-1-
سوف أتخيل وأدعوكم للتخيل معي فتاة أسمها شريفة.. تقف يومياً عند جزيرة دوران الحدائق لتركب حافلة تكون آخر محطة لها مستشفى الجمهورية.. / سوف اترك لكم تخيل ملامح وجهها مع الاتفاق مسبقاً بأنها سمراء قليلاً.. وسوف اختار أنا ملامحـها الأخرى.. ماذا تحب؟ مـاذا تكره؟
وماذا…؟
لعبة الخيال لا يمكن الاستمتاع بها باختراع شخصية واحدة.. سوف اخترع لها شاباً اسمه طاهر، وسيكون هو سائق الحافلة التي تستقلها شريفة يومياً.
-2-
تعود الاثنان على بعضهما.. كان لقاؤهما يومياً الساعة السابعة صباحاً.. يقف هو وتصعد هي..تجلس بأحد المقاعد الفارغة خلفه.. لم يكن هناك أي حديث بينهما.. غير أن طاهر الذي ترك تعليمه باكراً خاف أن تأخذ عنه فكرة بأنه جاهل.. لهذا وقبل أن تركب شريفة يكون قد غير الشريط المغربي.. بشريط لفيروز.. اخبره احد أصدقائه بان من يسمع فيروز تأخذ عنه فكرة بأنه مثقف وحساس ورومانسي.. كما انه بدأ يستمع لأشرطة الدروس الدينية والتي اكتشف أنها تحبها.. هذا الاكتشاف جاء نتيجة لتحليل نوع ملابسها !
لم تكن شريفة تلعب لعبة الأنثى التي تراوغ الحزن بالألوان.. بل كانت ترتدي جلباباً اسود وحجاباً ابيض وقفازات سوداء.. لكن هذا لا يعني أنها لا تلعب.. هي تلعب لعبة اللون الواحد.. الذي يعجب الشبان الملتحين.!
-3-
ولأنهما تعودا على رؤية بعضهما.. ولأنهما ورثة الرومانسية الحديثة بدأ هناك نوع من الأحاديث تسري بينهما.. غير أن طاهر لم يتوقف عند هذا الحد بل اخبرها بمشاعره تجاهها.. تعود طاهر هذا الاندفاع غير المبرر منذ كان في فترة المراهقة.. في يوم اخبر ابنة عمه بحبه لها.. كانت هي في نفس السن تقريبا.. في هذا السن تشعر الفتاة بأنها امرأة ولكنه تريد أن تحافظ على شعورها بالطفولة لهذا تتطلع الفتيات في هذا السن لقصة حب مع رجل يكبرهن في السن يعزز المرأة ويحافظ على الطفلة فيهن.. ولهذا لم ستجب لرغبته.
تهربت منه بطريقة مهذبة.! أخبرته بأنها تشعر به كأخ./ مشاعر الاخوة هو جدار عازل على مستوى المشاعر وليس أمام الرغبة.. عندما أوكلت لآدم وحواء مهمة تكوين السلسلة بشرية.. سمحا لنفسيهما..تزوجي الأخوة.. نستطيع أن نقول بأنه لم يكن هناك حب.. بل كان هناك مهام.
عندما شعرت بأنها تسببت في إساءة له.. تقدمت منه وقبلته.. كانت هذه أول مرة يُقبل فيها طاهر.. لم تكن من نوع القبل السريعة.. كانت بطيئة وطويلة.. التي تقبل هي المرأة في ابنة عمه !. هذا الوقت ظل ملتصق بذهن طاهر.. وهو الذي جعله يتعلم الاندفاع.. الزمن الذي استغرقته القبلة سجله في يومياته.. كانت كتابة اليوميات.. موضة منتشرة بين طلاب الإعدادي.. وهذا بسبب دراستهم للأدباء المهجر الرومانسيين.
” عندما اقتربت مني بدأ قلبي يخفق بشدة وأنفاسي عالية.. كنت أرى صدري وهو يرتفع وينخفض.. وضعت شفتيها على شفتي بدأت أشعر بالذوبان.. هذا الذوبان لا أستطيع أن أصفه إلا بذوبان حبيبات السكر على طرف اللسان.. لم اكن لسان كنت جزيئة سكر على طرف لسان الزمن.! نعم بحجمها كنت اشعر بأنني بهذا الحجم وهذه الخفة. “
عندما اخبرها بمشاعره لم تكن بتلك الصورة التي اخبر بها ابنة عمه.. بل بطريقة مضحكة كان يتحدث ثم تختفي المفردات من على لسانه.. ثم تعود.. ثم تنقطع.. ويستعين بالإشارات واضعاً يده على قلبه.. كانت ترتسم على ملامحه ابتسامه.. كان يفكر ماذا يفعل لو قالت له بأنها تشعر به كأخ./ كانت شريفة تقترب من سن الثلاثين.. في هذا السن تكون سيطرة المرأة الناضجة على الطفلة.. وبهذا يصبح مشروع الزوج ليس أمامها.. بل خلفها.!
مازال يحاول أن يشرح لها بأنه يحبها / يشبه تماما كشاعر يكتب القصيدة العمودية.. يحاول أن يتحدث عن لحظة الكتابة.. تهرب من المفردات التي تصف هذه اللحظة.. ويكتفي بالإشارة بأن هناك شيء يسقط من السماء على رأسه.
-4-
في أول أيام الزواج الذي حدث نتيجة للتعود.. لم يكتمل بعد شكل الحياة الزوجية / وهذا بسبب أن كلاهما منشغل بالبحث عن نفسه في الآخر.. عن نفسه فقط.
ولأنهما منذ فترة على هذه الحالة من البحث.. قررا الاثنان الخروج كسراً لحالة التعود.
استطاع طاهر أن يشتري سيارة خاصة به.. خرجا معاً.. ركبت هي بجواره وهذه أول مرة.. ولأنها لم تركب في فترة التعود بجانبه طلب منها طاهر أن تركب في الخلف.. وافقت هي على طلبه.. بأنه عليهما تخيل أن هذا أول لقاء بينهما./ واضحة رغبة الاثنين في إعادة صياغة شكل حياتهما..
-5-
صعدت شريفة وجلست في المقعد الخلفي.. وأصبحت العلاقة واضحة بينهما.. زبونة وسائق.. وما أن تحرك.. حتى بدأ الشريط المغربي يغني.. ودت أن تسأله عن فيروز وعن الدروس الدينية.. لكنها تذكرت بأنها مجرد زبونة.. ولهذا تظاهرت بأنها مستمتعة.. هذا السلوك شجع طاهر على أن يعدل المرآة الداخلية على وجه شريفة وما أن شاهدت وجهه في المرآة حتى ارتسمت عليه ابتسامه مصحوبة بضغطة بطيئة ولذيذة على شفتها السفلى.
– سألها طاهر أين تريدين.؟
– لا اعرف.. أريد الخروج..فقط
– هل أنتِ متزوجة.؟
– بعد لحظة صمت.. أجابته.. نعم
– أين زوجك؟
– لا اعرف.. لا أحب الخروج معه./ كانت تتحدث وهي تمسك ضحكتها بقوة.
– وأنت هل متزوج؟
– لا.. لستُ متزوجاً.. !
– لم تفهم شريفة قصده من الإجابة، خصوصا أنها بدأت أكثر جدية.. لكنها فضلت الاستمرار في اللعبة.
– الجو حار.. لو سمحت شغل المكيف.
فعل ما تريد / مكيف السيارة فيه جزء من الهواء البارد مسلط على الأقدام.. الأمر الذي جعلها ـ بمجرد أن شعرت بالبرودة تسري في قدميها ـ تخلع حذاءها.. وتغمض عينيها.. دخلت شريفة في لعبتها الخاصة بها.
تسير فوق السحاب بقدمين عاريتين.. وجلباب طويل بدأ يعيق حركتها، لهذا قامت برفعه فوق ركبتيها.. وبدأت في القفز من سحابة بيضاء إلى أخرى…
كانت مستمتعة لأنها بلا وزن.. الوزن من مقومات المكان الرئيسة.. لهذا كانت سعيدة لأنها خارج المكان.. نظرت لتفاصيل اللوحة سماء زرقاء.. سحابة بيضاء.. ساقان بنيتان.. قماش اسود في منتصفهما.. حجاب ابيض.. كانت تقفز وتفكر في تفاصيل الألوان وهذا اللقاء بينهما بين هذه الألوان بهذه السهولة.. هذا الانسجام بلا تعقيد.
أثناء وهي تقفز يبدو أنها قفزت على سحابة هشة فاخترقتها قدمها.. شعرت بتلك اللسعة من البرودة بين ساقيها.. هذه اللسعة جعلتها تشعر بوزنها ولهذا استفاقت على صوت طاهر يطلب منها بلهجة قاسية أن تعود للركوب من جديد بجواره، كانت ما تزال تشعر بالبرودة وعندما نظرت إلى ساقيها وجدت أن جلبابها ارتفع إلى أعلى من ركبتيها.. أنزلته حتى غطى قدميها.. جلست بجوار طاهر.. وهي تفكر في انعدام الوزن.. هذه المفردة التي سمعتها أول مرة من أبيها.. أمك لا تعرف لذة السباحة في الفضاء.. حلاوة الاتصال به بعد انقطعنا الطريق الصعب من السفر إليه.. أن تعيش بلا وزن.
كانت أمها تتشاجر معه بسبب مظهره.. أسمع الله لا يريد كل هذا أنت تتعب نفسك.. لكنه لم يكن يريد عليها كان يضم شريفه إلى صدره ويحدثها عن السباحة في الفضاء…
رأت شريفة هذه السباحة مرة واحدة عندما عاد جارهم من حرب تشاد بعد أن ظن أهله انه مات.. عاد بسهولة وطرق عل الباب.. لهذا أصر الأهلي على تزوجيه.. تزوج الابن العائد من الحرب.. وحفل الزفاف اخذ الشكل الديني.. أقام الأهل حضرة.. وما إن بدأ النقر الخفيف على الدفوف حتى بدأت نساء الأسرة النظر خلسة من خلف النوافذ المواربة كانت تنظر شريفة معهن.. يصاحب النقر الخفيف مدائح لله ولرسوله الكريم.. بداء الإيقاع في تسارع وبدأت النساء من حولها.. يفكن جدائلهن.. ويبدأن في حركة برؤوسهن.. كان المنظر غريب عليها لن هؤلاء النسوة فيهن من تخاف منها.. وقعت عينها على والدها.. وهو يدور في منتصف الحضرة.. والإيقاع يتسارع.. وحركة أبيها تزداد سرعة وحفه.. وهو يدور برأسه.. ثم يحرك جذعه بشكل شبة دائري.. إلى أن سقط مغشياً عليه.. وفي الصباح لم يجد الأهل العروس.. استطاعت الهرب في الليل.. ثم اكتشف الجميع بان الابن الذي ذهب لم يعود كما ذهب…
هذا هي المرة الوحيدة التي شاهدت أبيها في هذه الحالة.. لأنها في يوم قامت على صراخ أمها وهي تقول زوجي هج هرب.. بدأت رحلة البحث عليه في البداية لكن أصيب الجميع بملل.. ليس بسبب عدم وجوده.. بل لأنهم وجوده.. في إحدى الزوايا يعمل خادم فيها.. تذكرت شريفة تلك الليلة قبل رحيله.. دخلت عليها وقبلها.. واخبرها بأنه مسافر إليه.. وسفري سيطول.. اعتني بأمك.
طاهر الذي يفكر في أن شريفة قبلت بن عمها بعد أن رفضت حبه.. سألها هل لك بن عم.؟
– لا…
ابتسم جاءت كلمة لا.. مثل قطرة ماء باردة تبدأ في الانزلاق فجأة من أول الظهر حتى أسفله في يوم شديد الحرارة.. بدأ يشعر طاهر بالراحة.. والاطمئنان.. لأن كل ما فعلته شريفة هو من اجله هو فقط.. وليست مثل ابنة عمه.
-6-
يبدو أن السيد طاهر يريد أن ينهي استمتاعنا بلعبة الخيال.. وهو يعشر الآن بخفة وسعادة غامرة فهو لا يشعر بوزنه الآن.. لكن نريد أن نفسد عليه هذه المتعة.. وأن نضع وزنه في جسده بلا استئذان…
صوت موبايل شريفة.. أهلا عمتي…
بدأ يدخل الوزن إلى جسد طاهر.
مع السلامة عمتي…
– هل لها أبناء؟
– ثلاثة…
– كيف عندما سألتك قلتي لي لا
– أنت سألتني عن أبناء عمي.. وهذه عمتي وأنباءها يطلق عليهم أبناء عمتي وليس عمي.
لكم حرية التخيل في السرعة التي هبط بها عباس ابن فرناس على الأرض بعد لحظات التحليق والخف والسعادة الغامرة التي عاشها.