سيرة شخصيات

25 مايو ذكرى وفاة الأب المُؤسس لدولة ليبيا الحديثة

ملك ليبيا، إدريس السنوسي
ملك ليبيا، إدريس السنوسي

الذكرى الواحدة والأربعون لوفاة الملك إدريس السنوسي الذي نمــا على يديــه الـرَّخــاء فكـان عهــد اليســـر عهـــده (1) 

تصادف السبت الذكرى الواحدة والأربعون لوفاة جلالة المغفور له الملك إدريس المهدي السنوسي طيب الله ثراه. 

في مثل هذا اليوم منذ 41 عاماً، وفي يـوم الخامس والعشرين من شهر مايو، فارقنا الأب المُؤسس لدولة ليبيا الحديثة، والذي نما على يديه الرَّخاء فكان عهد اليسر عهده، الملك إدريس السنوسي المولود في الثاني عشر من شهر مارس العام 1890م، والمُتوفى فِي ديار المهجر في 25 مايو 1983م.

لم يأت الملك إدريس إِلى السلطة فجأة أو صدفة، فقد كانت هُنالك خمسة وثلاثون عاماً قبل تتويجه ملكاً على البلاد من البذل والعطاء المتواصل وقيادة العمل النضالـي والسياسي، وهو سليل الفاتحين ومن أسرة كان لها الفضل في مقاومة المستعمر في ليبيا وغيرها من البلدان، وفي نشر الإسلام في إفريقيا إِلى بلاد تشاد، ودار فور، وغيرها من أقطار بوسط إفريقيا.

لم يتوج الإدريسي ملكاً على ليبيا بالغزو والإجبار والإكراه، ولا بسرقة العرش والاستيلاء على السلطة بقوَّة السلاح، ولا بالسيطرة على مبنى الإذاعة وبث البيان الأوَّل كما فعل ذلك الملازم الذي قلب حيَاة الليبيين مِن النعيم إِلى الجحيم. ولم يذهب بقوَّاته غرباً أو جنوباً ليجبر إقليماً على أن يُفوّضوه أو يُبايعوه أو يُتوِّجُوه سلطاناً عليهم، إنّما الأخرون جاءوه إِلى مقر إقامته وطالبوه بأن يتحدث باسمهم وفوضوه بذلك، ثمّ بايعوه أميراً وبعدها ملكاً على البلاد.

لم يسع الملك إدريس يوماً إلى السلطة، إنّما وصل إِلى المكان الذي تبوأه برضا النَّاس وتفويضهم ومبايعتهم في بيعات معروفة مشهودة، فتمّت البيعة الأولى في 28 يوليو 1922م، والبيعة الثانية تمّت في مؤتمر عُقد بمدينة الإسكندريّة في أكتوبر 1939م، والبيعة الثالثة رفعها إليه جميع الأحزاب السياسية في 16 يونيو 1944م، ويضاف إِلى البيعات الثلاث تأكيد الثقة وتجديدها في اجتماع 9 أغسطس 1940م بالقاهرة، ثم بيعة الجمعية الوطنية التأسيسية «لجنة الستين» عقب وضع الدستور والمناداة به ملكاً على البلاد في أكتوبر 1951م.

لم يتمسك بالسلطة في يومٍ من الأيام، لأنه كان يخاف ربه ويخشاه ولا يريد أن تكون السلطة في الآخرةِ خزياً وندامةً، فكان الزهد أهمّ السمات التي شكلت شخصيته، والّتي لمسها عنده كلّ مَنْ اقترب منه أو تعامل معه، ومُنذ وقت مبكر جدَّاً. ولم يكن من عشاق الشهرة والأضواء والميكروفونات، ولا من محبي المديـح والإطراء وكثرة الكلام، حيث كان يعمل في صمت دون ضجيج أو دعاية لشخصه، لأنه كان يبتغي مرضاة الله ومصلحة وطنه ومواطنيه.

لم يكن الملك إدريس انقلابياً ليقلب حياة النَّاس رأساً على عقب لأجل الكرسي الذي يجلس عليه غير عابئ بمصالح الشعب، وسيادة واستقلال ليبيا، أو يُخل بالميزان الاجتماعي لصالح حساباته الخاصة، أو يجعل مجتمعه يغرق فِي الجهالة والتخلف لينعم هو ودائرته فقط بالرفاهية دون سواهم من البشر. لقد كان محباً للخير، وساعياً للعمران والتطوير ومواكبة النهضة، وقلبه متسعاً عامراً بالمحبة لله والنَّاس، وغايته أن يرى أبناء أمته سعداء متمتعين بحريتهم وعيشة رغدة كريمة، منطلقاً من قناعة أن الليبيين دفعوا مهوراً غالية من أجل رفع الظلم عنهم وتأسيس دولتهم، وعانوا زمناً طويلاً وأكثر من أيِّ شعب آخر، وآن لهم أن يستريحوا ويعوضوا ما فاتهم في سنوات عمرهم الماضية.

لم يعتدِ على المال العام في حياته قـط، وكان يخاف أن يبتلى بدّمَّ إنسان ويحمله برقبته، وكان حريصاً على دماء شعبه، وتجنيب ليبيا وشعبها ويلات الحرب، فلم يكن له هدف سوى أن يلقى ربه راضياً مرضيّاً، وأن تحيا بلاده عزيزة مكرمة في ظلِّ نظام دستوري يحمي الحقوق والحريات وتسوده قيم العدالة والحريّة والوئام بعيداً عَن الحروب ومآسيها وويلاتها.

لم ينحز الإدريسي لطرف على حساب طرف آخر في القضيّة الليبية، وكان وحدوياً حينما كان الحديث باسم الإقليم هُو الأعلى والسائد وقتئذ، وقد أخبرني محمود شمّام أن قناته الفضائيّة «الوسط» تحصلت مؤخراً على مجموعة من الوثائق السريّة البريطانية، والّتي تكشف بما لا يدع مجالاً للشك أن السيد إدريس كان الأحرص على جمع أقاليم البلاد الثلاثة فِي كيان واحـد، وإعلان دولة ليبَيا الواحدة الموحــدة.

لم يجعل حكوماته المتعاقبة تخضع للمحاصصة أبداً، وإن راعى التوازن المناطقي أحياناً، وحرص على أن يكون للرموز الوطنية وأصحاب السجل الحافل بالمواقف والتضحيات مكان ظاهر بيِّن. كذلك، حرَّر السلطة من شيئين هامين هما: «العائلة والقبيلة»، اﻟﻟﺘان أعادنا إليهما معمّر القذّافي، ولم نستطع التخلص منهما بعْد. 

لم يتدخل الملك إدريس يوماً في أعمال السلطة التنفيذية وجعل المسافة بينه وبينها ظاهرة، ومنح كُلِّ مسؤول صلاحيّاته كاملــة دون نقصـان.. ولا تدخل يوماً في أعمال السلطة القضائية، لدرجة أن القضاء أبطل مرسوماً من مراسيمه، وكان ذلك في 9 مارس 1954م حينما نظرت المحكمة الاتحادية في الطعن على المرسوم الملكي الصّادر فِي 19 يناير 1954م والقاضي بحل المجلس التشريعي لولاية طرابلس، والمُقدم مِن المحامي علي الديب رئيس المجلس التشريعي بولايّة طرابلس.

حكم الملك إدريس ثمانية عشر عاماً، وعاش تجربة المنفى مرَّتين، الأولى في زمن الاحتلال الإيطالـي، والثانيّة بعْد استيلاء معمّر القذّافي على السلطـة. وعاشت ليبيا في عهده أبهى عصـورها، ولم يعرف المواطن الليبي الظلم والاضطهاد طوال سنوات عهده الميمون.

عاش أربعة وتسعين عاماً، وكان طوال حياته معززاً مكرماً ولم يتأثر بفقدان تيجان الملكيّة، حيث كان قريباً من ربه ويعيش دائماً حياة متواضعة، ولم تبهره السلطة يوماً ولا شعر بالأسف لفقدانها.

دخل إِلى مستشفى «مصر الدولي» القريب من مقر سكنه بحي الدّقي مساء يوم 23 مايو 1983م وانتقل إِلى رحمة الله يوم 25 مايو 1983م، ودُفـن بالبقيع.

أرسلت الحكومة المصرية جثمانه الطاهر في طائرة خاصة إِلى السعوديّة بناءً على وصية كتبها بعد موسم الحج في العام 1977م بعد لقاء جمعه بالملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود وحصوله على وعد منه يقضي بسماح السعودية متى حانت المنية لجسده الطاهر أن يدفن في أرض البقيع الطاهرة بالمدينة المنورة، وقد دُفن بالبقيـع بالقرب من قبر جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي «تجيوف الربوة» المدفون بها رجال آل البيت الشّريف وابن عمّه الإمام المجاهد أحمد الشّريف السنوسي وعدد من الشهداء.

نضّر اللهُ ثرىً وُسدَتُه *** يَومَ قد أسلمت للهِ مُنِيَبا

وتخيّرتَ جِواَراً طَاهراً *** يَمنحُ الأبرارَ إيناساً وطِيَبا

فأرح نفسَكَ من أوصَابها *** وأسألِ اللهَ دُعـاءً لن يخـيبا (2)

رحم الله الملك إدريس السنوسي في ذِكْرَاه الثامنة والثلاثين، وسلام وتحِيَّة إِلى رُوحه الشَريفة الطَّاهرة في علياء ملكُوتِهَا.

السبت الموافق 25 مايو 2024م


(1) لقد سبق وأن نشرت هذه المقالة فِي صفحتي بالفيسبوك، فِي الذكرى 36 لرحيل الملك إدريس، والذكرى 38 والذكرى 39 المنشورة بتاريخ 25 مايو 2022م .  

(2) أبيات القصيدة: الأبيات أعلى الصفحة هي الثلاثة أبيات الأخيرة من قصيدة «يا أبا الدستور» للشاعر راشد الزبير السنوسي.

مقالات ذات علاقة

رائد الاغنية الليبية علي الشعالية… من الريادة إلى هاجس المقام الليبي

هليل البيجو

عام رابع على رحيل الموسوعي وهبي البوري

محمد الأصفر

كل يوم شخصية ليبية مشرقة. (2) خديجة الجهمي

حسين بن مادي

2 تعليقات

شرف الدين الزيتوني 26 مايو, 2024 at 22:04

رحم الله إدريس الأول الرجل الصالح والملك المؤسس وجزاه عن ليبيا والليبيين والعرب والمسلمين خير الجزاء أعلى مراتب الجنة مع من يحب .

رد
المشرف العام 27 مايو, 2024 at 04:25

اللهم اغفر له وارحمه…

نشكر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق