الذكرى الـ55 لوفاة الكاتب الليبي الراحل يوسف الدلنسي
يوسف الدلنسي، اسم برز في خمسينيات القرن العشرين ضمن جيل المؤسسين للحركة الأدبية المعاصرة في ليبيا، بعد جيل الرواد الأوائل الذي نهض برسالته وفقاً لظروف زمانه. وقد تعددت مواهب الدلنسي وقدراته، فكان معلّماً في مدرسة الأمير الابتدائية خلال الأعوام الممتدة ما بين 1948 ـ 1952م، وصحفياً ناقش جملة من القضايا والموضوعات ذات الصلة بالهموم اليومية للمواطن، وكاتباً للمقالة، وقاصّاً، وشاعراً نظم بالعامية بعض الأغاني التي استلهم فيها التراث الشعبـي الجميل وقدّمتها الإذاعة. وهذه (التعددية) ستلحق أيضاً بمجموعة من أبناء جيله كتـّاب وأدباء تلك المرحلة.
وُلِدَ الدلنسي ـ الذي كان يحب أن يوقّع بعض نتاجه الأدبي بابن الأندلس ـ عام 1930م في بنغازي، وتوفي يوم الأربعاء 23/4/1969م وبها دُفِن، وكانت الأعوام التي قاربت الأربعين وشكّلت عمره القصير.. صورة متحركة لكاتب تنوّع عطاؤه ومثقّف التزم بموقفه واحترم كلمته على الدوام فيما ظلت كتاباته المختلفة ـ بخاصة في القصة والمقالة ـ سمة واضحة للمجتمع الذي عاشه الدلنسي في بنغازي ثم طرابلس التي أقام بها بعضاً من سنوات حياته موظفاً في مجلس الشيوخ، حيث عمل في شعبة المحاضر فمديراً للإدارة التشريعية.
البرلمان الليبـي بمجلسيه: الشيوخ والنواب، شهد تلك الأيام تواجد ثلة من المثقفين الوطنيين ممن عملوا به، فعلاوة على الدلنسي كان هناك: المنير برشان (الذي تعرّف والتقى بالأديبة اللبنانية مي زيادة عام 1937م أيام دراسته في إيطاليا وكتب عن ذكرياته معها صحبة زميله صالح خواجه المعلّم بمدارس بنغازي)، وخليفة التليسي وعبدالله القويري وعبدالحميد عمران، إضافةً إلى أعضاء المجلسين في دورات نيابية متعاقبة وفي مقدمتهم: أحمد رفيق المهدوي، صالح بويصير، مصطفى السراج، بشير المغيربي، علي مصطفى المصراتي، محمود صبحي، محمد الماعزي.. وغيرهم .
كان البرلمان يجمع في رحابه: الأعضاء، المنتخبين أو المعيَّنين، من مناطق البلاد، وشمل فئات مختلفة من كبار السن والشباب والمجاهدين وشيوخ القبائل وأعيان المدن وأنصاف المتعلمين والشعراء وأصحاب المهن وبعض ممّن عملوا أو (تعاونوا) مع الإدارات الإيطالية والبريطانية والفرنسية، وفي هذه الأجواء (الوظيفية) ما بين قاعات البرلمان في طرابلس وبنغازي والبيضاء عمل الدلنسي، الإنسان والفنان ، بلا انقطاع إلى أن استقال من العمل في المجلس المذكور وعُيـِّنَ لاحقاً في وزارة العدل حتى وفاته.
ومثل بقية الشباب في بنغازي نشط الدلنسي بحماس عبر كشّافة جمعية عمر المختار وأسهم مع أعضائها في برامجها المتعددة من رحلات وندوات واستعراضات وسط المدينة وأعمال تطوعية، وكان ملاكماً في فرقها الرياضية ولاعباً في كرة القدم، وخلال اشتغاله بالتدريس اهتمّ كثيراً بتلاميذه واعتبر أن ما يقوم به واجباً وطنياً قبل أن يكون (وظيفة لأكل العيش)، وهي رؤية بعيدة المدى اتفق فيها الدلنسي مع جيل آخر رافقه خطوة بخطوة من المعلمين الذين سبقوه. كان بعض هؤلاء يكبره عمراً ويفوقه تجربةً في دروب تلك (الرسالة)، وبعضهم تعلّم على يديه في أيام ماضيات، الأساتذة: السنوسي المرتضي، محمد بوكر، حامد الشويهدي، عرابي العنيزي، محمود دريزة، عبدالعزيز الأبيض، محمود دهيميش، عبيدالله عامر، بن عروس مهلهل، محمد القرقوري، الشريف الماقني، وحسين فليفله الذي استقال الدلنسي بسببه من العمل في التدريس عندما أراد ونفر من زملائه إحياء ذكرى الأربعين لوفاته في أواخر يناير 1952م فجُوبِهُوا بعدم الموافقة من قِبَل إدارة المعارف لدواعٍ استوجبت ـ في رأيها ـ ضرورة تأجيلها.. إلى حين !
لقد فتح الدلنسي بصره وعقله على أولئك الأساتذة الذين لمح في نفوسهم الكبيرة كل معاني التضحية والعطاء، والأبوّة والتواضع، فيما اقترب بحميمية شديدة من بعضهم وتعلّق بهم ورأى فيهم بعضاً من جحيم القلق.. وشيئاً من نفحة الفلسفة.. وكثيراً من جنون المعاناة والمعرفة، وسيقتفي أثرهم على الطريق نفسه.
كان الدلنسي متفرداً في حيويته وقلقه.. ومعاناته.. وفي علاقاته مع زملائه.. ودعاباته.. وحبه للحياة واندماجه الكامل ـ رغم المرارة أحياناً ـ في مباهجها، واحتوت روحه المتوثبة في ذلك كله: انطلاق الشباب واندفاعه، وحكمة الشيوخ ورزانتهم، وبوهيمية بعض الفلاسفة، غير أنه يظل باستمرار وفقاً لهذا النهج الذي اختاره راضياً.. مثالاً للمثقف الناضج الذي لا يهدأ في تصرفاته وسلوكياته وجرأته وإبداعه الفني والأدبي.
وعلى الرغم من اختلاف المواقف والآراء ـ ذلك الزمن ـ وتأثره بملامح التغيير والتحديث، إلاَّ أنه حافظ على اعتزازه (بكرغليته) وانضوائه في رابطتها من خلال علاقاته الاجتماعية مع عمر باشا الكيخيا، التي ظلّت موازية لاتصالاته الفكرية والأدبية بأحمد رفيق والشيخ محمد الصفراني.. وقدوته الأثيرة صاحب الشخصية العجيبة (الشريف الماقني) وغيرهم ممّن كوّنوا تجربته في الحياة وطوّروا من ثقافته وموهبته، وكذا مع أصدقائه: مصطفى الشيباني، وعمران الفلاح، ومحمد زغبية، وحسين بادي، وعلي عموره، وطالب الرويعي، ومفتاح السيد الشريف، وعبدالسيد الصابري، وأبو القاسم بن دادو.. وسواهم من أصدقاء.. كانوا بهجة أيامه وإشراقتها، وأسهموا بنصيب وافر في تحفيز شخصيته والاهتمام بتجربته الإبداعية.
في مطلع الخمسينيات، وهي سنوات مهمة في التكوين الحقيقي للثقافة في ليبيا، بدأت الأفكار الحبيسة تضطرم وتتفاعل بعد نشوء الدولة ووضع الأسس للمعالم والمؤسسات فصدرت الصحف والمجلات وتنوّعت الأنشطة الفكرية، وكان ثمة رائحة تعبق الأجواء من أثر سنوات الأربعينيات الماضية التي تسربت في دماء وعقول الكثيرين في المدن والمناطق وشرعوا يتنافسون ـ وفقاً للمتاح ـ بمواهبهم لإيجاد منافذ من الضوء، وعلاوة على صحف برقة وطرابلس ثم فزان والزمان والبشائر والرائد والعمل ـ تلك الفترة ـ كانت هناك مجلات هنا طرابلس الغرب وصوت المربي والضياء والنور، ولاحت في الساحة الأدبية أسماء: علي مصطفى المصراتي وعبدالقادر بوهروس وخليفة التليسي ومحمد الشاوش وأحمد العنيزي ومحمد فريد سيالة ومفتاح السيد الشريف وكامل المقهور وطالب الرويعي وعلي صدقي عبدالقادر وعلي الرقعيي وحسن صالح.. وآخرون. وواصلت الحركة الثقافية النمو والانطلاق.. على مهل أحياناً وبقوة في أحيان أخرى، وكان هؤلاء وغيرهم طليعة (التأسيس) بعد الجيل الأب في أرض قاحلة تنتظر المطر وتحملوا مصاعب الارتطام بالصخور وعلو الأغبرة، واستطاعوا تمثيل البلاد في مؤتمرات عربية ، وكوّنوا الجمعيات الفكرية، وقدّموا للمطابع بواكير نتاجهم في تلك السنوات وعلى حساب قوت أسرهم. إن هذه الفترة لها أثر بالغ في التاريخ الثقافي الليبـي وتظل في حاجة مستمرة إلى العناية وإجراء المقارنة والقيام بالبحث والدراسة وإعادة الاكتشاف والتقييم طبقاً لتلك الظروف ومقاييسها، ليس شغفاً بالماضي أو ولعاً به.. أو إطراء له وتغزّلاً فيه.. وإنما سعياً للتأصيل والتواصل والإفادة.. ولا شيء غير ذلك ؟!
وللدلنسي مراسلاته الكثيرة، منه وإليه، مع أصدقائه من الأدباء والكتّاب الليبيين والعرب، فيها تواصل وود، وبوح ومعرفة.. وحوار عن فكر وفن.. ودعابة وجد، وسأكشف هنا عن مقتطفات من بعضها في الذكرى الأربعين لوفاته، لم يسبق نشرها من قبل، وكانت طي الأيام والتاريخ:
1 ـ من محمد زغبية 20/5/1954:
(عزيزي يوسف:
تحيات من قلب معذب شاء له القدر أن يستريح قليلاً، وبعد . رمضان المبارك قد حلّ وفيه تتطهر النفوس من أدران المادية وتسمو الأرواح في ملكوت الله تعالى تناجي روحه القدسية وتتحرر العقول من نزعات الوساوس والشكوك وتنبجس من الأعماق كوامن العواطف وتتفجر ينابيع الحب والحنان. وحلَّ رمضان وقلبـي مايزال قلقاً شاكّاً وتصوركم تضاعف ألمي وشجني عذاب الصوم وآلام الشكوك حتى أذن الله لهذه الأزمة أن تنتهي إلى نتيجة سارة والحمد لله وتصور فرحتي بعد ذلك العذاب المضني والشك القاتل. إنها الحقيقة قد اطّلعت عليها. إنه الواقع قد علمته. إنها الأسرار قد كشف لي النقاب عنها ..)
***
2 ـ من علي مصطفى المصراتي (د.ت) ـ يرجّح أنها عام 1957م:
(عزيزي السيد الفاضل يوسف الدلنسي
تحية عاطرة وبعد.
طال الشوق.. ما هذا التهاجر . أهكذا النسيان !؟ كنّا نجد أنساً في رسائلك.. ومقالاتك.. فسكتَّ نرجو أن يكون السكوت الذي يكون بعده الإبداع والانتظار الذي بعده الانطلاق.
لقد قصّرت أنا !
وقد قصّرت أنت
وهناك أسباب.. وأسباب..).
***
3 ـ من رجب الماجري ـ درنة 20/8/1955م:
(عزيزي يوسف:
تحياتي الخالصة من كل شائبة وبعد . كان بودي أن أبعث إليك بالقصيدة التي حدثتك عنها ولكنها للأسف لم تتم وبرّاً بوعدي هاأنذا أبعث إليك مع هذا الاعتذار قصيدة أخرى من زاوية الذكريات القديمة ولست أدري فيما إذا كانت ستحظى بشيء من الرضا رغم “قدمها” أم لا. وإذا ما “كركشت” القريحة وتمت القصيدة التي أصوغها الآن وفاء لذكرى فتاتين صغيرتين كنت ـ فيما مضى ـ أسكن معهما أو بالأحرى مع والديهما.. أقول إذا “كركشت” فإني سأوافيك بها حالاً..).
***
4 ـ من الشريف بومدين الماقني ـ بنغازي 17/6/1957م:
(أخي وعزيزي يوسف:
تحية من فؤاد أنت منه في الصميم، وبعدكم كان سروري متزايداً حينما فتحت رسالتك (الغالية) فوجدت بها صورة العزيز الذي لازالت أتمثله يتدرج في منزلي يجول حول الأزهار ويطيل النظر إليها ثم يلتفت إليك ليصدع رأسك بالسؤال ويعقب سؤاله بنظرات حادة تنم على الذكاء والنجابة. جاءت في رسالتك إشارة خاطفة تشير عليّ فيها بمراجعة الجرايد التي أرسلتها إليّ ولم أفهم ماذا تعني إلاَّ بعد لأي لأنني أكره مطالعة الصحف المحلية وإن كانت في بعض الأوقات تطالعنا بمقالات هي في الواقع تبشر بمستقبل مشرف لهذه البلاد ولكن دأبها على النفاق في أغلب الأحايين يترك الإنسان الحر يمجّها ويكره النظر فيها، وعلى كلٍّ راجعتها وفهمت غرضك ولا يسعني إلاَّ أن أقول لك وأرجو أن تكون خير من يسمع القول فيتبع أحسنه: إن قوة الأديب ليست فيما يحسنه من علم البلاغة وحفظ الأشعار والنصوص، وإنما هي مستمدة من قوة شخصيته وروحه ، فإذا كانت روحه عظيمة سامية جاء أدبه سامياً ومؤثراً وقوة الإيمان بالمبدأ أو الفكرة التي يعتنقها الإنسان تترك فنه وبيانه يخرج للناس).
***
5 ـ من أبوالقاسم أبوديه ـ 14/5/1957م:
(أخي الفاضل الأستاذ يوسف المحترم:
تحية أخوية عاطرة وبعد.
أُشعركم بأنني قد استلمت رسالتكم الأولى فهي كما يقولون (باكورة صيف سيتوالى بعدها الثمر جنياً فكانت رسالة أدبية بالمعنى الصحيح، فقرأتها بإمعان وتبصّر وأُعجبت بحسن صياغتها وسمو معانيها.
هذا وقد أعجبني ما جاء في رسالتكم من وصف رائع للشعر. ولقد جاء في رسالتكم “أحب الشعر الذي يرتفع عن الملق والرياء والنفاق”).
***
6 ـ من يوسف السباعي ـ الإسكندرية 20/8/1953م:
(أخي الفاضل السيد يوسف الدلنسي
أطيب تحياتي وأخلص تمنياتي وبعد. أبدأ رسالتي بالاعتذار الشديد عن تأخري في الرد عليك فقد وصلتني رسالتك إلى القاهرة وأنا في المصيف بالإسكندرية ولم تحوّل لي إلاَّ اليوم ووجدت تاريخها 23 يوليه فأسفت أشد الأسف على ذلك التأخير غير المقصود.
وإني أرحب أجمل الترحيب بهذه الصلة الروحية التي ربطتنا وأرجو أن تداوم على الكتابة لي وإني على أتم استعداد لأي خدمة أستطيع أن أؤديها لكم..).