المقالة

الكتابة على حافر حمار[1]

كتابة
كتابة

أغلب وسائل الإعلام تُكرر ما تقوله، وتُعيد تدوير نفسها آلاف المرات، وتردد نفس العبارات وكأنها نوع من التسابيح، أو كأنها نوع من العلك، فلا يسع العالك إلا أن يُكرر نفس المضمون بنفس الأسلوب.

لكن الأمر الأسوأ ليس في العالك، ولا في المعلوك، وإنما في المعلوك له، أو بالأحرى: (المعلوك في وجهه)، لأن عبارة (المعلوك له) قد توحي بنوع من الاستفادة، وهي هنا منعدمة تماماً بالنسبة لذلك المواطن التعيس الذي تيبست رقبته وهو متمسمر أمام التلفاز.

ربما كان سبب هذا التكرار هو أن حافر الحمار لا يُمكنه أن يستوعب أكثر من جملة واحدةٍ تُرشم في حافره فيقوم بإعادة طباعتها على التراب في كل خطوة يخطوها دون أن يعي ما يفعل، مع عدم إمكانية إستبدال الجملة المرشومة على حافره بواحدة أخرى.

وكل ما عليك لكي تعرف ما كُتب على حافر الحمار هو أن تقرأ طبعة واحدة من طبعات حافره على الرمل، دون الحاجة إلى اتباع الحمار وقراءة آثار عفساته عفسةً عفسة.

إلى هنا قد يبدو الأمر بدهياً ومنطقياً، وأنه لا يُمكن لعاقل أن يتتبع خطوات الحمار خطوة خطوة آملاً في أن يظفر بجديد، أو أن يجد في هذا التكرار ما يُفيد.

وإلى هنا – أيضاً – قد يبدو الأمر فيه مغالطة كبيرة، فما يُمكن أن يُقال عن حافر الحمار الذي لا يتسع سوى لجملة قصيرة واحدة، لا يُمكن أن يسري على قناة تلفزيونة تحمل في جوفها مذيع فصيح اللسان، يفذلك الكلام وينمقه ويشحنه بكل ما أوتي من بلاغة وبيان.

والكارثة أن كل هذا التنوع الظاهري في الأساليب والصور البلاغية، وكل ذلك التعدد في الجمل والمفردات، ما هو إلا لخدمة هدف واحد وحيد، ولو تمت صياغة هذا الهدف بكل حيادية، وبكل أمانة، وبكل صدق، وبكل نزاهة.. لأمكن كتابته على حافر جحش.. وبكل يُسر.

وهذه الجملة القصيرة جداً هي بالضبط ما يُراد تلقينه لذلك المواطن البائس المتيبس أمام التلفاز بحثاً عن بارقة أمل.

أليس هو تماماً كالذي يلهث في إثر الحمار عله يجد عبارة أخرى أو معنى جديداً، ظناً منه أن للحمار القدرة على الكتابة على حافره، أو أن الحمار على وعي تامٍ بما يختمه حافره على صعيد الأرض، أو أنه في لحظة ما، أو في خطوة ما.. قد يكتب جديداً؟

وإلى أن يعي المواطن البسيط حقيقة ما يَجري حوله، أو ما يُجرَى له، فإنه سيظل ممسكاً بثفر الحمار يجري خلفه بلا هدف ولا غاية، متتبعاً نفس العبارة من نفس الحمار، في ماراثون لا ينتهي إلا برفسةٍ على خنفرته من ذلك الحمار الذي يجري به!.


[1]  “الكتابة على حافر حمار” مثل ليبي يُطلق على التكرار الممل.

مقالات ذات علاقة

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة

علي بوخريص

حقول الحرية

فاطمة غندور

تاريخُهن لم يُكتب!

فاطمة غندور

تعليق واحد

rashad aloua 24 يناير, 2020 at 12:22

جميل

رد

اترك تعليق