الذكرى الـ20 لرحيل الكاتب الليبي كامل حسن المقهور
المكان / اللحظة
تحركت الورقة بين فكي جهاز الفاكس، الذي لفظها دفعة واحدة لتستقر على صحن الفاكس البلاستيكي وتعلن صافرته جهوزيتها. ركضت نحوها بفضول، كانت الصفحة الأولى بخط يده “عزة .. صباح الخير، أتمنى أن تنال القصة أعجابك”! جمعت بقية الأوراق وجلست إلى طاولة مكتبه أقرأها.
كان خطه واضحا ينبئ عن ثقة وهو يرسم الحروف، وكأنه يحفرها فيتكئ على بعض منها. هكذا قرأت قصة والدي – رحمه الله- موت سعد البكوش. بقدر ما نالت هذه القصة إعجابي أثارت استغرابي، فوالدي في تلك الأيام كان في روما رئيسا للوفد الليبي في مؤتمر روما الخاص بمحكمة الجنايات الدولية، فيما القصة بزغت من مفاصل حي الظهرة وتحديدا شارع ضيق يسمى بـ”مقطع الحجر”.
تدور هذه القصة بين سكان الحي الذين فوجئوا بسعد الأبكم والأصم (سعد البكوش) يتكور بردا في الجامع الذي يلجم امتداد الشارع، ثم تنتهي بقتله في ذات الجامع، وبينهما كان سعد يروي بيديه تفاصيل حكايات سكان الشارع كل ليلة لإمام الجامع.. عن الخبايا وقصص العشق وتفاصيل الأجساد المغلفة بالأقمشة. وفي كل فقرة اتعجب من هذه المقدرة على النسج والإبداع في التفاصيل وخبايا الإشارات، هذا الاختزال في الحوار، وهذه المشاهد التي تطلق سراح خيال القارئ وتفتح شهيته للكشف عن التفاصيل ورؤيتها. وبعد حوالي نصف قرن من كتابة القصة ورسم ملامحها الليبية الخاصة حتى عرف بفارس القصة القصيرة ورائدها ما يزال بتواضعه يأمل أن تنال اعجابي!
هذا التواضع الذي زين شخصية والدي رحمه الله ليكون قريبا من الناس، حريصا على سماعهم والانحياز إليهم. لذا، ليس من المستغرب أن يكون في روما، يترأس وفداً رسمياً لمؤتمر مهم، لكن نبضه في قلب طرابلس، يستدعي سعد وآخرين فيأتون إليه تباعا وهم يلحون عليه أن يحكي عنهم ويخلدهم في الذاكرة الجمعية الليبية.
هذه القدرة العجيبة في أن يختزل حي يعج بالشخصيات والأحداث في صفحات معدودة، أو أن يختزل مشاعر في جملة كما فعل في قصته الشهيرة “السلام على منصورة”، حين تلعثم العامل الأميّ الذي يعمل في حقل نفطي بالصحراء، تحت إلحاح رجل غريب طلب منه العامل أن يخط له رسالة لزوجته “منصورة” فقال له في النهاية وبعد معاناة الإفصاح عن مشاعره، أكتب لها “السلام على منصورة”. هكذا أبدع والدي في الكشف عن حب عميق في ثلاث كلمات من بينها أسم الحبيبة. وهنا للاسم دلالات، فالرجل الليبي الذي تنعكس بيئته المحيطة على شخصيته ليصل إلى حد العجز عن التعبير عن مشاعره فلا ينطق باسم زوجته في حضرة الغريب، هذا الليبي كشف بهذه الكلمات الثلاث، ليس عن عذاب الشوق والتوق للقاء فحسب، بل عن كسر هذه الطبيعة الجافة في لحظة حب جامح لينتصر لمنصورة أمام الغريب.
القاص الذي لم يكشف عن نفسه.
لم يكشف لي والدي عن هويته القصصية أبدا.. تركني أكتشفها لوحدي، وأنا أتمعن في عناوين الكتب المتراصة في مكتبه حتى وقعت بين يدي مجموعته القصصية 14 قصة من مدينتي. كان مكتبه فسيحاً ومشمساً، مرتباً وأنيقاً. يقع عند مدخل البيت مقابل الصالون، وكنت في حوالي السادسة من عمري. أحببت الدخول إلى مكتبه الذي وإن كان بابه مقفلا لكنه لم يكن موصدا أبدا، كما لم يمنعنا من دخوله. يمنح الباب المقفل مكتبه هيبة، ويضفي الصمت الذي يغلفه عليه رهبة، والمكتبة التي تتسلق حائطه حتى السقف تجعله عاليا، والصالون الرمادي الصوفي والسجاد الحرير الفارسي، وطاولة الشطرنج المصنوعة من الرخام والمرمر والتحف تجعله دافئا، أما طاولته فكانت مرتبة، وأدراجها غير موصدة، وعلى سطحها سكين فضي لتخليص صفحات الكتب من بعضها البعض، وكوب جامع للأقلام خاصة الرصاص المبراة.
عادة ما أدخل إليه وحدي وقد تكون كلمة أتسلل إليه هي الأقرب إلى شعوري، لم يكن هناك من مانع للدخول سوى مشاعر الرهبة الذاتية، أجلس على كرسي صالونه ولا أجرؤ على الجلوس على كرسيه. كانت هذه الحجرة متفردة وكأنها خارج مبنى البيت الذي يعج بنا وبحركتنا الدائمة.
فيما كان أبي رحمه الله يكتب في أي مكان حين يكون خارج ليبيا، قد يكون مقهى أو صالة فندق كي يكتب عنها، فإنه في طرابلس كان يحرص على الكتابة في حجرة مكتبه. ينهض باكرا على الساعة السادسة صباحا ويكون أول الواصلين إلى مقر عمله. لذا حين انضممت إليه في تأسيس مكتب المحاماة (مكتب المقهور وشركاه) كانت قصصه تجهز باكرا قبل أن يزدحم المكتب بالعاملين أو الموكلين أو المبدعين. أدخل حجرة مكتبي وأتركه في مكتبه وقد تسللت أشعة الشمس إليه من نوافذه المستطيلة فأفردت أجنحتها على كامل الغرفة، حتى أسمعه يناديني ويمد لي مخطوط، “اقريه واعطيه لزينب (سكرتيرته رحمها الله) لطباعته”.
أما في مكتبه بالبيت، فقد رقن فيه على حاسوبه كتاب محطات وهو سيرته (شبه الذاتية) ، يترك الباب موارباً وكأنه يستأنس بضجيجنا، ويخرج لنا بأوراقه يمدها إلى أمي أولاً لتقرأ ثم تدور بيننا. يجلس مسرورا ومرتاحا بعد أن سكب إبداعه بحرص وبراعة على الورق الأبيض المصقول، وهو ينتظر بشكل أساسي وبشيء من التحفز نقد أمي. يهمه جداً رأيها وإن كان غالباً ما يحاول أن يثنيها عنه أو يبرر لها فكرته، لكنها دائما حازمة في نقدها حرصاً عليه، فيما كنت غالباً ما أقف في صفه مستندة على أن الإبداع بلا قيود. وفي كل مرة يعدل من كتاباته بناء على رأي أمي.
التقاطع بين المحاماة والقصة
عرفت باكرا أن والدي محامي، لا أدري متى تحديدا، لكن مهنته كانت غالبة في بيتنا، الصور التي تزين الحائط، وتلك الدمية القماشية التي على رف مكتبته لرجل يرتدي روب المحاماة الأسود ويحمل ملفا تحت ذراعه. لم أر أبي محملاً بالملفات ولم تكن طاولة مكتبه تحملها. لكن أحاديث كثيرة تسري من حولي حول مهنته وشهرته. حتى جاء ذلك اليوم الذي ظهر فيه أبي على التلفاز الأبيض والأسود، كان أفراد العائلة جالسون بتأهب واهتمام شديدين أمامه، وأحاديثهم الهامسة هذه المرة عن محكمة الشعب ومحاكمة رجال النظام الملكي. جلست بالقرب من جدتي التي رأيت في عينيها لمعاناً أقرب إلى النصر حين ظهر والدي مترافعا وإلى يمينه قفص كبير يعج بالرجال.. وقف أمام هيئة المحكمة طالبا منها اعتذاراً عما بدر من رئيسها حين قال “هيا استرزقوا يا محامين”، وكان له الاعتذار الذي بثه التلفزيون مباشرة.. وهنا انتفض الجميع فرحا وانتصارا.
حين طلب مني بدماثته المعتادة ودون أي ضغط أن أنضم إليه في تأسيس مكتب المحاماة، ترددت لكنني سرعان ما لبيت دعوته. وحينها كان عليّ أن أجري خلفه، وأن ألهث بخطاي وأنا أحاول اللحاق به. حينها تعلمت أول درس لي، إما أن أجتهد وأن التقط بسرعة أوراقه المتلاحقة، أقرأها وأحاول جاهدة أن أفهم المطلوب منيّ، أو أن يقوم بنفسه بكل شيء دون أي تردد. كان عليّ أن أثبت له حاجته ليّ، فيما هو على قناعة من أن لا حاجة له إلا لمن يعد له القهوة في المكتب.
ثم جاء ذلك اليوم الذي أرسل لي رسالة خطية موقعة منه بتسليمي المكتب “لأن الإنسان لا يسلم ما يحب إلا لمن يستحقه” فبكيت.
تعلمت منه، تذوقت الأدب في مرافعاته، والهمة في التزاماته، والإبداع في عمله. كان والدي يسابق زمنه، ويسبق أقرانه، يتعلم بصبر كل جديد، فقد تجد قصة في مرافعته، أو جملة من فيلم مصور، أو اقتباس لمصطلح لاتيني، كل ذلك وهو يلتزم بالنص ولا يفارقه لكنه يطوعه ويبحث عن روحه ومقصده والمصلحة المرسلّة من ورائه.
تعلمت منه أن القانون بالأساس وقائع، يقول والدي في مقاله (المحاماة مهنة وسلوك)[1] أن “مهمة المحامي بسط الواقعة تمهيدا لإنزال حكم القانون فيها”، وهنا دور المحامي في استجلاء الوقائع والبحث عنها وتتبعها ورصدها وكتابتها بتسلسل وعناية -وهو المجهود الحقيقي-، ثم يأتي دور القانون. وهنا ايضا يتقاطع الأدب مع القانون عند والدي، فما الوقائع إلا قصة قصيرة تختزل كل التفاصيل وهي لب الإقناع ومخلب الألباب.
يقف والدي أمام هيئة المحكمة فتغص القاعة لتستمع إلى مرافعاته التي تختلف عن مذكرة الدفاع، وهو الدرس الثاني الذي تعلمته بأن عليّ أن أعد مرافعة خاصة مختزلة ترتكز على الوقائع فيها إبداع المحامي الذي يختصر ويقنع ويؤثر ويبرز وسط الجموع.
شاهدته يترافع أمام محكمة العدل الدولية بلغة إنجليزية، لكن بذات الروح التي يترافع فيها أمام محكمة وطنية، فهو يخفض من صوته ثم يعلو به، ويحرك يديه، وينظر إلى القضاة مباشرة ويعرض عليهم الوقائع التي أعدها بعد عمل مضن وبحث في التفاصيل وروح وثابة لقضية وطن يؤمن به وبسيادته وبمساواته مع بلدان تتفوق عليه لكنها تقف على درجة واحدة أمام القانون.
وبقدر اعتزازه بمهنته واستمتاعه بآدائها، بقدر حنين خافت يهتف في قلبه بترك مساحة للأدب.. لذا كان الصباح وخفوته في مكتبه للمحاماة، والمساء وعطره المتسلل إلى مكتبه بالبيت أفضل الأوقات للاستجابة لهتاف قلبه من أجل الكتابة.
الهوية الليبية (المحلية)
يطرح البعض الأسئلة التالية، لماذا أغلب قصص كامل حسن المقهور رحمه الله تستوطن حي الظهرة بمدينة طرابلس؟ ولماذا الحوار في قصصه باللهجة العامية؟
لم ينشد والدي العالمية، كان محليا منحازا للوطن وعاشقا لأهله. لذا كتب عنهم الكثير، وخص بهذه الشخصيات من الاحياء منهم والأموات كتابا بعنوان (عن الناس وهموم الثقافة) الذي أهداه إلى الوطن وآله.
أما شخصيات قصصه التي تمشي في حواري مدينته بفقرها وعوزها وقهرها وكفاحها، فقد خلدها وحان الوقت للكشف عنها. ذلك أنه ومن وجهة نظري، أن أحفاد تلك الشخصيات نراها اليوم بذات البؤس تجوب شوارع المدينة بعد أن مزقتها الحرب.
أن الأوان لاستحضار قصص كامل المقهور التي رسمت الشخصية الليبية في ظروف قاهرة وصعبة، تسير دون هدف أو أمل سوى أن تتدبر عشاء يومها، حتى تفجر النفط في صحرائها، لكنه كان مرة أخرى منال طبقة معينة وجذب لنفوذ أجنبي جديد.
أعجب والدي بكتب الدكتور جمال حمدان خاصة كتابه شخصية مصر (دراسة في عبقرية المكان). كان والدي مقتنعا بأهمية الجغرافيا في تكوين وصقل الشخصية الليبية المحلية فالتاريخ كما يقول حمدان “هو لسان الجغرافيا”. إن أهمية المكان هي في بث الروح في الذين يعيشون فيه، فالمكان يكون بمن يعيش عليه وهو ذاته المؤثر فيهم.
لذلك تجد هذه الشخصيات اللصيقة بالمكان في قصص كامل المقهور، والتي لا يمكن انتزاعها منه أو وصف المكان بدونها.
وهنا يحضرني كيف اهتم كامل المقهور بالجانب التاريخي في دعوى الخلاف الترابي ما بين ليبيا وتشاد (1991-1994)، حيث تولى رئاسة فريق الدفاع، وعمل بمهنية على سرد وتقديم التاريخ في هذه المنطقة بموضوعية واعية، جلس بمكتبه لأشهر وهو منكب على قراءة مكتبة كاملة باللغات العربية والانجليزية والفرنسية، عن تاريخ المنطقة الحدودية وامتداداتها جغرافيا وتاريخيا، وأحال نسخة منها لمكتبة الخارجية الليبية. أتمنى اليوم من قلبي أن تترجم صحيفة الدعوى ومذكرات الدفاع التي تقدم بها الجانب الليبي إلى اللغة العربية والتي ستكون عونا في تقديم تاريخ بلادنا لطلبة المدارس والعامة بما يؤهلهم لفهم رقعتنا الجغرافية وسكانها كوسيلة لتجذير الانتماء وبسط المحبة ونبذ الكراهية والعنف التي خلفتها الحرب اللعينة.
اليوم، ونحن نستدعي ذكرى كامل حسن المقهور، فإنني أدعو إلى إعادة فتح القصة القصيرة لوالدي كامل حسن المقهور ليس باستدعاء الماضي والحنين إليه، بل بهدف فهم المكان/ الإقليم الذي نعيش عليه معا داخل تلك الحدود، والمشترك الذي يجمعنا، والشخصية الليبية التي حفرها المكان وانطقها الزمان حتى وإن كان بلحن متعدد… فقصة الخائفون تتكرر في ذات المكان وخليفة يبحث عن “الريفودجو” وهو يحتضن صغيره ويصرخ صرخة تشق الحي لفقده، و مسعود الذي ” يقبض بيديه على الأرض في عنف ويقول في حدة تقطع القلب إلى نصفين: – خيره جدي ما باعش.. جدي كان زينا ما عنداش فلوس”، وصرخة خالتي “الزينة” في “مقطع الحجر” وهي تمد الملعقة الخشب طلبا لبعض طماطم المعجون وبعض البزار والزيت في سوق الظهرة، السنا أحفاد هؤلاء؟
حان الوقت لإعادة قراءة أعمال والدي كامل حسن المقهور الأدبية لتعميق الشخصية الليبية (المحلية) في مواجهة النزاعات وتبعاتها. فوالدي رحمه الله آمن بأن ” الإنسان لا يموت.. حتى الإنسان الصغير لا يموت.. ففي أعماقه تولد الشمس”[2] وبهذه الكلمات أمن والدي ببني وطنه، الليبي الذي تولد الشمس في أعماقه.
عزة كامل المقهور
1. 12. 2022
[1] نشر هذا المقال في كتابه عن الناس وهموم الثقافة، وفي كتاب الإعمال الكاملة لكامل حسن المقهور المنشور عن دار الرواد/ الجزء الأول، صفحة 494
[2] قصة “عمران اللي شدوه” من مجموعة 14 قصة من مدينتي.