طيوب النص

وحيدًا كنجمة الصباح

الذكرى الـ13 رحيل الكاتب الليبي محمد الزوي

الكاتب الليبي محمد أحمد الزوي
الكاتب الليبي محمد أحمد الزوي

كنت أزرع خطواتي في ليل بوينس أيرس وحيداً غريباً كنجمة الصباح …

وليل بوينس أيرس ، ليل كثيب وموحش ، الأضواء تلمع من كل مكان ، والشوارع فسيحة نظيفة ، والميادين واسعة مضيئة .

لكن ذلك كله لا يمنع كآبة الليل ووحشته وأخطاره أيضاً …

فالزعيم الذي حلمت به الجماهير طويلاً ، وانتظرته بالشوق والحب كله فشل في أن يعيد الابتسامة للأرجنتين ..

لقد عاد زعيماً يختلف تماماً عن الصورة التي رسمها له الشعب ونحتها فې قلبه .

نسي الشعب في لحظات ألمه وحزنه وانتظاره وشوقه أن الزعيم قد أكله الزمن .. أصبح حطاماً، عجوزاً مترهل الجسد والفكر ..

ان بيرون السبعينات يختلف تماماً عن بيرون الخمسينات ..

فالزمن قاتل ..

والمنفى لم يعط شيئاً للزعيم سوى راقصة تدفع السأم الذي يتسلل إليه ..

ولم يستطع الزعيم رغم رفقة زوجته الراقصة أن يعطي شيئاً لشعب الأرجنتين .

اكتشف الشباب الجديد الحالم بالمنقذ العظيم أن أحلامه سقطت من السماء السابعة وتناثرت شظايا على طول وعرض الأرجنتين .

وتحرك الشباب في محاولة لجمع شظايا أحلامه .

وكان معنى ذلك مواجهة الزعيم العجوز …

ومنذ ذلك اليوم أصبح الليل في بوينس أيرس .. ليلاً كثيباً موحشاً محفوفاً بالمخاطر .

فقد تنفجر قنبلة هنا ..

وقد تتناثر الشظايا هناك ..

وقد تهاجم الشرطة هذا المقهى ..

أو تقتحم ذلك البيت ….

وأنا أزرع خطواتي في ليل بوينس أيرس وحيداً وغريباً كنجمة الصباح .. ولا شيء يهزني أو يثيرني سوى أنني غريب ووحيد وبعيد عن أرض انبثقتُ من قلبها وعشقتها عشقاً اسطورياً لا مثيل له …

لقد كانت ثمة نصائح للهيئات الدبلوماسية بالحذر من ليل بوينس أیرس .

لكن البدلة الدبلوماسية كانت ضيقة للغاية على جدي الرافض العنيد … فأنا لا زلت كما أنا ابن جنان النوار (بشبشبه) القديم وشعره المنكوش ، وقميصه الملتصق بالجسد ..

بنزواته .. وبحثه عن التجربة مهما كان الثمن المدفوع .

لذلك كنت أزرع خطواتي في ليل بوينس أيرس وحيداً .. وغريباً كنجمة الصباح ضارباً بكل النصائح الموجهة للهيئات الدبلوماسية .

سيارات الشرطة تملأ المنعطفات ..

والخوذات الحديدية تعكس الأضواء المتساقطة من ليل بوينس أيرس ….

والملصقات تملأ الجدران

عالم غريب متناقض تعكسه الملصقات .

بیرون في القلب احذروا تجربة التشيلي ..

لا بد من جيفارا الجديد …

تافارينا زوربا تقدم لكم المتعة الكاملة ..

كافحوا شلل الأطفال …..

سحبت خطواتي من الشوارع المليئة بالخوذات الحديدية والملصقات والمتناقضة ودلفت داخل الشوارع الخلفية متجهاً صوب مقهى سمعت عنه كثيراً ، وحذرت منها كثيراً .. فهو ملتقى الشباب الجديد الذين يصنعون الكلمة الجديدة ، ويبدعون النغم الجديد ، ويحلمون بالمستقبل الجديد ..

ويشكلون يفكرهم وابداعاتهم القوة القادرة يوماً على خرق الجدار – الحديدي لتزرع الحب والتقدم في قلب الشعب الأرجنتيني ..

دخلت المقهى ببطء شديد .. محاولاً اكتشاف الموقع قبل أن احتل مكاني .

كان المقهى مليئاً بالشباب والشابات .. والضجة تندفع صاخبة ساخنة ، فالحوار بين الجميع يبدو خصيباً ودافئاً …

عيون كثيرة رصدتني ..

ولكني وحيد وغريب كنجمة الصباح ولا تهمني العيون كثيراً.

سحبت كرسياً وجلست على أقرب منضدة .. وبدأت محاولة التأمل .

آميكو ….

التفتّ للصوت الذي ينادي ..

كان وحيداً على منضدة مثلي .. صغيراً رغم لحيته الشقراء التي أضافت

إليه وسامة وجمالاً ….

حملت كأسي وجلست بجانبه …

ودار حوار ….

كان من شباب السينما الجديدة .. أخرج ثلاثة أشرطة قصيرة ..

وكتب أكثر من عشرة سيناريوهات .

سافر كثيراً ..

وقرأ كثيراً ..

واكتشف كثيراً ..

واصطدم بالواقع المر كثيراً …

طال الحوار وتشعب ، ولم يعرف الصديق الأرجنتيني عني شيئاً سوى أنني كاتب ليبي جاء يريد اكتشاف القلب الأرجنتيني .

فهؤلاء الشباب المبدعون يرفضونك تماماً إذا عرفوا أنك موظف حكومي تمد يدك في آخر كل شهر لنتقاضى مبلغاً معلوماً …

إنهم يؤمنون بأن الحياة مغامرة منظمة .. وان الاستكانة للراتب تعني سقوط كل شيء ، ونهاية كل شيء.

فالموظف في نظرهم ليس شاباً يتفجر بالحيوية .. ولكنه عجوز مترهل يمتد كرشه أمامه ولا يملك فكراً على الإطلاق.

وقد رفضت أن أقول الحقيقة ، ان أقول إنني موظف حتى لا أفقد احترامي .

رفعت كأسي .. وفي تلك اللحظة تماماً كانت الخوذات الحديدية قد ملأت المقهى وسدت منافذه …

عيونهم تقدح بالشرر ..

حركاتهم غضى ..

عصيَّهم مرفوعة إلى فوق …

ساد الهرج والمرج . سقطت عشرات الكراسي والمناضد ..

ارتفعت أيدي الشباب والشابات إلى فوق ، وفعلت مثلهم ..

داست الأقدام على الكتب ومخطوطات الأشعار وأحلام صديقي السينمائية ….

في لحظات كانت تحملنا ست سيارات سوداء كالحة مقفلة من كل الجهات ..

وفي لحظات كنا داخل مستودع كبير لا نعرف إذا كان مركزاً للشرطة ام معتقلاً خاصاً.

امتلأ المستودع بحرارة الشباب وحيويتهم .. فهؤلاء لا يعرفون الخوف ..

عيونهم تلمع بالشجاعة …

رؤوسهم صلبة عنيدة ..

قبضاتهم مضمومة في قوة ….

فجأة انطلق صوت عنيف قوي من حنجرة شابة ..

وتحولت حناجر الشباب إلى حنجرة واحدة قوية تردد :

((كانتا كون ميكو كانتا أرمانو أميريكانو))

وبقيت معهم حتى الصباح أردد أغانيهم ..

قد أفهم كلمة وقد تضيع كلمات …

ولكني كنت أحس بقوة خفية تندفع من أغانيهم فتهزني من الداخل، وتشعرني بأنني ما عدت وحيداً وغريباً كنجمة الصباح ..

ولكني توحدت مع مجموعة من البشر تواجه الآلام والمحن لتحدد ملامح المستقبل.

أصبحت نجمة وسط مجرة مليئة بملايين ملايين النجوم التي تبدد ظلام العالم كله ..

في الصباح قسمونا إلى ثلاثة صفوف ، وبدأت عملية الفرز الجهنمي ..

البطاقة ..

مددت يدي إلى جيبي وأخرجت البطاقة الدبلوماسية …

ارتج الضابط في مكانه ..

ترك مكتبه واختفى للحظات ثم عاد وعبارات الأسف تسبق خطواته، وابتسامة صفراء يزرعها فوق وجهه …

وطلب مني أن أرافقه .. فلا بد أن التحقيق سيأخذ شكلاً آخر . ماذا يفعل ديبلوماسي في هذا المقهى الخطير .. ؟

قبل أن أغادر مكاني التفت أبحث عن صديقي السينمائي الأرجنتيني .

عندما التقت عيوننا، التفت عني وبصق على الأرض.

لقد اكتشف اني-خدعته .. وانني املك بطاقة ديباوماسية لا تدخل عادة إلا جيوب البرجوازيين المتعفنين الذين يحاربهم بفنه السينمائي …

لم أغضب …

فالإنسان لا يغضب من الحقيقة في بعض الأحيان ….

انفصلت عن مجرني …

وعدت وحيداً وغريباً كنجمة الصباح ، أزرع خطواتي في ليل بوينس أيرس الكثيب …


محمد الزوي (هوامش على تذكرة سفر) الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، يوليو 1978م.

مقالات ذات علاقة

الخمس تحتفي باليوم العالمي للكتاب

المشرف العام

طفل صغير

المشرف العام

من يداوي الجرح الذي لا ينسى

فائزة محمد بالحمد

اترك تعليق