سمية الغناي
طال انتظار الشتاء، لكنه حتماً سيأتي، الطقس بارد وسيزداد برودة مع الأيام… هكذا كانت تفكر صفية وأبحرت بها الأفكار بعيداً حتى أرجعها إلحاح ريما بالسؤال .. هل سنبقى هذا الشتاء هنا أم سنعيش مع إجديدة ” الجدة”؟
صفية.. اليوم سيدة أربعينية كادحة، لم توفق بزواجها حيث سرَّحها زوجها قبل عقدين بمعروف كما تزوجها بإحسان، وتركها له جارة لترعى بناتها الأربع هُنّ ثمرة زواجهم. تعيش صفية في نفس الحي مع أقارب بناتها، جيرانها: أسرة طليقها الذي تزوج وكوّن عائلة جديدة وليس ببعيد عنها بيت والدته جدة البنات، كلٌ له حجرات خاصة تشبه الأطلال، تُسَيجها أسوار متهالكة تحفظ لكل منهم حديقةً صغيرةً يجدون فيها متنفساً إذا ما اختنقوا برطوبة الجدران، تلك الأطلال هي المساكن التي يأوون إليها وتأويهم من تقلبات الجو وتشعرهم بأمان بالرغم من تهالكها. يُشعرهم دفء الجيرة بالأمان ويتبادلون الود ويعيشون بسلام ويتقاسمون معاً قساوة الأيام.
اعتادت صفية المسؤولية وكانت ترعى شؤون البيت بكل جهدها ولا تدخر حيلة في تلبية متطلبات بناتها الأربع، خاصة تلك التي يعجز عنها والدهن… مرت السنين بثقلها على صفية، كانت تتلقاها جاهدةً بقلبٍ طيبٍ راضي وثغرٍ مبتسمٍ على الدوام، كبائعة متجولة تلزمها تلك الابتسامة وذاك الرضا حتى تلقى القبول وتفتح لها الأبواب فهي العزيزة وإن جارت عليها الظروف…
أن تكون بائعاً يعني أن تخالط الناس، وأن تكون متجولاً يعني أن تتنقل وتعيش قصصهم، لكن عزة النفس لدى صفية حصرت نطاق معارفها، ولهذا كانت صفية بائعةً تدخل فقط البيوت التي فتحت لها أبوابها بالرضا واستشعرت آدمية وطيبة سكانها. وبالرغم من مسؤولياتها تجاه بناتها إلا أنها كانت تزور المريض منهم وتواسي المكلوم وتفرح للمسرور، وأمضت كل حياتها لرعاية بناتها وتفقد أحبابها ومعارفها على قلتهم، أما التجارة فكانت متقطعة ومرتهنة بتوفر رأس المال أو عجز والدهن عن الإنفاق عليهن…
بجسم نحيلٍ وجَلدٍ كبيرٍ واجهت صفية الظروف لسنين، وأخيراً تبسم لها القدر بتخرج اثنان من بناتها. لم تخفي الأم فرحتها بابنتيها وكأنها استشعرت بذلك راحة مقبلة ستنالها بعد رحلة كفاح طويلة، متأملة لهما فرص عمل قريبة رغم ندرتها… وحصرت جُلّ تفكيرها بالصدع المتوغل في حائط أحد الحجرات، أدركت أن الحجرة التي تحملت معها ظروف رحلة الكفاح وتربية بناتها لم تعد قادرة على الصمود أكثر، وكان هذا الهاجس الأكبر الذي يشغلها في أغلب الأحيان… لابد لهذه المشكلة من حل ولابد أن تستعجل حل المشكلة قبل مجيء الشتاء…. وكلما بدأ الحديث عن البرد والشتاء تسابقت بناتها لتذكيرها أن هذا الشتاء سيكون قارس البرد لوجود ذاك الصدع الكبير في حائط الحجرة، أو باغتتها ريما بأنها ستقيم مع إجديدة هرباً من برد الشتاء..
أخذ التفكير في ذاك الصدع جُل وقت صفية واجتهدت وكأنها تسابق الزمن محاولة تجميع مالٍ يكفي لترميم مأوى بناتها قبل مجيء الشتاء …وكأنها في موعد معه، جمعت ما أمكنها جمعه من مال وجمعت بناتها لتزف لهن البشرى أنها ستتمكن أخيراً من ترميم الحجرة قبل قدوم الشتاء.. غمرت السعادة قلوب بناتها بل قلوب جيرانها كذلك…
زَهرة البنت الكبرى لصفية لم تستطع كتمان سعادتها خاصة أنها لم تحظى بفرصة عمل جيدة طيلة العام المنصرم لعلها تخفف بها حمل والدتها، باشرت زهرة مع والدتها تجهيز البيت لمجيء العمال للعمل على ترميم الحجرة، تأخر العمال عن موعدهم وأتوا عشيةً وباشروا العمل ولكن الظلام داهمهم فتركوا العدة قبل إنهاء أعمال الهدم ووعدوا بالحضور باكراً صبيحة اليوم التالي…..
أصابت خيبة الأمل زَهرة وأخواتها لتوقف العمل قبل إكماله، وتجمهرت الجارات مساءً في حديقة المنزل الصغيرة المواجهة للحجرة يجمعهن الفضول والتفاؤل بحائط جديد تظهر ملامحه صبيحة الغد، وفي مكان أقرب للحائط وقفت زهرة تتفحص الحائط رفقة أخيها الصغير لأبيها مخاطبةً إيّاه لعلنا نوفر بعض المال إن تمكنا من هدم الحائط قبل مجيء العمال….اختلسوا النظر للعدة متأملين وتبادلوا الأفكار وتسابقوا للمطرقة …. استسلمت لرغبة أخيها بتجريبها… طرقات ثلاث فقط ولم يظهر لها أثر سريع… فتوقف، صفية من بعيد تصرخ عليه لتخبره بالتوقف عن اللعب فالعمال وعدوا بإكمال العمل غداً، بينما اقتربت زهرة أكثر لتتفحص الحائط عن قرب ووقع ما لم يكن بالحسبان…..
ثواني مرعبة شاهدتها العائلة المجتمعة في مسرح العمل…. انهار الجدار خلالها وتصاعد الغبار ليحجب عنهم بقية التفاصيل … على من انهار الجدار؟
من تحت الركام تصاعد الأنين ليمتزج بصراخ الجميع محاولين تبيّن تفاصيل وقع الحادثة، الغبار والظلام حجبا الرؤية، ولكن قلب الأم قدّر حجم المصيبة وصرخت بناتي ..بناتي. وقف الجميع مذهولين لاختفاء زَهرة، أنين زَهرة من تحت الركام اخترق الظلام والغبار، وسيل الدماء الساخنة التي امتزجت بالأتربة دلت على هول المصاب…لحظات بسيطة مرت كدهر حتى تبينوا أن زهرة لازالت على قيد الحياة. تعين عليهم أن يزيلوا كوم الحجارة من على جسدها النحيل… منظرها لا يبشر بخير…. غابت صفية عن الوعي لتجد نفسها بنفس المستشفى مع زَهرتها وإن فرقتهما الجدران. تلّطف الله بزهرة إذ قدّر أغلب الإصابات في الجزء السفلي من جسدها.
المستشفى على ضعف إمكانياته تمكّن من إيقاف النزيف وإجراء بعض العمليات الإسعافية وطلب منهم نقلها لمشافي العاصمة لاستكمال العلاج. خلال ذلك الوقت استسلمت صفية لضعفها وبالكاد كانت تقوم من سريرها لفقدها الأمل بحياة بنتها، حتى عاد لها الأمل بعد مرور بضعة أيام على الحادثة …أدركت صفية أن عليها التماسك من أجل عائلتها وتركت ريما وأختها الصغرى مع جدتها وكأن أمنية ريما تحققت بالإقامة مع جدتها خلال الشتاء، حرصت صفية على محاولة التماسك لمساعدة أقاربها في نقل ابنتها لمستشفيات العاصمة….
في سيارة الإسعاف تنام زَهرة بعد إعطائها جرعة كبيرة من المسكنات وترافقها أُمّها التي أبحرت بها الأفكار عن مصير ابنتها وكيف تتدبر مصاريف العلاج حتى يُرجعها صوت فاطمة…” أمي، أمي تريَّحي شوي زَهرة مرتاحة” …
في العاصمة بدأت زَهرة رحلة علاج أقل ما توصف به بأنها أليمة….. أليمة لتأخر استقبال مستشفى لهم بعد ترددهم على عدة مستشفيات، و بطء تدخلهم العلاجي لضعف الإمكانيات، بعد إدخالها لحجرة العناية بأحد المستشفيات لم تكن الإجراءات سريعة فكل شيء يأتي على مهلٍ إلا نوبات الألم التي كانت تعتصر زَهرة لشدتها… غير بعيد تراقب الأم ابنتها بقلبها فلم يسمح لهم بالدخول أو الإقامة معها و اقتصرت على أوقات الزيارة عن بعدٍ و بعد كل زيارة تغادر الأم تاركة قلبها معتصراً عند ابنتها…..لم تشعر صفية بهوان في حياتها كذاك الهوان، و لم يعجز حيلها الضعيف قط عن توفير سبل راحة بناتها أو رعايتهن، و اليوم تعجز عن الكلام و القيام و الحراك و كأنها تعيش كابوساً تنتظر استيقاظه منه…
لم تدرك صفية بؤس الحياة من قبل كما أدركته بعد الحادثة، فالمستشفيات العامة بطيئة الإجراءات والمستشفيات الخاصة غالية التكاليف والمصالح لا تقضى إلا بمعارف ومعارفها أقل من أن يعدوا على الأصابع…. وزهرتها تصارع الألم والمرض ويعصف بها الإهمال والهوان…
قاومت زهرة رحلة العلاج الأليمة، صبرت عليها لتعطي درساً لكل من مر بها أن أقدار الله لطيفة بحكمته ومشيئته بالغة بقدرته وسيمرّ الشتاء ببرودته ومُره، وستعاني زَهرة ما كُتب لها أنّ تعانيه، وستتحمله بالدموع والأنين، كما تحملت أمها ظروف السنين، وستتسخر لها الأقدار نهاية المطاف ليأتي الربيع وتُزهر زهرة من جديد بمشيئة اللّه وقد اشتد عودها وفاح عبيرها معبقاً بطيب الصبر على الوجع والألم. وهكذا هي المواقف في الحياة: مشاهد وأحداث، امتحان وسُيقضى. وكل موقف ومشهد وامتحان سَيُكتب على كُثر ويتجنبه كُثر ليُفرض على آخرين. منهم من يرتفع به ومنهم من يهوي به بعيداً عن الإنسانية، ومنهم من سيعي أن الركام ليس جدران حجرة منهارة، بل الركام ركام وطن عزيز هان على أهله فانهار وقد كان لا يرضى على أهله الهوان فكيف لأهله أن يجعلوه ركام.
الوطن ملئ بالزهرات، والحياة مليئة بالأحداث، وكل منّا زهرة قد تدفنها الظروف ولو كان الوطن وطناً لما شُغِلت زَهرة عن ربيعها بتكاليف الحياة. ولا بد أن نعي أنّ مشيئة الملك القدير ستكون وستزهر الأزهار بميعاد ولو عاث عبيده في ملكه بالفساد …