المدنية في أبسط مفاهيمها تعني التحضر , والتحضر في أبسط مفاهيمه : عبارة عن نظام إجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة في مُنتجه الثقافي, وهذه الزيادة في المُنتج الثقافي لا يمكن لها أن تتحقق دون نزع كل القيود التي تقيد عقل الإنسان ودون الخلاص من المفاهيم المُقولبة والجاهزة الموروثه عن الأسلاف ودون تحرر كامل للإنسان وعلى كافة الصُعد من كل المنظومات القيميه التي تفرض نفسها عليه بداعي قدسيتها وسماوية مصدرها.
لم يسجل خلال تاريخ الإنسان الطويل أن قامت حضارة من الحضارات تحت حكم ديني, وبمعنى أخر فإن المدنية هي نقيض للتدين . فلا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً متحضراً وفي ذات الوقت متديناً ,لان الإنسان يصير متحضراً أو مدنياً بخلاصه من كل القوالب الجاهزة الموروثه, وبأن يفسح لعقله المجال للتفكير فيما يعرض له في حياته ليقوده إلى إبتكار صيغ تنظم حياته وتكون متوافقة مع إشتراطات الزمان والمكان الذي يعيش فيه.
الإنسان المتدين إذا ما اراد المحافظة على تدينه فهو مُلزم بحزمة من القواعد التي تحدد له طرق تفكيره والتي تفرض عليه أنماط معينة من السلوك لم يختارها لنفسه بل تم اختيارها له وفرضها عليه على أنها دين, وهو مُلزم بإتباعها وليس له الحق في مناقشتها ,لأن إيمانه يفرض عليه إعتبار أؤلائك الأسلاف الصادرة عنهم شُخوص مُقدسة لا تنطق عن الهوى, وأن كل فعل أو قول صدر عنها إن هو إلا وحيٌ يوحى علّمه شديد القوى. ولدا فهو لايمتلك إلا التأسي بهم في فضائلهم لأنه يؤمن بأن تلك الفضائل الصادرة عنهم هي فضائل إلهيه تنزلت من السماء ,ولا يؤمن بإنسانية مصدر تلك الفضائل, ولا يجد الثقة في نفسه لبلوغ تلك الفضائل بنفسه, ولدا فهو دائماً يحتاج إلى ذلك النموذج الأكمل الذي يُمثله له سلفه ويُمضي حياته كلها في محاولة إستنساخ نفسه لتكرار ذلك النموذج.
ـ نقول هذا للحديث عن الدولة المدنية الدينيه التي ومنذ بدأ الحراك الشعبي في المنطقة يُطالعنا الحديث عنها على لسان “الأسلامجيه” وشيوخهم وفقهاءهم دون أن يتكرم أحدهم بإعطاء أية تفصيلات أو شروح عن الصورة التي ستكون عليها تلك الدولة المدنية الدينيه المزعومة , ودون أن يُجيب أيً منهم على سؤال أولي بسيط يتساءل عما تبقى من مدنية الدولة عندما تخضع لحكم شريعة إبتكرها قوم عاشو وماتو قبل ألف وأربعمائة عام؟.
أحد هؤلاء الإسلامجيه وفي معرض تعريفيه بدولته الدينية المدنيه المُبتكرة قال: إنها دولة تؤمن بالله ولا تكفر بالإنسان, ولعل هذا القول يكشف مدى سذاجة وسطحية عقول أدعياء هذا التوجه الديني ومدى ضيق أفقهم الفكري ,لأن الدولة التي تؤمن بـ إله مُحدد وتفرض هذا الإله على مواطنيها هي دولة كافرة بالإنسان وبأبسط حقوقه لانها صادرت حقه في إختيار الإله الذي يؤمن به.
الإيمان بالله أمر غيبي ليس لوجوده أو غيابه تأثير على حياة الناس العامة, ولا يتجسد على الأرض إلا وفق شريعة مُحددة يفرضها دين معين أو عقيدة معينة. لأن الله كائن إفتراضي ليس بوسع أحد أثبات أو نفي وجوده بشكل قطعي, أما الكائن الذي لا يحتاج لاثبات لوجوده فهو الإنسان ,والتعرف على ذاك الإله ليس له من طريق إلا الإيمان المطلق بالإنسان ,والفضائل المُثلى المنسوبة إلى الله لايمكن بلوغها إلا بطريق الإنسان ,وعليه فالطريق للإيمان بالإنسان لاتمر عبر الإيمان بالله بل العكس هو الصحيح ,فبرايرالطريق نحو الإيمان بأي إله لابد أن تمر عبر الإيمان بهذا الكائن المسمى إنسان ,والإيمان بالإنسان يجب أن يكون إيماناً بقدراته وثقة مطلقة في نوازع الخير الفطريه فيه, وهذا يُوجب تقبل كل المُنتج الإنساني الصادر عن إنسان غير مُقولب, وليس قولبة الإنسان وفق نموذج شرعي معين ومن ثم الإيمان به, لأن هذا لا يعد إيمان بالإنسان, فالإنسان المُقولب والمبرمج وفق عقيدة أو دين معين هو كائن يطلق عليه إصطلاحاً فقط لقب إنسان ,ولكنه في حقيقة الأمر لايستحق أن يحمل شرف هذا اللقب لأنه تخلى طواعية عن عقله والذي هو السمة الوحيدة التي تميزه عن باقي المخلوقات وبذلك أفتقد الأساس والمقوم الذي تقوم عليه إنسانيته عبر التخلي عن المُنتج الذي كان من المفترض أن ينتجه عقله الحر لصاح مُنتج عقول تحللت وتآكلت منذ عشرات القرون.
الدولة المدنية لا تمتلك قوالب جاهزة لتحشر الإنسان فيها حتى ينال صفة المواطن الصالح, ووظيفتها الوحيدة هي توفير مناخات الإستقرار المادي والروحي للإنسان ليتشكل وفق ما اراد لنفسه, ولتتشكل دولته المدنية على صورته. أما الدولة الدينيه فلديها نموذج مُحدد وجاهز يفترض على الإنسان ليكون مواطناً خيراً في هذه الدولة الدينيه أن يحشر نفسه في قالب ذاك النموذج ,وأن يجعل من نفسه نسخة طبق الأصل لذلك النموذج المُسمى بالسلف الصالح, والذي تفرض عليه شريعته أن يؤمن بحيازته للفضائل كلها وبسبقه لكل خير , وخيرية الإنسان في مجتمه الديني تتحدد وتتوقف على مدى نجاحه في محاولته تلك.
الدولة المدنيه تقوم على إعلاء شأن العقل ويتم التمايز بين أفراد مجتمعها بمقدراتهم العقليه التي تدفعهم للإبداع والإبتكار والخلق , أما الدولة الدينيه فأول شُروط الصلاح للإنسان فيها هي تقبله للتخلي عن عقله وتعطيله عن العمل تماماً حتى يستطيع ذلك الإنسان تقبل الكم الهائل من الخرافات والأساطير والغيبيات التي تعتبر الأساس لإيمانه .
إنسان الدولة المدنيه يحتاج لعقله في كل خطوة يخطوها في هذه الحياة لأنه المُرشد الوحيد له لمعرفة الخطأ من الصواب أما مواطن الدولة الدينيه فلا يحتاج لعقله في شيء وكل ما يحتاج اليه لمعرفة صواب أو خطأ ما يعرض له في الحياة هو أن يلجأ إلى سير أسلافه ليعرض ما عرض له عليها وليتبين الخطأ والصواب بموافقتها لما جاء في سيرهم أو مخالفتها له .
كل قول وكل فعل يجب أن يتم إرجاعه وعرضه على أقوال وأفعال الأسلاف المُقدسين ,وهو ينال الموافقة أو الرفض بحسب توافقه أو تعارضه لما بلغنا عنهم .
الدولة الدينيه تقيم قواعدها على تحريم الإبداع وتعتبر كل إبداع ضلال يقود إلى جهنم, ولدا فإن مواطنها يفتقد القدرة على إعطاء أية قيمة مضافة للحياة تسهم في تطور المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه, لأن هذا المواطن البائس يؤمن بأن أسلافه المؤلهين قد سبقوه إلى كل خير وكل فضيلة وهو يحدد حتى خيرية ما يعرض له ليس بفطرته الإنسانيه النازعة إلى الخير بل بإتيان أسلافه لهذا الخير من عدمه, وقاعدته التي يسير عليها هي : “لو كان خيراً لسبقونا إليه”.
الدولة المدنيه ليس لها شريعة جامدة, بل تتطور شرائعها بتطور الإنسان ويكون هدف المُشرع فيها هو تقنين وإضفاء الشرعيه لما يصدر عن الإنسان, مادام الذي صدر عنه يخدم حياته ورفاهه .
أما الدولة الدينيه فالإنسان فيها مُقيد إلى نموذج ثابت فقد قدرته عن التطور والتغير لأنه مات منذ عشرات القرون ,وعلى مواطن الدولة الدينيه الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين أن يلتزم بالتأسي بذلك النموذج دون مراعاة للفارق الزمني الهائل الذي يفصل بينه وبين إنموذجه المُقدس ذاك, ودون أخذ أي حساب للتطور الذي طراء على الإنسان خلال هذه الحقب المتطاولة والذي سمى بنفس الإنسان وهذبها وجعلها لا تستسيغ اليوم ما كان مُستساغاً ومباحاً في تلك الحقب الغابرة التي كان إنسانها أقرب إلى مراحل قرديته الأولى.
في الدولة الدينيه أنت لا تحتاج إلى المجادلة أو المحاورة حول القضايا التي تطرح نفسها على مجتمع تلك الدولة ,لأن الحلول لتلك القضايا لا ينبع من الحوار والنقاش ,بل يتم البحث عنه في الكتب التي تقص سيرة الأسلاف ويتم وضع الحلول القضايا العصريه بتأول ما جاء في تلك السير .
الدولة المدنيه تقدم خيرة أبناءها الذين يتم إصطفاءهم على أساس المقدرة العلميه لتسهم مع المجتمع الإنساني في محاولة وضع الحلول للقضايا الكثيرة التي تواجه وجود الإنسان على هذا الكوكب والتي تسعى لتحقيق حياة أكثر رفاه له ولك أن تتصور ماهي القضايا المطروحة على علماء الدولة الدينيه والذين نالو درجة العلماء لا بعلمهم ولا بقدرتهم العقليه بل بصم الصفحات الصفراء الباهته لكتب أسلافهم الأموات وبإدعاء التقوى وإتخاذ الريا لهم دين ومعتقد. لك أن تتصور ماهي القضايا التي ستُطرح في مجتمع تلك الدولة الدينيه والتي سيكون على رأسها ولا شك قضية إيجاد الحل الأمثل لهذا الكائن العورة الذي يشاركنا هذا الكون وينغص على المؤمنين حياتهم منذ الف واربعمائة سنة ويتآمر عليهم لإغواءهم وإيفقاعهم في الردائل.
سيقدم لنا علماء الدولة الدينيه الحلول الناجعة لستر عورتنا المُخزيه التي تسمى المرأة, تلك الحلول التي لن تخرج عن الحلول التي إبتكرها أجدادهم في الجاهلية وإن أختلفت في أسلوب التنفيد والتي ستقضي جميعها بدفن هذا الكائن العورة ولكن بدلاً أن تدس تحت التراب على طريقة جدهم القرشي , تدس تحت أطنان من الأغلفة والأقمشة السوداء ووراء أسوار البيوت العاليه ليحافظ ذاك المؤمن على إيمانه وعلى شرفه نقياً وطاهرا.
أنت في الدولة الدينيه تستطيع أن تقر قانون يسمح بالزواج من طفلة لم تتجاوز التاسعة رغم أن هذا الفعل يعد جريمة في كل شرائع الإنسان المُعاصر ولكن بما أن الأسلاف قد أتو بهذا الفعل فطز في كل شرائع العالم المُعاصر .
قادة تلك الدولة الدينيه يستطيعون إن توفرت لهم القوة الكافية أن يحاصرو مدينة من مدن أعداءهم الكُثر حتى تنزل على حكمهم,ثم يأمرو بقتل كل رجالها وسبي نساءها وتحويلهم إلى أماء وجواري وملك يمين وإنتزاع أطفالهن من أحضانهن وإرسالهم إلى الأسواق البعيدة ليباعو كعبيد وليشترى بثمنهم السلاح الذي ترهب به تلك الدولة المؤمنة عدو الله ورسوله, وإعتراضك على هذا الفعل أو وصفك له بالفعل الهمجي يوقعك في المحضور لأن هذا الفعل أتاه الأسلاف ضد أعداءهم وهذا الحكم هو حكم الله من فوق سبع سموات.
حتى مشاعرك الإنسانيه أنت لا تستطيع أن تجعلها تعمل كما خلقت لتعمل, بل يجب عليك أن توجهها لتعمل وفق “الكاتلوج” السلفي فلا يجب على نفسك أن تأسى إلا على الذي آست عليه نفس السلف ,ولا تقسو إلا على ما قست عليه نفس السلف .
وعليه فعليك أن تتابع بشغف وفرح مشاهد جلد عاشقين أو رجمهما حتى الموت ,وعليك أن تتشفى من منظر بائس من البائسين تقطع يديه ,وعليك أن تكبر وتهلل وأنت تتابع مشاهد ضرب عنق صاحب قلم أو فكر. وعليك أن تحذر فالله مطلع على ما في نفسك وهو سيعلم ما إذا تحركت إنسانيتك وأجبرتك على إبداء أية شفقة أو رحمة بأعداء الله هؤلاء لأن الرحمن الرحيم أمرك أن تشاهد عذابهم وأن لا تأخدك رأفة أو رحمة في دين الله.
حتى العلاقات الإنسانيه بين أفراد مجتمع تلك الدولة الدينيه البشعة لاتقوم على الود والحب الذي ينشأ بين البشر بشكل طبيعي ,فأنت في هذه الدولة ملزم بقانون إلهي يأمرك بأن تحب في الله وتبغض في الله ولدا وجب عليك أن تبغض ذلك الذي لا يشاركك إيمانك حتى وإن كان من خيرة فضلاء الناس.
الدولة المدنية تقوم على المواطنة وتعتبر الشكل الحالي للأوطان التي تقوم فيها ,تعتبره صيغة نهائية وتسعى لتاكيد هذه الصيغة ولإعلاء قيم المواطنة وعشق الوطن ,أما الدولة الدينيه فهي لاتعترف بالمواطنة بل هي لا تعترف بالأوطان أصلاً , فهذه الأوطان التي نعيش فيها اليوم لا يعتبرها أتباع التيارات الدينيه صيغ نهائية للأوطان التي سنعيش فيها للأبد , بل يعدونها نتاج لحرب الكفار على الإسلام والذي أسقط دولة خلافتهم الرائعة وكل برامجهم تسعى لإستعادة تلك الخلافة المتخلفة, ولدا فهم لايحملون أي ولاء لهذه الأوطان ولايقدسون شيء من مفرداتها ,فمقدساتهم محددة ومعروفة هناك وراء بحار الرمال حيث عاش ومات من يعدونهم خير خلق الله.
الدولة المدنية دولة منفتحة على الأخر , هي دولة تعد نفسها مكون من مكونات المجتمع الإنساني الذي تعيش فيه وتحدد علاقاتها مع هذا المجتمع من حولها على أساس المنفعة المشتركة وعلى أساس إيمانها بالمشترك الإنساني الذي يجمعها بمن حولها.
أما الدولة الدينية فهي دولة حاقدة على ما حولها ,دولة ترى نفسها هي الوحيدة المصطفاة عند الله وترى كل من خالف عقيدتها كافر مشرك يجب إدخاله إلى دينها الحق أو إجباره على إعطاء الجزيه وهو صاغر أو ضرب عنقه.
الدولة الدينية دولة موبؤة يضطر العالم من حولها إلى حجرها وعزلها حتى لاتنتشر عدوى أحقادها المقدسة وتدمر كل شيء.
الدولة المدنية الدينيه التي يبشر بها الإسلامجية لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع لأن المدنية والتدين نقيضان تماماً مثل المعرفة والجهل .
هذه الدولة المُفترضة لا يمكن أن توجد إلا في عقول أصحاب التيارات الإسلاميه لأن تلك العقول تقيم إيمانها على الخرافات والأساطير ولدا فهي قادرة على أن تؤمن بأمكانية قيام هذا الكيان الخرافي الممسوخ الذي تسميه الدولة المدنية الدينيه.
___________________________________
في ذات الموضوع يمكن مطالعة: