صفحة: الكاتب يوسف القويري- من مفكرة رجل لم يولد
قال “ديمتريوس هارماخيس” للعلماء الجالسين حول طاولة الاجتماعات في برلين:
نحن الآن في وَسْطِ ألمانيا المُوحَّدَة بعدما سَقَطَ مُنْذُ أمدٍ بعيد وللأبد الرايخ الثالث ومعه “أودلف هتلر” زعيم النازية، ولكننا لن ننسىَ إطلاقاً أنَّ هتلر هاجم الاتحاد السوفيتي في 22 يونيو سنة 1941م مُعلناً الحرب جواً وبحراً وأرضاً ومعه جميع خَدَمات وإمكانيات قُوَى المحور اليابانية والإيطالية فناضل الشعب الروسي والجيش الأحمر وبرفقته أمم الاتحاد السوفيتي الأخرى حيث قاد “خروشوف” – بإيعاز من ستالين – حرب الشوارع ببسالة منقطعة النظير فبلغ عدد صرعى الحرب من المدنيين المقاتلين في الاتحاد السوفيتي بكامله سبعة وعشرين مليون نَسَمَة.
وارتشف الدكتور ديمتريوس قليلاً من قهوته الفاترة ثم شَرَعَ يواصل حديثه قائلاً:
وفي نفس السنة، وتحديداً في 7 ديسمبر 1941م هاجم المستعمرون اليابانيون –وهم جزء من التحالف الثلاثي للمحور الذي يحتوي النازيين والفاشيين الإيطاليين-بدون إنذار الأسطول الأمريكي في “بيرل هاربور” ودمروه تدميراً تامّاً حتى لم تَبْقَ منه بارجة واحدة فكان ذلك إيذاناً بدخول الولايات المتحدة الأمريكية للحرب العالمية الثانية.
عندئذٍ قال العالم الألماني ” بول غوته”
إنَّني من ألمانيا الشرقية سابقاً، ويشرفني كثيراً أنْ أستضيفكم في ربوع هذه البلاد التي أُبتليت فيما سَبق بالوحش النازي وتضليله وأكاذيبه. ويسرني أنْ أُعَبِّرَ لكم عن سعادتي الغامرة بوحدة ألمانيا التي لم تَعُدْ فوق الجميع كما كان يصرخ “أودلف هتلر” بعقيرته الرديئة. فالحقيقة أنَّ ألمانيا قد انتصرت بهزيمة هتلر ولم تبقَ فوق الجميع ولا تحت الجميع فهي الآن بلد موحَّد وحُر ومؤازر للسلام العالمي. وقد كنتُ طيلة وجودي معكم في البلدان الأخرى سابقاً ألوذُ بالسكوت غير السالب لأنَّني كنتُ أستوعب مناقشاتكم الجادَّة وأستفيدُ بها في توسيع معرفتي بمجالات وموضوعات مختلفة عن تَخَصُّصي في تاريخ العالم، فأنا كما تعلمون مختصُّ – من الناحية الفلسفية وناحية الوقائع – بالتاريخ العام للإنسانية.
ثم احتسى “بول غُوته” بقية قهوته دُفعة واحدة ولَعَقَ شفتيه بلسانه مستطرداً يقول:
لقد استخدم الاتحاد السوفيتي حينذلك تاكتيك “الأرض المحروقة” كي لا يستفيد الجيش النازي من أيّ مُعدّات أو استحكامات وكي يُذيبوا ذلك الجيش الغازي في الثلوج ويُذيقوا جنود النازيين وضباطهم ويَلات المقاومة. وقد أَعْلَنَ الجيش الأحمر وشعب الاتحاد السوفيتي بلسان “الكرملين” في ذلك الزمان البعيد عن وقوفه مع الحلفاء وأنَّه جزء لا يتجزأ من جبهة الحلفاء التي تقاتل النازيين والفاشيين والمستعمرين اليابانيين. وكان العالم في ذلك الوقت منقسماً إلى معسكرين رأسمالي وشيوعي. وبهذا انحسرت الأيديولوجية إلى موضع ثانوي بسبب وجود خطر مُشْتَرَك ومصالح مُشْتَرَكَة تدفع الدنيا دفعاً قَوِيّاً لمقاتلة النازية والفاشية والاستعمار الياباني بهدف تقويض المحور لأنَّه يَسْعَى بزعامة “هتلر” إلى تقسيم العالم لصالح ذلك المحور أساساً.
واسمحوا لي بالإطلالة لأقول إنَّ انحلال وفَك نظام الاتحاد السوفيتي لم يكن ممكناً لأَيَّة جهة غير البَلاشِفَة أنفسهم الذين أشعلوا ثورة أكتوبر الشيوعية ثم أخمدوها بعد تجربة ما يقارب مئة سنة.
قالت “إنجي شبريس” بصوت وديع هادئ:
كانت الدعاية والأكاذيب هي الشغل الشاغل للنازيين. وقد أرسلوا إلى صحراء غرب مصر، محاطاً بهالة من الدعاية الكاذبة، الثعلب الماكر “ايروين جونز روميل” الذي قد يكون – كما تصفه الدعاية النازية – كفاءة عسكرية، لكنَّه بلا أدنى شك لا يعرف أنَّه يخدم قضية فاسدة وخاسرة. وهذا ما أثبتته الأيام فَهُزِمَ هزيمة تامّة وتَمَّ سَحْقُه. وأجدُ من اللازم أنْ أتحدَّت عن معركة “العلمين” الشهيرة بسبب أنَّ هدف “هتلر” وصنيعته “روميل” كان اجتياح مصر واحتلالها لصالح المحور.
وهنا عاد “بول غُوته” للحديث قائلاً:
هذا صحيح تماماً.
فقاطعه العالم ” أودن” يقول:
كان ذلك سيحدث بالفعل، أَعْنِي احتلال وادي النيل لولا المارشال “مونتجومري” الذي دَحَرَ قوات المحور في معركة “العلمين” الحاسِمَة.
فقال الدكتور “ديمتريوس هارماخيس” بصوت جَهِير:
يهمني أنْ أستمع إلى العالم الألماني “غُوته وأظنُ أنكم تشاركونني في هذا القول!؟.
صاحت الدكتورة ” إنْجِي شَبْرِيسْ” تقول:
دَعْنِي دكتور “ديمتريوس” أوضِّحُ أكثر فأكثر صناعة الأكاذيب التي كانت الشغل الشاغل للنازية فهذا -في نظري على الأقل– هامٌ إلى أقصى حدود الأهميَّة. ففي سنة 2005م تَرْجَمَ “فريد الفالوجي” كتاب وزير الإعلام النازي “بول جوزيف غُوبلز” بعنوان “الدعاية والدعاية المضادَّة” حيث يُدَوِّن “غوبلز” ما يلي بالحرف الواحد: “إكذب واستمر في الكذب حتى يصدّقُكَ الناس، ومن ثَمَّ حتى تصدِّق أنت أخيراً نَفْسَك.”. وكان “غوبلز” يقول بصفاقة لا مثيل لها: “حينما أسمع كلمة ثقافة أَتَحَسَّسُ مُسَدِّسِي.”!
وبعدما أَتَمَّتْ “شَبْرِيس” توضيحها تنهَّدَت بارتياح. فقال العالم الألماني “غُوته”:
أشكرك دكتورة “إنجي شبريس” على توضيحك الهامّ.
فَرَدَّدَ ” ديمتريوس هارماخيس ” بصوت منخفض:
وأشكرك دكتورة “شبريس” على الإيضاح.
واستطرد العالم ” بول غُوته” قائلاً:
حَدَّدَ المارشال ” مونتجومري” القواعد التي ينبغي للقائد الكبير أنْ يراعيها، وهي كالآتي:
أنْ تكون له هيئة أركان حرب جيدة.
أنْ يُراعي البساطة في كلّ أموره.
أنْ يتحاشَى الأوراق والملفات ويُدَرِّب مساعديه على العمل بمقتضَى التعليمات والأوامر الشَّفَهِيَّة.
أنْ يتمسَّك بالقواعد الأساسيَّة، أيْ الأمور الهامّة فعلاً.
أنْ يتجنَّب التدخُّل في التفصيلات ويتركها لأركان حربه.
أنْ يُحافِظ على الروح المعنوية وهي أمر على جانب كبير في الحرب، فبدون الروح المعنوية العالِيَة لن يحقِّقَ شيئاً.
أنْ يضَعَ ثقته في الخِطط والعمليات حتى وإنْ شعر في دخيلة نَفْسِه بالتشكُّكِ في نتائجها.
وكانت الشمس من نافذة قاعة الاجتماعات آخذة في الغروب وَسْطَ الشَّفَق الأحمر المنعكس على زجاج نوافذ القاعة.