بنغازي وجعٌ لا يبتلي به العُقلاء هو بلاء المجانين، هي ممن لا خوف عليهم ولا يحزنون، لا تهم البلهاء، لا تشغل السُذج، لا يتعاطاها اليقظي ولا المُتخدرون، يعافها البطرون، لصوص الوقت وسارقو الفرح، من لا لون لهم، لا رائحة ولا ملح، بنغازي مكرُ الله وكيد العاشقين من تكِد كدهم وتتضوع مسكهم، رباية الذائح الذائدة عنا، بنغازي في عُرف العارفين أسطورة وفي عُرفنا من عَرقِنا، هي وهمنا و”أجمل ما في الحياة أن أوهامنا معنا”، العجوز التي شيبها شبابها، ونارها كما نار النبي إبراهيم التي في المدن المدينة والقرية الواحة في صحاري التائهين، تأتي كما الفجاءة كما لهفة العاشق كما الطل والظل وضحكة الطفل، كما حلم الرومانسيين من لم يطالهم الصدأ ولا اعوجوا عن الغد، بنغازي البشارة وحين لا يكون لليل فجر هي الفجر.
بنغازي تنبثق من وجعنا جزيرة تطفو في المحيط الأُجاج ماءً عذبا، وهي منا كما الوريد ومنها الوريد، تسكننا وهي مسكننا، المشاغبة سكينة للمتعبين من شغب الدنيا، المُشاغبة تفترش فراشا من ملح الأرض وتتغطي لفح السماء لكنها عش الحمام ومأوي الهائمين، هي كما شطح الطبيعة الصوفي، هي شمس الظهيرة ما هو دفء الليل الصقيع.
ما قبل التاريخ كانت الطريق بين بحر الماء الأُجاج وبحر الرمال الأعظم. وفي أساطير الاغريق مكمن نهر النسيان وحيث تغرب الشمس “هيسبريدس”. أما الرومان فقد شغلتهم عنها باعتبارها برنيكا خصلة الشعر التي تحولت الي درب التبانة، وعند العرب برنيق واحة المتعبين، صيرها العثمانيون كوية الملح زاد أفريقيا، حتي جاءها الغرب بما لا يفرح قلبا: دكتها مدافع المحتل الإيطالي مطلع القرن العشرين دكا، ثم حولها ثعلب الصحراء رومل، والأسد العجوز مونتجمري الي مقر قيادة لما أنتج الغرب والقرن من وسائل دمار.
بنغازي قبل وبعد حقيقة العصر وكذبتنا التي نشتهي، شهوتنا في أن نحيا بغضب منها وعليها ولأجلها بَعُدنا عنها أم كنا في كترها، يا وجعنا نشتهيك يا فرحنا نشتهيك يا بنغازي مذاق الأسطورة، يا غضبنا أيتها الغضبة من أغضبت غراسياني فجعل منك جبانة عمر المختار، وأذاقك المُرَ ويتم غيثك، وغاضبتي الملك ادريس من كنت منارته لإعلان استقلال البلاد والحاضرة، جعل منك أول ساحة لأول مشنقة في دولة الاستقلال عقابا لأول اغتيال – رئيس حاشيته وقاتله ابن عمه – كنت مسرحه، وكنت ساحة المتظاهرين المعارضين له فنالك من غضبه ما نالك ايتها الغَضبي. وجعلت منك معسكرا لعسكره من انقلبوا ضده ومن استولوا علي البلاد غصبا، أصاب قائدهم جنون أنك كنت المعسكر الذي منه حقق مراده وسوس شيطانه: أن تكوني فرسا لغيره لذا كالك الويل وأكلك الملح والغضب أنت والجيش ما ساهما في مجيئه، فكنت من المغضوب عليهم ولا الضالين.
بنغازي يا فرحنا المدسوس كأمنية في الخاطر، لم يخطر في البال ولا تمكن الحلم فينا أن تكوني وأن نكون، كان القهر قد تمكن منا حتي الركبَ حين بني نهضتي يا بهية بنا، كانت أمنية مدسوسة، بنغازي مدينة الاستقلال بنغازي مدينة الثورة، بعد عقود أربعة وأكثر من حكم مخبول، تيسر لك وتيسر لنا أن نقرأ الفاتحة وننهض من كبوة طالت، لكن الظلام وليل القتلة خيم مرة أخري عليك يا بنغازي حين كان أبناء ليبيا يظنون أنهم يتوزعون الغنم، بنغازي مدينة الحرب حتي الساعة، دُكت بنغازي كما لم تُدك في الحرب العالمية الثانية حين تطاحن عليها دول الحلفاء ودول المحور، بنغازي ” حيث الليل لا يشف عن فجر / ولا ينتهي إلا إلي المزيد من الظلام ” هكذا يظنها الظلمة أبناء الظلام لكن لسان حلها:
” كم من الأحجار رُمِيَتْ عليَّ!
كثيرة حتي إنِّي ما عدتُ أخافها،
كثيرة حتي إنَّ حفرتي أصبحت برجًا متينًا،
شاهقًا بين أبراج شاهقة.
أشكر الرماة البنَّائين
عساهم يُجنَّبون الهمومَ والأحزان
فمن هنا سوف أري شروق الشمس قبل سواي،
ومن هنا سوف يزداد شعاع الشمس الأخير ألقًا.
ومن نوافذ غرفتي
كثيرًا ما سوف تتغلغل النسمات الشمالية،
ومن يدي سوف يأكل الحمام حبات القمح.
أما صفحتي غير المنتهية
فيدُ الإلهام السمراء
ذات الهدوء والرقَّة الإلهيين
هي التي سوف
من هنا
من عَلٍ
تنهيها.
شعر: آنا اخماتوفا “
لبنغازي السلام حتي مطلعها، مطلع الفجر.
بنغازي / أكتوبر 2016م