حوارات

المترجم طه زيادة : أتناول في الترجمة ما يتفق ويختلف مع توجهاتي

المترجم “طه زيادة”

طرح الفيلسوف والمفكر الأمريكي “جورج ستاينر” قبل سنوات من رحيله متسائلا عما كيف سيكون عليه حال إذا غابت الترجمة مؤكدا بأنه لولا الترجمة لكنا نعيش في مناطق يسودها الصمت ليعود في موضع آخر واصفا أن الترجمة جعلت منه متحررا من قيود الحدود الضيقة، نعم فمذ اهتدى الإنسان الأول إلى النقش على صخور الكهوف اكتشف الأهمية القصوى لحتمية الترجمة فكانت البداية مع الألوان التي عكست أجزاءً واسعةً من أغوار النفس البشرية ليمر فعل هذا الاكتشاف بعدة أطوار ومراحل تطورية وضع فيها الإنسان يديه على الكتابة متمكنا من التعبير، وترجمة انفعالاته العقلية والعاطفية على الورق ففعل الترجمة والنقل من لغة إلى لغة أخرى أخذ يجرى صدى ضرورته كلما ارتقى الإنسان سُلم النهوض والتقدم لتشكل خلاله الترجمة وسيلة مُثلى للتبادل الحضاري والإنساني بين الجماعات البشرية في جميع أنحاء المعمورة، ولعل الترجمة ومن قبلها الكتابة جاءتا نتيجة موضوعية لشعور الخوف الأزلي المستبد بالإنسان تجاه ما حوله لاسيما نحو الآخر الذي مازالت تصنفه بعض الثقافات في خانة العدو، ولتبديد هذه المخاوف أو تهذيب تمددها حققت الترجمة شرط بقائها حتى اليوم.

ويحل الكاتب والمترجم المصري “طه زيادة” ضيفا على موقع الطيوب الذي يشير في معرض حديثه بأن الهدف الحقيقي من الترجمة هو نقل الثقافة مع الحفاظ على التفاوت الثقافي، لكن ليس تذويبه. فنقل الثقافة يجعل القارئ مطلعا ومدركا لأبعاد ثقافة الآخر، وطه زيادة من مواليد القاهرة بمصر عام 1971م، درس اللغة الإسبانية بكلية الآداب جامعة القاهرة صدرت له عدة ترجمات نذكر منها : (رحلة مصر وسوريا وفلسطين 1927-1928) للكاتب “إيمليو جارثيا جوميث”، ورواية (شجار قطط مدريد 1936) للكاتب الإسباني “إدواردو مندوثا” ، ورواية (الانفصال) للكاتبة الأرجنتينية “سيلفيا أرازي”، ورواية (ماذا يحدث في كتالونيا) للكاتب الإسباني “إدواردو مندوثا”، وكتاب (تاريخ الكذب) للكاتب الإسباني “خوان رنخيل”.

لماذا ارتبطت جذور الترجمة الأولى بالبُعد العقائدي ؟


أتصور ارتباط الترجمة بالنصوص المقدسة، خاصة العهدين القديم والجديد، وقد أدى ذلك إلى مشاكل كثيرة في الثقافة الغربية، ومنها الترجمة الحرفية، لحرص القائمين على النشاط نفسه عدم حدوث تحريف للنص المقدس، مما أدى في النهاية لظهور الترجمة الحرفية، أو كلمة مقابل كلمة، لنشهد في النهاية منتجا مشوهاً إما عن قصد أو دون قصد، نظرا لأنه لو افترضنا أن كل لغة هي شيفرة أو كود مستقل بذاته، فيجب أن نسلم بتفرد كل لغة في مضمونها ومحتواها الفكري الذي تعبر من خلاله عن ثقافة المتحدثين بها، ومن ثم لا يمكن أن تتطابق شفرتان مطلقاً، ومن هنا ظهرت مشكلة أخرى وهي المترجم الخائن، لأن تحريفه للنص المقدس كان ضرورة لكي يستقيم المعني بين اللغة المصدر ولغة المنتهى أو النص النهائي في ثقافة المستقبل الجديد، فكانت الخيانة ضرورة، وإن دفع المترجمون ثمنا باهظا لما اقترفوه من خير لكي تفهم المعاني. يجب أن نعلم أيضا أن الترجمة ارتبطت في الشرق والغرب بالبعد الديني، كما سبق أن أشرنا، وينبغي أن ننوه بنموذج المحسن الكريم في الثقافة العربية، حينما أوقف الخليفة المأمون للمترجمين وكفل دخولهم لكي يتفرغوا للعمل الترجمي وكانت المحصلة عظيمة كما تشهد عليها إنجازات بيت الحكمة في عصره. ونشيد أيضاً بإنجاز الملك الإسباني الفونسو العاشر الملقب بالعالم حينما جمع في بلاطه بمدينة طليلطة علماء ومترجمين من الديانات الثلاثة، وكيف أدى التعايش إلى إثراء الحركة العلمية والثقافية والفكرية في عصره.

ما هي أبرز الصعوبات التي تواجه المترجم العربي ؟


أبرزها على الإطلاق، قبل الحقوق المالية والفكرية هو عدم وجود مشروع علمي واضح متكامل لنقل الثقافة أو لجعل الثقافة العربية تواكب منجزات ثقافات أخرى، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد. نتمنى وجود مثل هذا المشروع، كما نتمنى أن يكون هناك اتجاه لترجمة ثقافتنا ليقدمها بالصورة التي تستحقها ولتغيير الصورة النمطية عن هذه الثقافة لدى مجتمعات أخرى.

هل يعي المترجم العربي حجم التحديات اليوم ؟


أتصور أن العاملين في مجال الترجمة وخاصة الإسبانية، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، من مصر والعالم العربي: أحمد حسان، صالح علماني، محمد الفولي، عبد الهادي سعدون، أحمد عبد اللطيف، على المنوفي، محمود علي مكي، محمد أبو العطا، بسام البزاز، عبير عبد الحافظ، جيهان أمين، مارك جمال، أحمد الرفاعي، محمد حكام، وغيرهم كثير من أجيال متفاوتة وأعمار وتجارب مختلفة، أفرزت عشرات بل مئات الأعمال المكتوبة بلغة ثربانتيس، على اختلاف توجهات كتابها السياسية والفكرية والثقافية، كما تجدر الإشارة إلى أنه إحدى عشر أديباً من إسبانيا وأمريكا اللاتينية حصلوا على جوائز نوبل في الأدب، بمختلف أجناسه، وهي معطيات مهمة اعتقد أن المترجمين الذين انخرطوا في هذه اللغة على وعي كامل بها ويتعاملون مع منعطفاتها بروح حقيقية هدفها نقل روافد هذه الثقافة الثرية المتنوعة، على الرغم من اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم. يبقى أن التحديات لا تنتهي ولكن يظل الكفاح مستمرا من أجل مشروع ترجمي يستوعب إفرازات ثقافة هذه اللغة وغيرها من اللغات لنكون منتجين للثقافة وليس مجرد مستهلكين لها. هناك تحديات أخرى تفرضها الأوضاع المجتمعية، والظروف الاقتصادية، والبعد الثقافي الأخلاقي الديني، واعتقد أن أغلب المترجمين يعونها، ونحيل الأمر إلى عصر المأمون أيضا حين ترجمت أعمال تخالف الدين والعقيدة والثقافة الإسلامية، ولم يضر ذلك بحالنا وقتها، فأنا أؤكد أنني مع الانفتاح على ذلك، وهناك أيضا البعد الاقتصادي، وهو تحدي كبير بالنسبة للمترجم والناشر على حد سواء، والذي قد يدفع البعض للانسياق وراء أنماط من النصوص دون غيرها وهو أمر له عواقب كبيرة.

مالذي استفزك في كتاب تاريخ الكذب كي تترجمه ؟


الموضوع في حد ذاته، وميلي كمترجم إلى البحث عن أعمال مختلفة، تنقل فكرا وثقافة تثري مجتماعتنا ولنرى كيف يفكر غيرنا في إشكاليات جدلية تثير جدلا لدينا ولدى ثقافة الآخر أيضا. بالإضافة إلى سعة ثقافة المؤلف وقدرته العجيبة على إيجاز معارف وتسلسل أفكار بصورة زمنية عميقة دون الإيغال في تفاصيل، ومع ذلك عبر عن فكرته بشكل واف وسلس.

الهدف الجوهري من الترجمة هو تذويب التفاوت الثقافي بين الشعوب كيف نُفسِّر النتائج العكسية لهذا الهدف ؟


نعم فهدف الترجمة هو نقل الثقافة، مع الحفاظ على التفاوت الثقافي، لكن ليس تذويبه. نقل الثقافة يجعل القارئ مطلعا ومدركا لأبعاد ثقافة الآخر، فينهل منها ما يشاء ويتفق مع ما يشاء ويترك مع ما يشاء. وهنا أود الإشارة إلى معضلة أساسية في عملية نقل الثقافة، ألا وهي أنني في المقام الأول، أتناول ما يتفق وما يختلف مع توجهاتي على حد سواء، ومن ثم فأنا لا أترجم لكي أثبت صواب أفكار ومحصلة معارفي، بل أعيد اكتشافها في كل مرة من منظور وتوجه فكري وقالب إنساني مغاير فأعدل وأراجع ما يلزم، حتى لا أقع في فخ الجمود والاستقرار، لأن المعرفة القائمة على الترجمة والانفتاح على ثقافات أخرى تعد عملية تلقي مستمرة وفي فوران دائم عدوها الأول الجمود القائم على اليقين غير القابل للتطور . اعتقد أن وجود مشروع ترجمي واضح المعالم قد يسهم في تجاوز هذه الإشكالية ولو بصورة جزئية.

هل حقا يصعب الاقتراب من ترجمة النص الأصلي ؟


لا أدري حقا مغزى السؤال. لكن أتصور أن اللغات هي شيفرات غير متطابقة، ومن ثم تحوي أوعية ثقافات مختلفة، يجب على كل مترجم أن يحترمها ويتعامل معها بخبرة ودقة وحيادية، وفق معطيات كل نص وظروفه اللغوية والثقافية والتاريخية والسياسية، والأمثلة كثيرة، ولكن هذا لا يمنع من حدوث أخطاء في الفهم تؤدي إلى أخطاء في التناول والطرح، ومن هنا تكمن أهمية وجود ترجمات متعددة لنفس العمل، فعلى سبيل المثال هناك أكثر من ترجمة لرواية ثربانتيس دون كيخوتة، ورواية المكسيكي خوان رولفو، “بدرو بارامو”، أو رواية الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز “مائة عام من العزلة”.

ماهي الأدوات الضرورية التي يحتاجها المترجم ؟


أعتقد أنه مع الثورة الرقمية وتوافر القواميس باختلاف أنواعها، فضلا عن الذكاء الاصطناعي، تظل المعرفة القائمة على الخبرة والتأهيل الجيد للمترجم من أهم الأدوات للحصول على منتج ترجمي قيم، يبقى أيضا الاطلاع على آخر التطورات والإنجازات التي تطرأ على التيارات الأدبية ومدى ارتباطها بالأزمات الحياتية فبعد جيل الواقعية السحرية، ظهر في أواخر التسعينييات جيل “الشرخ” أو الانفصال “الكراك” المرتبط بالفورة الاقتصادية في أمريكا اللاتينية وإسبانيا وكان أعلامه في المكسيك وبيرو وتشيلي، ولم يترجم من إبداعهم إلا القليل، وهناك أيضا جيل الأزمة المالية في 2008 وهذا مرتبط بنا بشكل وثيق، وإن لم توثق الأصوات الأدبية الجديدة الربيع العربي أو التغيرات التي تشهدها المكسيك والبرازيل في العقد الثاني من الألفية.

برأيك هل توحيد جهود المترجمين العرب كفيل بالنهوض بالمعدل المتدني للترجمات ؟


أعتقد أن الأجدى وجود مشروع متناسق ويحظى بإجماع ويشمل كل هموم وقلق المترجمين قد يسهم في ذلك

كلمة أخيرة :-


الترجمة هي البلورة السحرية وهي البساط الطائر وعالم الأحلام الذي سيظل يحلق بنا في أفاق بعيدة بين في بحار الثقافة العجيبة والذكية بين ضفتي كتاب. سيظل العالم يذكر معارك أدبية وأساطير فلسفية وخرافية تناقلها الكلاسيكون وطرحها المسلمون وتداولها الأوروبيون وحداثة قامت عليها حضارة صنعت الحلم كما صنعت القنابل من خلال فكرة كتبت بلغة غير مفهومة ونقلها جندي مجهول “ترانس-ليتور” لعوالم أخرى، فرأوا بعين آدم يوم الاختبار المعروض على الملائكة فأنبئوا بكل الأسماء، فسبحان من له الدوام وله العلم السرمدي والوجود الأزلي.

مقالات ذات علاقة

عوض الشاعري لـ «الوسط»: جدتي غرست في كياني بذور الحكي

المشرف العام

عائشة إبراهيم: إلى وقت قريب كنت لا أتخيل أنني أملك الجرأة لكتابة رواية

المشرف العام

فرج بوفاخرة لـ«الوسط»: أشكر كل من ساهم في عودة المؤسسة العامة للسينما والمسرح

عبدالسلام الفقهي

اترك تعليق