جمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد الممات جمالُ الكتب والسيرِ
أبو الوليد الشَّقُندي
ثمة طائفة من المثقفين والكتاب يُحصِّلون، في اجتهاد حقيقي ونباهة مرهفة، ثقافة واسعة متنوعة وعميقة، ويؤثِّرون في أعداد معتبرة من المثقفين والكتاب الذين يعاصرونهم ويتصلون بهم مباشرة أو يقرأون لهم، بل ويمتد تأثيرهم إلى أكثر من جيل، ومع ذلك فلا ينكبون على إنجاز مشاريع ثقافية مرجعية، ولا يتركون سوى ما يُعد شذرات متنوعة، مهما كثرت وملأت من كتب.
في التاريخ الإسلامي شاع اسم شخص من هذا النوع يعرف بأبي سليمان المنطقي (ت حوالي سنة 380 هـ) الذي وصفه أبو حيان التوحيدي بقوله: “كان أبو سليمان أدقهم [يقصد الجماعة التي كانت تداوم على حضور مجلس أبي سليمان] نظرا، وأقعرهم غوصا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر […] وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز”1 (ص494) ويعلق أحمد مين، الذي ننقل عنه هنا، على جانب البخل هذا بالقول: “ولعل من بخله بعلمه قلة تأليفه” 1 (ن. ص).
في تاريخ الحركة الثقافية الليبية ثمة شخصية تقترب من شخصية أبي سليمان المنطقي هذا، هي شخصية الراحل يوسف القويري.
فهو شخص واسع الثقافة، متنوع الاهتمامات، حاد البصيرة، صبور على التنقيب والاستيعاب، رهيف الذوق. إلا أنه لم يتوفر، وكانت ظروفه الخاصة تعينه على ذلك، على إنجاز مشروع فكري أو كتب تركز على موضوع محدد، مثلما فعل خليفة التليسي في كتابه “الشابي وجبران” و”رفيق شاعر الوطن” و”قصيدة البيت الواحد”.
إلا أن يوسف القويري أثر، رغم ذلك، ومازال يؤثر، بشكل أو آخر، في أعداد كبيرة من المثقفين الليبيين، من خلال دقته وتغوره وأسلوبه الجذاب. وهنا يمكن الاستشهاد بما قاله الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه في هذا الشأن: “أنا هنا لا أتكلم عن إنجازه، بقدر ما أتكلم عن موهبته في لمعانها الخاطف التي لم تجد مناخًا يساعدها على التحقق تحققًا كاملًا”2.
ويعزو إبراهيم حميدان2 هذه الحالة لدى يوسف القويري إلى سبب خارج عنه، هو معاداة النظام العسكري في ليبيا الذي استولى على السلطة سنة 1969، ومنذ الأشهر الأولى، لحرية الرأي والثقافة الحرة التي لا تسير في ركابه، وأيضا “المجتمع المتخلف المعادي لكل إبداع وتجديد” مستشهدا بعبارة القويري الذائعة: “المجتمع المغلق يقذف طلائِعَه إلى المنفى النفسي”.
*
لم يكن اسم يوسف القويري غريبا عليَّ وأنا بين المراهقة والشباب، لذا اقتنيت كتابه “الكلمات التي تقاتل” في فترة قريبة من صدوره (صدر أوائل 1969) وقرأته بمتعة وإعجاب. شدني أسلوبه وأنا أتلمس طريقي في عالم الكتابة، وجذبني وضوح وعمق تناوله. حوى الكتاب مقالات متنوعة في النقد الأدبي من ضمنها، مقالة عن مسرحية عبد الله القويري “المعاناة من أجل شئ”. لكن أكثر مقالة لفتت نظري، وحتى حيرتني، مقالته عن عبد الوهاب البياتي، التي أعاد كاتب مقدمة الأعمال الكاملة لعبد الوهاب البياتي نشرها. كما لا يمكن أن أنسى مقالته “الحكاية وفن السرّد” عن مجموعة يوسف الشريف القصصية الأولى “الجدار” الصادرة سنة 1966، القائمة على التمييز الدقيق بين خصائص القصة وخصائص الحكاية واستكشاف حضور كل منهما داخل القصة الواحدة في هذه المجموعة.
نعود الآن إلى مسألة الأسلوب في كتابة يوسف القويري. يقول في مقدمة كتابه الثاني “قطرات من الحبر”: “منذ عام 57 وأنا في عراك مع اللغة وشوائبها ومرادفاتها وتراكيبها التقليدية وحشود قواعدها الفضفاضة المملة، محاولا تطويعها وتليينها وتقشير جلدها الخشن المليء بالبثور والزوائد والنتوءات الصلبة، وإنطاقها بما لا تنطق به المفردات والجمل الشائعة “2. وما أذكره أنني فهمت من هذه المقدمة [أكتب الآن وليس تحت تصرفي أي من كتبه] أنه يعتبر، على الأقل ضمنا، مقالات كتابه هذا متقدمة، من ناحية جودة الأسلوب، عن كتابه الأول. لكنني، على الأقل حينها، لم أرَ ذلك. بالنسبة إليَّ كان أسلوب “الكلمات التي تقاتل” أكثر طراوة ورواء.
هناك جانب آخر برع فيه يوسف القويري، وهو كتابة القصة القصيرة. يقول هو نفسه في مقابلة معه مؤخرا 3: “كنت في الواقع أريد أن أجد نفسي في القصة القصيرة، ولكن ساقتني الأحداث والضرورات إلى المقالة ومن ثم البحث الذي يكون بصيغة مقالة أدبية”. وقد نشر خمساً من هذه القصص في كتابه “عن الأدب والحياة” منها قصة لا تُنسى عنوانها “الطفلة الكبيرة” تتحدث عن فتاة تسير في الشارع مرتدية فراشية وتشاهد العالم، بحكم العرف في ارتداء الفراشية، بعين واحدة، فيصف ملاحظاتها ومشاعرها بهدوء ودقة، وكأنه يطبق، في كتابته هذه القصة، المثل الفرنسي القائل: “قشه قشه، يبني العصفور عشه”.
_________________________________
1- أحمد أمين: ظهر الإسلام مج1. تحقيق وتعليق: محمد فتحي أبو بكر. الدار المصرية اللبنانية. القاهرة. 2016
2- أوردها إبراهيم حميدان في: «المثقف في المنفى النفسي».. قراءة في تجربة يوسف القويري.
3-يوسف القويري: لا طقوس للكتابة