هذه الأزمة بكل سلبياتها وإحباطاتها ليس على الكتاب الأحياء وحدهم الذين لجئوا إلى النشر على نفقتهم الخاصة برغم إفلاسهم المزمن، وإنما على الكتاب الراحلين أيضا، فالشاعر “علي الرقيعي” الذي يتيم في الدار الآخرة، فإن لاشيء يقلقه في نومه الأبدي بحسب تصوري سوى إحساسه بالمرارة بجحودنا تجاهه، وإهمالنا لإبداعاته الشعرية، فكأنه لم يعش يوما ولم يخط حرفا.. وللتذكير فقط نقول إنه مضى حتى الآن ما يقرب من نصف قرن على صور ديوانه الأول (الحنين الظامئ) وهي فترة كافية الآن لإعادة طبعه عدة مرات، ولكنه لم يطبع على الإطلاق.. وكذلك ديوانه الثاني (أشواق صغيرة) الذي طبع للمرة الأولى في عام 1966، وهو الآخر طواه النسيان والإهمال.
ويأتي الكاتب القصصي الراحل “خليفة التكبالي” في أثره، فقد صدرت للتكبالي أعماله الكاملة عن (الدار العربية للكتاب) في طبعتها الأولى عام 1976، بنفاذ هذه الطبعة من المكتبات اختفى “التكبالي” من خارطة الأدب الليبي، كما اختفى من قبله الكاتب الراحل “عبدالقامد أبوهروس” ونفوسه الحائرة، و”زعيمة الباروني” وقصصها القومي.
ولماذا نذهب بعيدا.. وإذا كان شاعرنا الكبير “علي صدقي عبدالقادر” يعاني من نفس المحنة، فقد صدرت أعماله الكاملة في جزئها الأول عام 1986، في انتظار طباعة الجزء الثاني ولكنه لم يطبع، ولم يصدر الجزء الأول في طبعة ثانية برغم نفاذه من المكتبات.
ويبقى سؤال أخير وهو: هل يحق لنا في غياب الكتاب أن نتحدث عن ثقافة تكون جزءاً من العصر ومن ثقافة العصر، تضيف إلى ضمير الإنسانية شيئا له قيمة، أو على الأقل أن نحافظ على ثقافتنا الوطنية من الاندثار ا!.
_______________________________
* صحيفة المشهد.. العدد:27.. 01/07/2004