شخصيات

خليفة التليسي.. والهوية الشعرية

الأديب خليفة التليسي.
الأديب خليفة التليسي. | الصورة: عن الشبكة.

شاعر، ناقد، مؤرّخ، باحث، مترجم، لغوي وصاحب أهم قاموس (إيطالي– عربي) في القرن العشرين، فضلاً عن وضعه سلسلة معاجم عربية بجهود فردية جبّارة، في طليعتها: النفيس من كنوز القواميس: صفوة المتن اللغوي من تاج العروس ومراجعه الكبرى (2001)، وقد عمل خلاله على تنقية مفردات لغة الضاد، من كل ما داخلها من ألفاظ غربيّة وأعجمية. وله كذلك معاجم من نوع آخر، على غرار (معجم سكّان ليبيا)، ومعجم (معارك الجهاد في ليبيا)..

د.خليفة محمد التليسي (1930– 2010م)، هذا الموسوعي العربي الليبي الفذ، والذي يتمتّع باحترام، ليس أغلب مجايليه، ومن لحقهم من أدباء ومثقفي ليبيا فقط، وإنما ينسحب الأمر على نظرائهم العرب على امتداد الوطن العربي الكبير. ومراراً التقيت بالدكتور التليسي، سواء في العاصمة الليبية طرابلس، أو في تونس والرباط، وكذلك في دمشق وبغداد وباريس وروما، التي كان يتردّد عليها بحكم تضلعه في اللغة الإيطالية، ومعرفته الوثيقة بآدابها، الكلاسيكيّة منها والحديثة، وتعمّرت بيني وبينه صداقة ثقافية متينة، حرصت على أن تبقى حيّة ومتوهجة حتى آخر يوم في حياته.

وضع مؤلفنا الكبير نحو (45) كتاباً ومجلداً، توزعت بين الأدب والتاريخ والترجمة والدراسات والمنتخبات الشعرية. كما أسّس مطبوعات ثقافية شتّى، على رأسها مجلة (الرواد)، ومجلة (المرأة). وكان وهو دون سن الثلاثين عاماً، وزيراً للثقافة في ليبيا، أيام حكم الملك إدريس السنوسي، والذي كان يعتبره التليسي ملكاً وطنيّاً وعروبيّاً في الصميم.. يكفي أنه ناضل على الأرض ضد الاحتلال الإيطالي لبلاده، وعيّن من جهة أخرى (شيخ الشهداء) عمر المختار قائداً للجهاد ضد المستعمرين، وكذلك اختاره نائباً له في الحركة السنوسيّة، وهي دعوة صوفيّة ورثها الملك عن أبيه وأجداده، وكان لها امتدادها الإيماني والزهدي الخصوصي على مدى الشمال الإفريقي كلّه، وأجزاء من عمق القارة السمراء.

نغماتٌ من العَلَم

بعثتْ كامن الألم

فإذا القلب ذاهل

وإذا الوجْد يضطرم

وإذا موكب الخيال

يعيد الذي ارتسم

قبل أن يغرب الصبا

قبل أن نعرف السأم

كل شيء بكوننا

نبعُهُ السحب والنغم

كما اهتم هذا الملك المتنوّر بالتعليم، وأنشأ المدارس في عموم أرجاء البلاد، وافتتح الجامعات الكبرى في المدن، وحرص على تعزيزها بأكفأ الكوادر التعليمية، من داخل ليبيا وخارجها. وبحسب د.التليسي، كان الملك إدريس السنوسي مثقفاً وقارئاً من الدرجة الأولى؛ وأنشأ له مكتبة خاصة في مقرّ إقامته في (قصر المنار) في بنغازي، هي الأكبر والأهم بين مكتبات الملوك والرؤساء في العالم. ويردف التليسي بأنه جادل الملك في قضايا ثقافية ملتبسة عدة، أيام كان وزيراً للثقافة، وكانت نتائجها تنمّ عن وعي ثقافي عميق ورفيع لهذا الملك، الذي كان يشجع أيضاً على تدريس الفلسفة، والانفتاح على مصادرها القديمة والحديثة بلا شروط. كما كان يدعو إلى الانفتاح على كلّ التيارات السياسيّة والإيديولوجيّة في العالم، المعادية منها قبل الصديقة والمحايدة، فالمعرفة برأيه هي التي تقود إلى الموقف العقلاني الراجح، وهي التي تهيئ السبل القوية للمواجهة.

نقديّاً، حرص د.التليسي على أن يُصنّف شخصياً بأنه شاعر قبل أي اعتبار آخر؛ فهو كونه قد ترك تراثاً شعرياً مرموقاً خاصاً به، كان قد أنجز مختارات شعرية من التراث العربي، جمعها في خمسة مجلدات، عكست جميعها فهمه للشعر، ومستوى إيغاله الفنّي والرؤيوي المتجاوز فيه؛ ومن فرط اندغامه بصنيعه هذا، صار يظهر وكأنه هو شخصياً صاحب كل هذه الروائع الشعرية التي اختارها.

"النفيس من كنوز القواميس" للأديب الليبي الكبير خليفة التليسي
“النفيس من كنوز القواميس” للأديب الليبي الكبير خليفة التليسي

أكثر من ذلك، قال لي أيضاً، وهو المترجم لأدب الآخرين بتفوق ملحوظ، شعراً ونثراً، إنه إنّما فعل ذلك حتى اللحظة، وما سيفعله في الغد، فلأجل نداء الشعر والشعرية المتدفقة فيه. ترجم مثلاً عن الإيطالية إلى العربية قصائد وقصصاً (للويجي بيرندللو)، كما نقل عن الإنجليزية الأعمال الشعرية الكاملة (لفديريكو غارسيا لوركا)؛ ونقل أيضاً أشعاراً كثيرة للهندي (طاغور)؛ وعلّق على ذلك بالقول: (كنت وأنا أترجم لهؤلاء الكبار، كأنما أكتب إبداعاً لنفسي، ومن نفسي. إنني بكلمات أخرى، أبحث عن ذاتي وشعريّتي في نصوص الآخرين، ثم أتولى تخريج نقلها إلى العربية لاحقاً. والأمر هذا قد يبدو غريباً للبعض، لكنه ليس غريباً البتة بالنسبة إليّ، فأنا يا صديقي أنام بالشعر، وأقوم بالشعر، وأواجه العالم كلّه بالشعر، ولا خلاص لي إلّا بالشعر).

حسناء عمرك في حِسِّي وأفكاري

عمر القصيدة من وحيي وأشعاري

يزيد عمرك عندي كلما ضبطت

دقات إيقاعه أنغام أوتاري

يزيد عمرك عندي كلما رحلت

في عمق نفسك آثامي وأوزاري

وما القصيدة بالنسبة إليك سيدي: هل هي سؤال من مختبر الذات أم جواب؟.. سألته فأجاب: (هي السؤال عينه والجواب عينه.. والشاعر دائماً هو ابن جحيمه الفردي، يحيا فيه ويموت فيه، وليس هناك في النهاية شيء أقوى من هذا الجحيم المطلق). وسألت صديقي الشاعر التليسي عن صديقه الشاعر الإيطالي أوجينو مونتالي (1896– 1981م): (ولماذا لم يترجم قصائد له إلى العربية، علماً أن الأخير كان قد حاز جائزة نوبل للآداب في العام (1975م)، والجائزة هنا ليست سوى عامل يثير فضول كثيرين لقراءة قصائده ليس إلا؟). أجابني: (الصديق مونتالي، ومعه صديق شاعر إيطالي آخر يدعى جوزيبي أونغاريتي (1888– 1970م)، وأضيف إليهما الشاعر الإيطالي الذي لم أتعرف إليه شخصياً سلفاتوري كوازيمودو (1901– 1959م)، باتوا يشكلون ثالوث الحداثة الشعرية الذهبي في إيطاليا، ولهم تأثير ثقافي ساحر في عموم القارة الأوروبية، وحتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.. إزاء ذلك كلّه كنت عازماً على نقل منتخبات شعرية لهم من الإيطالية إلى العربيّة؛ وقد هيّأت بالفعل المادة الشعرية، التي كنت سأتولى الشغل الترجماتي عليها.. لكن سرعان ما واجهتني اعتراضات محبطة من دور نشر إيطالية معنية بنتاج الشعراء المذكورين، فقد طالبوني بتوقيع عقد مسبّق معهم، يتضمن حصولهم على نصف أرباح مبيعات النسخ المترجمة إلى العربية، سواء بيعت أم لم تبع، الأمر الذي أزعجني وأزعج معي كلاً من الصديقين الشاعرين: مونتالي وأونغاريتي. وصدقني إذا قلت لك إنهما كانا أكثر انزعاجاً منّي من جرّاء هذا الجشع الفظ للناشرين الإيطاليين، الأمر الذي جعلني أصرف النظر تلقائياً عن الموضوع… بعد سنوات؛ راجعتْ دور النشر الإيطالية إياها مواقفها المستهجنة، وتقدّمت باعتذار منّي عما كان ارتكبه مسؤولون إداريون سابقون فيها من أخطاء. تفهمت أنا بالطبع هذا الموقف الاعتذاري، لكنني أبلغتهم بأنه لم يعد بمقدوري استئناف هذا المشروع الثقافي الحضاري لأسباب محض صحية، مقلقة وداهمة).

خليفة التليسي.. أيها الصديق الاستثنائي: لن أطلق عليك إلّا لقب الشاعر، والشاعر الكبير أيضاً؛ فأنا (الأعرف بك من نفسك الشاعرة بعينها)، على حد تعبيرك لي بعظمة لسانك.. وتلك لعمري مسؤولية رمزية كبيرة سآخذها على عاتقي باستمرار، وليست أمراً تشريفيّاً فقط.


الشارقة الثقافية | العدد الرابع والثمانون، أكتوبر 2023م.

مقالات ذات علاقة

المسرح على طريقة «علي الفلاح»

أسماء بن سعيد

الشيخ محمد الامام الزنتاني: العالم المجاهد

المشرف العام

لطفي بن موسى «المجدد المبتكر»

المشرف العام

اترك تعليق