حوارات شخصيات

أول وآخر لقاء مع الناشر محمد بريون صاحب مكتبة النجاح: هذه قصتي مع القذافي وهذا ما حدث لمكتبة النجاح

حاوره / جلال عثمان

عدسة/ طارق الرويمض

أصدرت حوالى أربعين كتاباً منها فقه الجليل

في السابق كان التأليف أشبه بالتطوع

كان المثقف بعد الانقلاب محروماً من رائحة الحرية

الذين لم يعرفوا الشيخ محمد بريون بالتأكيد سمعوا بمكتبة النجاح، إحدى أهم المكتبات في الفترة التي امتدت من الستينيات وحتى السبعينيات، المكتبة التي لم يكن يضاهيها حجماً في تلك الفترة سوى مكتبة المثنى بالعراق، المكتبة وصاحبها من المفترض أن يكونا من أهم الأسماء العربية في مجال النشر، لولا انقلاب القذافي الذي أتى على كل شيء في بلادنا فأحاله رماداً .. أنا لم أزر المكتبة لأن أعداء المعرفة مسحوها من على الخارطة الثقافية قبل أن يصبح بإمكاني ارتياد المكتبات العامة، ولكنني سمعت مراراً وقرأت مراراً وإن يكن على استحياء عن قصة المكتبة التي كان يرتادها القراء للتزود بالمعرفة، ويرتادها الفقراء للتزود بما يسد الرمق .. واليوم لم يعد من هاتيك القصة سوى شيخ طالما عشق الكتاب في سنوات كان الميسور من الليبيين يتجه لأي شكل من أشكال التجارة باستثناء تجارة الكتاب، ومكتبة هي مجرد ذكرى اسقطتها الذاكرة الثقافية الليبية إذا ما استثنينا ما كتبه الصحفي الراحل محمد طرنيش رحمه الله في زاويته (جنان النوار) بصحيفة الشط.

الصدفة وحدها جمعتني بالسيدة الدكتورة فوزية بريون ابنة الشيخ محمد وزوجها الدكتور محمود تارسين، فبادرتها بالسؤال: هل تعرفين الشيخ محمد بريون صاحب مكتبة النجاح .. فأجابت: إنه والدي.

بريون كما لم تعرفوه

هذا اللقاء العابر، أثمر عن لقاء أطول في بيت الشيخ الجليل، محمد بريون الذي بدى رغم سنوات العمر، ورغم أسنان النظام السابق التي نهشت كل قيمة جميلة، بدى مقبلاً على الحياة، ما أجاب عن سؤال إلا وسبقته ابتسامة.

عدسة/ طارق الرويمض
عدسة/ طارق الرويمض

يعتبر الشيخ محمد بريون من الرعيل الأول في ميدان التعليم والصحافة والنشر .. حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم التحق بالمعاهد الدينية التي كانت موجودة في طرابلس، مثل مدرسة عثمان باشا وكلية أحمد باشا، وتتلمذ على علماء وأدباء تلك المرحلة، من أمثال الشيخ محمد المصراتي والشيخ عمر الجنزوري والشيخ أبوبكر باللطيف وغيرهم.

في أواخر الأربعينيات التحق بكلية المعلمين التي أنشأتها الإدارة البريطانية لينخرط في سلك التعليم إلى أن ترأس اللجنة الثقافية بنقابة المعلمين، وترأس تحرير مجلة (صوت المربي) التي كان لها دور في انعاش الحركة الأدبية في ليبيا.. وقد أصدرت المجلة في العام 1957 عدداً خاصاً عن القصة القصيرة .. وقد ساهم الشيخ محمد بريون مع صديقه الشيخ عبدالسلام خليل في تأسيس النادي الأدبي بمقره بالمدينة القديمة في ناحية قوس الصرارعي بالقرب من الأربع عرصات وألقى فيه عدداً من المحاضرات.

كما تولى لمدة قصيرة في مطلع الستينيات رئاسة تحرير مجلة )هنا طرابلس( التي كانت تصدرها مصلحة المطبوعات والنشر في المملكة الليببة .. نقل بعد ذلك للعمل في وزارة المواصلات، ولكنه كما يقول لم ينسجم مع العمل الإداري فاستقال ولم يكن هناك نظام المعاش التقاعدي في تلك الفترة .. وبفضل المبلغ الذي استلمه في نهاية الخدمة تمكن من انعاش مشروع المكتبة الصغيرة التي شرع في تكوينها بسوق المشير، بجانب مدرسة عثمان باشا، في العام 1950 وتفرغ للعمل فيها.

إلى جانب شغفه بالصحافة حيث كتب المقال والافتتاحية، كتب الشعر ولكنه لم ينشره وخاصة الوطني الذي كان يعارض من خلاله الفدرالية ويدعو للوحدة الوطنية.

اختاره المؤتمر الأول للأدباء الليبيين الذي عقد في مبنى مجلس النواب عام 1970 أميناً عاماً له اعترافاً بدوره في مجال الثقافة .. في فترة الستينيات تفرغ الشيخ محمد للعمل بمكتبة النجاح، بعد انتقالها لسوق الترك، وهناك صارت من أكبر المكتبات في شمال أفريقيا، وشكلت مورداً أساسياً لعدد من المكتبات التونسية والجزائرية والمغربية، إذ كانت الوسيط بينها وبين دور النشر في المشرق العربي خصوصاً مصر وسوريا ولبنان، واستطاعت المكتبة ربط الكثير من المكتبات بالمدن الليبية، وكان الشيخ بريون يخصص حجرة لإقامة الضيوف من خارج طرابلس .. وكانت مكتبة النجاح تتعامل مع أكبر وأشهر دور النشر العربية مثل مكتبة المعارف والبابي الحلبي، وصبيح، ودار العلم للملايين، ودار الفكر، وكان للشيخ محمد علاقات علمية وإنسانية مع عدد من العلماء العرب مثل الدكتور عبدالحليم محمود والشيخ  متولي شعراوي والشيخ صالح الجعفري وغيرهم.

حارب النظام السابق كافة الثوابت والرموز وسعى لتسطيح قيم المشهد الثقافي، وكان للشيخ محمد نصيب لا يستهان به، حيث صودرت المكتبة بأمر فوزية شلابي التي كانت تدير شؤون المدينة القديمة، وخصص مبنى المكتبة لشخص آخر،  وكان صاحب المكتبة في وقت سابق قد رفض عرض وبيع مطبوعات ما يعرف بالإعلام الثوري، كما تمت مضايقته بسبب انخراط عدد من أفراد أسرته في نشاط المعارضة الليبية بالخارج وسجن شقيقه محمود بريون  عام 1973، ثم سجن ابن شقيقه أيمن محمود بريون بتهمة (الزندقة) وهي تهمة كانت تلحق مزاجياً بكل من يشتبه في انتمائه لتيار إسلامي.

رسالة الشيخ محمود عن مكتبة النجاح

وجدت لدى الدكتورة فوزية بريون إبنة الشيخ محمد رسالة خطية كتبها الشيخ محمود بريون شقيق الشيخ محمد، يتحدث فيها عن المكتبة فيقول: الخلاصة أن المكتبة لا تقتصر على الدكان أو المحل الموجود بسوق الترك، فإن وراء هذا الدكان منزل على الطراز العربي يوجد به خمس حجرات وفناء واسع وجميعها معمول بها أرفف (طارمات) كلف عملها مبالغ من المال. وكانت هذه الأرفف مملؤة بالكتب من مختلف المواضيع. والطارمات الموجودة في وسط الحوش تعادل الموجود منها في جميع الحجرات وهي كلها مملؤة بالكتب.. هذا بالنسبة للدور الأرضي أما الدور العلوي فيوجد به كذلك خمس حجرات، وكلها فيها طارمات وملية بالكتب ومنها حجرة خاصة بالضيوف من معارف الشيخ محمد من جميع مدن ليبيا، يأتون إليها من بلدانهم ويقضون فيها فترة الظهيرة ويؤتى لهم بالغذاء وأحيانا يقيمون فيها .. وكان كل من يمر بضائقة مالية يأتي للمكتبة ليستلف، أما السائلين لله فكان الشيخ محمد يوصي من يتولى البيع فيها ألا يرد سائلاً، فكانت مصدر رحمة وشعاع نور وعلم، وبيت ضيافة حتى تعرضت لهذه الهجمة الوحشية التي تسمى (الزحف) فحرمت البلاد والعباد من مصدر الخير والمنفعة. (انتهى النقل)

في بيت الناشر

جمعني حوار طويل مع الشيخ محمد بمعية الدكتور محمود تارسين والدكتورة فوزية، وبعض أبناء الشيخ محمود، وبالإضافة إلى ما جمعته منه ومن العائلة، حول المكتبة فإننا تجادبنا أطراف الحديث عن قضايا ثقافية عدة بدأها بالحديث عن شغفه بالكتاب قائلاً:

عدسة/ طارق الرويمض
عدسة/ طارق الرويمض

كنت مغرماً بالكتاب وبالثقافة إجمالاً، وعندما سنحت الظروف لتأسيس المكتبة كان هناك بالصدفة صديق من الجزائر، يعمل في مجال الكتاب وزار طرابلس وكان له عمل مع محمد البدري صاحب مكتبة الشعب بمصراتة، فانضممت لهم وقمنا بتوزيع الكتاب في عدد من المدن الليبية .. وقد تعبت في بداية تكوينها ولكنني كنت مؤمناً أن للعلم مستقبل مشرق.. كنت شغوفاً بالمعرفة على أوسع نطاق، غير مختص بفرع معين وعلى نهم كبير، وأحرص على الإطلاع على جميع العلوم والآداب والفنون

– كنت مهتماً بكتب التراث ونشرت عدداً من الكتب هل مازلت تتذكر بعضاً من تلك الكتب؟

أصدرت حوالى ثلاثين أو أربعين كتاباً منها فقه الجليل، الذي تحول إلى مقرر في إحدى الجامعات الليبية، كما أصدرت كتباً تعليمية في اللغة الانكليزية وأيضاً لباب الفرائض.

هل ما زلت تتذكر بعض المثقفين الذي عاصرتهم، أو الذين نشرت لهم؟

أذكر منهم عبد السلام خليل، وأحمد الحصائري، والمهدي أبوحامد، وإسماعيل العزابي، وفريد سيالة، وعبد اللطيف الشويرف.

ومن تذكر من الذين عملوا معك باللجنة الثقافية للمعلمين؟

عبد القادر الجهاني، فريد سيالة، عيسى الأسود.

من المشائخ الذين التحقت بهم في تلك الفترة؟

الشيخ مختار حورية رحمه الله، والشيخ علي الزرقاني، والشيخ عمر الجنزوري، وبالنسبة للغة والفقه والعلوم الإسلامية التحقت بكلية أحمد باشا، وكان يدرسنا الشيخ علي النجار، والشيخ أبوبكر بن الطيف، والشيخ عمر الجنزوري، ثم فتحت دورات لتأهيل المعلمين في فترة الإدارة البريطانية في عام 1943.

كيف كنتم تتعاملون مع الكتاب من حيث المقابل؟

في السابق كان التأليف أشبه بالتطوع، لم يكن هناك من شروط أو مقابل يفرضها المؤلف.

وفي عهد القذافي بعد الانقلاب ؟

كان المثقف بعد الانقلاب في ضنك شديد .. ولايسمح برائحة الحرية ولم يكن هناك إلا التمجيد لشخص واحد .. أما خدمة الناس ونفع الخلق فكان ممنوعاً.

أنا كان لدي هدف واحد، وهو نفع العباد، وليس حجر العلم أو الاستئثار به أو استغلاله .. وفي نفس الوقت هناك من استغل حقوقي في طبع بعض الكتب المهمة التي طبعت في مصر وبيروت ولم أطالب بأي شيء.

كانوا يسألونني هل أنت راض عن مهنتك، فأجيب نعم .. لأن الطبيب لا يزوره سوى المرضى، والمهندس لا يقصده سوى ذي حاجة، إلى غير ذلك من أصحاب المهن، إلا صاحب المكتبة فيقصده الناس جميعاً.

في نهاية اللقاء سألته ما إذا كان يفكر جدياً في إعادة تأسيس مكتبة النجاح.. تنهد الشيخ محمد وابتسم قائلاً: لقد بلغت من العمر عتية ولا يوجد من لديه نفس شغفي بالكتاب، ولكنني أتمنى أن يكون للكتاب مكانته واحترامه.

رحم الله الناشر والكاتب الشيخ محمد بريون الذي انتقل لرحمة الله بعد مدة وجيزة من هذا اللقاء

____________________________________________

سبق نشر هذا اللقاء في صحيفة ليبيا التابعة لوزارة الثقافة

مقالات ذات علاقة

الشيخ محمد الامام الزنتاني: العالم المجاهد

المشرف العام

حميدة بن عامر رائدة من بلادي

المشرف العام

شاعر سندبادة… لطفي عبد اللطيف

عزة المقهور

اترك تعليق