حوارات

الشاعر الليبي السنوسي حبيب: أثر تجربتي في الحياة هو ما يعطي تجربتي الابداعية سماتها وطعمها

حوار أجراه : زيد الشهيد (العراق) / هون- الجفرة منتصف 2003

في خضم انشغالاته العملية؛ ومن بين لهاثه المستديم لتمشية شؤون محله الذي لا ينتمي لنشاطاته الثقافية (حيث يدير سوبر ماركت متواضع في مدينة هون) استطعت اختطافه وجرّه للدخول في أزقة الثقافة . أُفرغ جيوب ذاكرته من فعاليات ولقاءات وجهود أدبية نهل منها أو ساهم فيها أو حققّها (له ثلاثة مجاميع شعرية صادرة ، ورابعة تنتظر فترة وجيزة لنزولها إلى الأسواق الثقافية). لا ترى في هيئته مظاهر تمتحي لفت الأنظار إليه، ولا هو ممّن يرفع عقيرته ليُسمع الآخرين أنّه شاعر وموهوب ومتألق:

– هل طغت عليك صبغة العمل في السوبر ماركت فأبعدتك عن إكسسوارات البهرجة التي يفتعلها الغير ليقال عنهم أنَّهم مبدعون متميزون ؟

– ها..ها .. ها ..

من انفلات قهقهته رميت عليه السؤال:

س: من أينَ نبدأ؟

_ من أوائل النصف الثاني للقرن العشرين حيث قالت لي الباسمة الغاوية (الحياة) تعالَ. يوم كانت ليبيا الحديثة تولد من أتون الحرب العالمية الثانية.. بعد أن تناطحت فوق أراضيها شرقاً وغرباً؛ شمالاً وجنوباً قوّات المحور والحلفاء ؛ وزرعت أراضيها بالألغام والأسلاك الشائكة. وحين اضطرت هذه القوّات إلى الانسحاب كان كل شيء مدمّراً أو مزروعاً بالألغام والأسلاك الشائكة. وكان الفقر هو القاسم المشترك بين جميع الليبيين. ولك أن تتصوّر كيف يكون حال بلاد كان (مثلاً) مصرفها الوطني الوحيد يؤسس بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه، وميزانيتها تتكوَّن من المعونات والهبات الخارجية، واقتصادها الزراعي البسيط قد انحسر بفعل الحرب، ولم يكن فيها صناعة ولا تجارة مع الآخرين سوى أنماط التبادل البسيط والمتواضع.

في هكذا وطن ولدتُ لأسرة فقيرة تملك مزرعةً نخيل صغيرة لا تكاد تسد رمقها بما تنتجه من تمور وخضار ممّا دفع الاسرة أن تهجر هذه المزرعة وتلحق بأكبر أبنائها الذي ذهب للعمل بمعسكر للجيش البريطاني بمدينة بنغازي… وهناك دخلتُ المدرسة، ولكن بعد أقل من عامين وبسبب ظروف الفقر وضيق العيش في المدينة ومحدودية دخل الابن الأكبر اضطرّت الاسرة للعودة إلى مسقط الرأس؛ إلى (هون) لتضمن السكن في بيت لا تلاحقه لعنة الإيجار.. لقد عرفتُ العملَ باكراً في حرف ومناشطة صغيرة طوال مرحلتي الدراسة الابتدائية والإعدادية.

س: تذكرّني بالروائي البريطاني ” جارلس ديكنز ” . مرَّ بمثل هكذا معاناة فأصبحت خزيناً أمدّته لاحقاً بخزين روائي هائل.. أتراها المعاناة أخذت لها حيّزاً في نشاطاتك الشعرية لاحقاً؟

– مؤكّداً ! كثير مِمّا كتبته تمَّ بقلم الذاكرة. لولاها (الذاكرة) لكانت الكتابةُ فراغاً.. أنا لم أعرف اللعب إلاّ لماماً، وفي فترات مسروقة من الزمن. أمّا الدراسة فلم أتفرّغ لها إلاّ حين ذهبتُ إلى مدينة سبها فأتممتُ المرحلة الثانوية. وهناك كان البزوغ الأول للنشاط الأدبي. إذ نشرتُ في صحيفة ( البلاد ) عام 1969 أولَ مقالة رغم محدودية حجمها . وأتذكر أنها تناولت موضوع الرد على بعض منتقدي الكاتب إبراهيم الكوني لمقالات كان ينشرها آنذاك فتثير نقاشاً ولغطاً.

في العام 1970 عدتُ إلى مدينة بنغازي، طالباَ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. وبها عرفتُ ألواناً من النشاط الثقافي والأدبي. في تلك السنوات كانت بنغازي تعجُّ بالنشاط؛ وكانت هناك صحيفة (الحقيقة) وعددها الأسبوعي المتميز؛ ومجلة ( قورينا ) وندوتها السنوية؛ وجلة (جيل ورسالة) وكتيبها المُلحق؛ إضافة إلى الأمسيات والندوات بنادي الهلال وما يحفل به مدرج “رفيق” بكلية الآداب من مناشط ثقافية: كتب ومجلات ودوريات.. في ذلك الجو بدأت رحلتي الفعلية في الشعر والثقافة.

س: سمعت أحدهم مرّةً يقول ؛ عندما أكتب أنسلخ عن الواقع وأركل ما ورائي وأبداً من الهيولي. أي أنّه يناهض فعل التناص الذي لا يمكن لأحد التهرّب من حقيقته التي كالمأزق.. أتتراصف مع هذا الرافض، أم أنَّ الحياة هي خير منهل كما يقول الواقعيون. بمعنى آخر أين تضع تجربتك الأدبية؟

– إنَّ أثر تجربتي في الحياة ربّما هو ما يعطي تجربتي الابداعية سماتها وطعمها الخاص بها، هو ما يجعلها تختلف عن غيرها من التجارب. أمّا الثقافة فمسألة مشتركة ومتاحة للجميع. ومن ناحيتي أوليها اهتماماً كبيراً؛ إذْ بدونها لا يستطيع من يتعاطى الإبداع الثقافي أن يقول شيئاً ذا قيمة، حيث يقع في البساطة المُخلّة أو السذاجة وتكرار النفس أو إعادة كتابة الآخرين.. إنّ هذه الثقافة هي ما يحصِّن التجربة ويقوّيها، وتعطي المبدع أدوات جيدة تمكّنه من قول ما يريد بشكل جميل ومفيد.. الثقافة بمعناها الواسع والشامل هي ما يمكن المبدع أن يكون مبدعاً حقيقياً شديد البساطة، وشديد التواضع، وشديد الشفافية. مُعتد بنفسه، ولكنّه عدو الغرور الأجوف.

س: نصوصك الشعرية! أتستقيها من المواقف اليومية البحتة صورةً وتجسيداً أَم من دعاوي الذائقة التي تلح عليك في لحظات جنونها؟

– دعني أولا أقف عند مصطلح فكرة الجنون، هذه التي يربط الكثيرون بينها وبين الشعر .. الجنون حالة من ذهاب العقل، ومن الفوضى واللامنطقي، وقول أشياء غير ذات معنى أو ذات التباس وتشوش دلالي. بينما الشعر عمل ابداعي يتوخّى كشف المجهول والسفر إلى المستقبل واكتشاف بذار الأمل عبر أداة اللغة وتشكّلاتها المختلفة.. الشعر كَسرٌ للمألوف وطرح لرؤى وأحلام وأخيلة وصيغ جديدة ستصبح بعد حين ضمن المألوف، وضمن ما يكوِّن الذائقة الفردية والجمعية. أشعار المتنبي مثلاً كانت في وقتها وعند متلقّيها من مجايليه غير مألوفة؛ بل مستغلقة نسبياً ” ويسهر الناس جرّاها ويختصمُ ” كما يقول أبو الطيب نفسه. ولكن انظر الآن تجد الكثير من أشعار المتنبي تدور على ألسنة العامّة ويضربون بها الأمثلة.. وهكذا فالذائقة نتاج لتراكم ثقافي ومعرفي يضرب بجذوره في الاعماق. وفي حالة شعرنا العربي فإنَّ ذائقتنا تمتد بجذورها حتى المعلّقات على أقل تقدير. وقديماً كانوا يربّون ذائقة الشاعر المبتدئ بأن يحفظ عدداً كبيراً من القصائد، ثم ينساها. وبعد ذلك يطلق لذائقته الخاصة العنان أن تكتب تجربتها الخاصة. أمّا بالنسبة لتجربتي في الكتابة الشعرية؛ في الأخيلة والصور والتراكيب والاشتقاقات وكل الاشتغال على اللغة الذي ينتج النص الشعري فأني لا أفرّق بين ما أكون قرأته في كتاب أو مجلة وبين ما أعيشه في الحياة اليومية، ومن ضمنها تجربتي الإبداعية. إنَّ طعم حبّة رطب طازجة فوق لساني أو قضمة تفاح بين أسناني أو ارتهاج نهد امرأة جميلة أمام ناظري وغير ذلك، وغير ذلك كثير تشكّل مصادر لبناء الصورة ومدخلاً لاشتعال الخيال، وكذلك موقف ما أو معالجة ما في كتاب أو قصيدة أو أغنية أو لوجهٍ قد يشد انتباهي وتولّد لدي حالة شعرية يكون لها انعكاسها في نص أو صورة ما.

الشاعر الراحل "السنوسي حبيب"
الشاعر الراحل “السنوسي حبيب”

س: مجاميعك الشعرية دخلت مختبرات النقد. ما مدى اهتمامك بالنقد الأدبي؛ وهل أنصفك النقاد؟

– أولاً : هل يوجد لدينا نقد بالمعنى الحقيقي والدقيق للكلمة؟ نحن في الواقع نعيش تحت ثقافة غير نقدية. ثقافة مسدود أفقها بالتسليم، بالخضوع لمسلّمات لا يسمح بلمسها أو الاقتراب منها. والنقد كما تعرف تساؤل جريء وتنقيب وبحث واستقصاء للأبعاد، وتقليب للدلالات على أوجهها واحتمالاتها ممّا يستوجب افقآ واسعاً من الحرية. حرية أن تخضع كل مقولة وكل فكرة، وكل معالجة للتمحيص والتساؤل. فهل هذا مسموح به في ثقافتنا العربية؟  إنَّ المسكوت عنه قسراً أو طوعاً أكثر ممّا يسمح بوجود نقد.. أمّا في ما يتعلّق بما كتبت من نصوص شعرية فقد تناولها كثير من الكتّاب والشعراء الذين لهم حضور فاعل في الساحة الأدبية، مشيدين ومرحبين ومتذوّقين، ما يجعلني أشعر بالرضا والامتنان تجاه الوسط الثقافي الليبي.

أمّا النقد المنهجي والأكاديمي فقد أخبرني العديد من طلاب الدراسات العليا أنهم تناولوا أشعاري بالدراسة في اطروحاتهم وللأسف لم أتمكّن من الاطلاع عليها.

س: مجموعتك الأولى ” عن الحب والصحو والتجاوز ” ، ومجموعتاك الأخيرتان ” المفازة ” و ” شظايا العمر المباح ” تبتدئ بالحب ثم تنتهي بالمفازة والعمر المضاع.. هل تعني هذه النقلة المفارقة نضوب الحب داخلك؟ كأنّي بك تؤيّد قول المعري ” تحطمنا الأيام حتى كأننا / زجاجٌ ولكن لا يُعاد له سبكُ “.

_ يفصل المجموعة الأولى عن الأخيرتين مسافة ربع قرن من السنوات وحوالي ثلاث مجموعات شعرية لم يتوفر الظرف الملائم للنشر. وهناك مجموعة رابعة ستنشر قريباً من قبل “مجلس تنمية الإبداع الثقافي” وهي تحمل عنوان “قريباً من القلب” حين ستطلع على نصوصها وتدخل غمار فحواها ستصطاد الإجابة المستوفي على سؤالك عن نضوب الحب. وليس لي غير أن أقول لك يا صديقي كلاماً موجزاً : إذا مات الحب مات الشاعر.

س: عبر تجربتك الثقافية والإبداعية التي تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً اشتغلت فيها بالمقالة والدراسة والعمل الصحفي والإذاعي مضافاً لها القصيدة التي هي هاجسك وملاذك؛ أيساورك شعور بالرضا حيال هذه التجربة الطويلة والمتنوعة؟

_ الرضا مطلبٌ صعب وعسير ؛ أمّا القبول فنعم.. أنا أقبل تجربتي بما أدّعي أنّي أنجزته وبما لم أستطع لأسباب موضوعية أو لخطأ في التقدير.. عموماً أنا متقبل تجربتي ومتصالح معها؛ ولكنني أشعر بالمرارة كوني عشتُ حياة غير ملائمة. فأنا من جيل ولد غداة خيبة حرب فلسطين وتجرّع خيبة الأيام الستة، وخيبة ثغرة الدفرسوار سنة 1973 ، ونتجرّع الآن خيبة سقوط بغداد، وخيبة العولمة وإذاعتها الحرة التي تحاول أن تطمس ما بقي في رؤوسنا من إحساس بخصوصيتنا كآدميين إلى عالم غير عالم الغرب.

_ ألاحظ في الوسط الثقافي الليبي نشاطاً واسعاً وحثيثاً في المساجلات بين الأدباء وخصوصاً هذا التواجه الأزلي بين الأجيال تحصل على صفحات الصحف والإذاعات المحلية . وعلى جانب آخر ثمة تحرك واضح في حركة النشر حيث ” مجلس تنمية الإبداع الثقافي ” اندفع يحتضن الإبداعات والنتاجات المتميزة ويعمل على نشرها . وهناك مجلة ” المؤتمر ” الناجحة جداً تولّت نشر الكثير من النتاجات المهمّة وما زالت مستمرة . هذا أمرٌ مفرح ويكاد يكون متميّز مقارنة مع ما يعانيه المبدع في أقطارنا العربية الأخرى .

_ التساجل وفعل الرد والرد المقابل ظاهرة صحية جداً ؛ هو ما يجعل الوسط الثقافي في حالة فعالية مستمرة وأنا فرح لأن أرى ذلك . وهو الذي يفرز ويُظهر النقاء الثقافي على حقيقته وينعش ذاكرة المثقف ويجعله في حالة تحفيز دائم للوثوب إلى أمام . أمّا بصدد النشر ومن عدّة جهات فهو أمرٌ مفرح وأنا أرى الأدباء مستبشرين جداً لأنهم يرون كتبهم التي أنتجوا فحواها بمهجهم المحترقة وتأملوا رؤيتها على رفوف المكتبات معروضة أمام القراء . فهم يشعرون أن احلامهم تحققّت . بقي أن أقول أنّ التوزيع وخروج الكتاب إلى الساحات العربية ما يتطلب النظر إليه . إنَّ الكتاب الليبي لا يقل في تميّزه عن الكتب في الأقطار العربية الأخرى ؛ بل لا أبالغ أن الكتاب الليبي يتقدّم على الكثير مما يُنشر في دول عربية أخرى ..

مقالات ذات علاقة

الروائي إبراهيم الإمام: نحتاج إلى مشروع وطني شامل يعتني بالإرث المخطوطي في ليبيا

مهند سليمان

المكي المستجير لـ (السقيفة): ”أنا طفل يحبو.. لا يزال يتعلم كيف يمشي.. يحاول تحويل دهشته شعرا، وفضوله فكرا“

المشرف العام

القاص سالم العبار: اليومي والعابر والهامشي، كثيراً ما يكون هو الحقيقي

المشرف العام

اترك تعليق