قصة

رهينة

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

1- أرتمت المدينة في حضن الليل الصامت علّها تلثم المساء الخاطف قبل أنْ يهطل المطر، تغرق في ظلمة مسافرة إلى سفوح الروابي البرية في ليلة غامضة، عندها من السّر ما تفرح به اتربة الصخور وجدائل صقيع الخريف، ظلمةُ تسري نحو دجى المجهول، إلا من أصوات بعض القطط الطليقة الشاردة بلا كلل ولا تعب تجوب ازقة وشوارع المدينة هائمة حرّة طليقة في شغلٍ عن الدّنيا تجوع رهنَ التسول والخوف في الليل المجهول ورهن العيون الفضولية، تمضي إلى مدينة النّوى فتمضي بين عرائشها و في المغارب تبطن المواء ولا تبوح به كتماناً عن الليالي الثقال، ومن بعيد يُقبل عويل الريح من تلك الروابي خلف النخيل وظلاله الوارفة، يسري في هديرٍ لا يعرف التعب يتدلى دون دليل مترع بالدهشة، يسابق مواء القطط الخاطف في مهاجعِ ليلِ جائعٍ يحنّ لراعيات الجمال والحسن، يبحث عن غاية الدّرب وعن السّر المكنون في المكنون، وهذا الليل المخملي البهيج يناغيه الورد والريحان، لم ينبس بكلمة إلا بالصمت وفي كفه أسرار لا تفارق الأصيل..

2- غاية الفرح المغادر من وكرهِ صمتٌ في دقائق لعينة رابضة على الحيرة تستمع لحكاية المُغرّد الأسير في وكنات آخر الليل، جاء وفي جيبه حفنة تمائم من النجوى تفتح القلب لنجيّ الأنجم الصغيرة.. والمدينة هكذا كعادتها تسبح في أحلام الأيام الوديعة لا تكشف عن الأستار في ليليها المتوالية ولا ترفع الحجُب السارية فيها إلا لذي علم الناس بمواقع الحروف وساعة الأصيل وساعة هطول السحائب، مدينةٌ تفتخر بنقاء هوائها و جمال وصفاء سمائها وطيب أرضها و غالب الأحيان تهتز طرباً لشاعرية قمرها و بهاء حسن بستانيها وترى المجهول من وراء نقابها، ومن وراء مشارفها البعيدة، لا تخشى غدر الزمان وتقلب احواله، ومع كل غروب شمسٍ تهفو لنسمة صيف ستناجي النجوم النّعسَة و تناغي الزهر وشذاه، هي مدينة كأنّها عرّافه الأغوار تمتلك سرّ البحر والرمل و الليل وترنو للسماء بقلب شفيف طاف كلّ الأزمنة وخَبَرها.. مدينة تملأ الفجر في اعيادها بالتكبير والتسبيح والتهليل.. يشرب من مياه سواقيها ويرتوي الظامئون، ومن أجل واديها وسط المدينة تَخضرّ الأحراش في أوقات الجفاف..

3- والسماء الآن مليئة بالنجوم الرائقة ونسمة باردة تُبعث منها عبر الظلام أريجَ قدوم زحف المساء حاملاً في طياته حديث الأسحار مَبعثهُ خفيّ عن المدينة المثقلة بمواقع السنين والأيام وهطول الأمطار، والسفر الخاطف، وعشبها المزنر بالبلّل، تزور في منتصف النوم الطلسم المأسور في قفص الذهول، تُنشد فتح مَغالقه وتطرح للتائهين السلام ومع سحر الدفوف في الزوايا تسأل الغيب أنْ يحميها من العيون…

4- “فاسريا” على إشارات الغربة درويش معجون من الحزن والفرح والصمت والفزع المعلق في الفراغ العتم، هذا هو اسمه، أو هذا ما عوّده الناس أنّ يسمعه، يدور في رحيل أبدي في هذي الدنيا وذرات ترابها، تتعاقب الأيام والليالي تحت السماء والنجوم ولا يحسّ بها، أشتهر في المدينة بالعته وربما الجنون والحمق وربما كان كما يعتقد الدراويش في المدينة أنّه روحٌ تظهر للناس في صور مختلفة.. مع مرور الأيام نسي إنْ كان بشراً سوياً كباقي البشر، آملاً أنْ تتبدل الأحوال ويسرع الفرج بالقدوم مرةً.. يخرج للمدينة طلباً لشيء واحد يسعده ومحبب له هو تلك السجائر الملقاة على الأرض ساعة التقاطها بأطراف أصابعه المرتعشة ثمّ يمضي في سبيله.. المدينة لا تهتم به كثيراً ولا تشغل بالها بأخباره ولا تبالي بدوران الزمن الخفي الذي يدور في تسلل صامت من حولها ومن حوله، وها هي الأذن في هذه المدينة لا تسمع إلا ما يحلو لها وتأنس له وتنصح الناس بإتباعه انفراجا للهمّ وطرداً للشر، ومن فضائل غوامض الأيام ومزاح الناس ثمة شائعة أخرى قد خلع الزمن عليه بها سراً لم يخلو من التكتيم و حبس البوح المُجرح تقول: أنّ ” فاسريا” هذا و بقدرة قادر وبموافقة من أخيه فارع الطول طويل اليد، الذي طوال الوقت تطلّ من عينيه نظرات بلهاء يتطاير منها الجور، صار” محللَ” زواجٍ شرعي، والحق يقال لا يُعرف ” فاسريا” لهذا اللقب معنى ولا مغزى ولا مصدر ولا يعرف منه شيئاً إلا أنّه يعرف منه ساعة انتهاء دوره منذ الليلة الأولى لزواجه، فعاش رهينة ” للمحلل” من دون أنْ يعرف إنْ كان يزاول عملاً عادياً لا غبار عليه رغم الوعيد الصارم من أخيه.. استمر يقوم تكراراً لهذه الحالة في عتمة كل بيت دخله محللاً مفتوناً بالفتنة المحرمة تطول وتقصر تختلط بالظلمة في بئر الأسرار.. وفي سماء النعيم الخاطف ينتهي به المطاف النوم على الأرصفة.. مضى كالعادة تطوف به الأزمنة للعيش لحظة وهمية قصيرة الأجل في ليلته لا تثمر ولا تغني من عطش، لا يجرؤ لذكرها ولا حتى للبوح بها للجن الأزرق ولو للحظة وقد تبعثرت في شوارده خشية التصريح بها، فكان وفياً لذلك في عزّ الغموض والكتمان رغم أنّه في آخر المطاف وفي كل مرة يبتل قلبه بالسكنية يسقط في هاوية وحدته السحيقة الداعية لعوالم الغموض ذاته، غموض لا يعرف كيف أنّه كان يبصر ما لا يُبصر وكان يسمع مالا يُسمع.. لازمه هذا اللقب السري السنين الماضية حتى أعتاد عليه وأعتاد بحكم العادة على نيرانه المتأججة وعلى سائر أركان ما تجود به الحياة وتمنى أنْ تمضي حياته دون يرافقه هذا ” المحلل” مرةً أخرى وإلى الأبد..

5- غير أنّ المدينة وعشقها في التقاط الأسماء فهي تعرف جيداً أنّها صاحبة الشأن والكلمة الأخيرة تعرف له أسما آخراً وغريباً للغاية اسماً له رنين المسرات اليومية والليلية ورنين الفضول ونثيث المطر بل ويقظة الثرثرة الدائمة الوسيلة الناجحة في اغتيال الزمن فأطلقوا عليه اسماً ارتجّت له المدينة، اسماً جديدا يرافقه كأن لا اسمً له أو وُلد بدون اسم: ” عبد الباهي فسّاريا “.. وصار في المدينة ” عبدالباهي فسّاريا” لا وطن له يحضن علبة من الصفيح في غربته الباردة…

6- مضي يجوب الأسواق ومضى مخترقاً ميدان البلدية مكانه المُفضل فكثيرا ما كان يلتقط بقايا السجائر محاولاُ أنْ يشبع ولعه بالتدخين، حتى أنّه كان ينحني تحت الكراسي وتحت كلّ طاولة لالتقاط ما يمكن أن يلتقطه من نفاية السجائر وهي لا زالت مشتعلة قبل أنْ تُداس بأقدام زبائن المقهى، ولم يكن يفرق بين أنواعها طالما أنّها سجائر وحسب.. لم يتفوه بكلمة واحدة فيها شكوى، ولم يبح لأحد بسره، كان على نحو عجيب يتمنى لو أنّ له أصحاب يسامرهم في المقهى وأنّ له علبة سجائره الخاصة كي يفاخر بها الناس..

7- هكذا تدور به الأيام بلا صديق يشاوره أو يشتكي أليه، ولا حتى عمل يرتزق منه.. وجد نفسه وحيداً منبوذاً وقليل من الناس يعرف أنه محلل يُكتب قرانه على الزوجة المُطلقة في الليلة الأولى بحضور الشهود، وفي الصباح التالي يطلقها في حضور نفس الشهود، يحدث ذلك بكتمان شديد كأنما يدخل من باب ٍإلى بابٍ مجاورٍ وتسير الدنيا في مسارها الطبيعي سيراً عابراٍ في صولة الأيام، ويشاع أنْ ما أطلق عليه الناس تسمية “عبدالباهي فسايرا” إلا لحدّة بصره ودقته، ونظرته الحادة الصادرة عن منابع آلامه.

8- كان متوسط القامة نحيف الجسم مجلجلاً ببشرة سمراء ومن الأرجح أنّه لا يتكلم كثيراً خوفاً من العقاب تحت سماء لا تجف ينابيعها من السخط والضرب..

9- مع استمرار الأيام فقد صلته بالواقع وارتمى في أحضان الجنون، لا يملك سوى علبة الصفيح التي يظمها إلى صدره ويلفها بشغف كبير، ظلّ يعانق العلبة بحرص وعناية كي يحتفظ بأعقاب السجائر بها حين التقاطها.. كانت له ابتسامة دائمة على وجهه كأنّه يواجه بها عالم الناس والمدينة، يمد بصره للمدخنين، ينتهل هيئة الحالم، في عالم تشرده ووحدته فاقداً الشعور بأيام غير مأمونة.. الناس تستغرب من ابتسامته التي لا تفارق شفتيه، أهي ابتسامة هزواً بهم أم ابتسامة لطرد الهم، ترى أكان درويشاً مباركاً يظهر في صورة معتوه، أم كيف يمكن حمله بالبوح عن سره العميق للناس… ها هو الحاضر بذاته والغائب عن ذاته، وهو في كثير من الأحوال يشع مودةً ولطفاً.. يعيش وحيداً في كوخ منعزل يسميه الناس “براكة” تقع في آخر البستان الذي يملكه أخيه الأكبر.

10- تَمَلكهُ يقين عجيب أكثر من مرة بانّ هذه الوظيفة أبدية ويجب أنّ يكتم ذكرها أما اللقب ” فساريا” فهو الاسم الوحيد الذي يعرفه الناس ويعرفه ” فساريا” ذاته معرفة الحنظل.. يتجول في الأسواق من سوق الخضرة إلى سوق الخرازة إلى سوق الظلام.. يمضي وقته مفقوداً غالب الأحيان في ميدان البلدية يحمل علبة الصفيح يحتضنها كأثمن شيء لديه، لا تفارقه لحظة.. كل شيء من حوله يظهر في الميدان من رواد وزباين ” القهوة ” المشغولون.. يجلس الناس ويتكلمون ويضحكون. يتسلل تحت الطاولات، يلتقط بقايا و “عقاب السجائر من الارض..

11- الليل عميق ويزداد عمقاً والقمر يظهر بارداً دون ساترٍ، كانوا قد اجتمعوا مجموعة من الرجال في بيت الزوج وفي حضرة الشهود وعاقد القران و ” فساريا” بصفته العريس فاقد الذاكرة رسمياً حالة تمرّ الليلة بسلام، لم ينس أخيه القيام بتنظيفه وتحسين شعره وتقليم اظافره وألبسه ملابس نظيفة فبدا حسن الطلعة عريساً… كتبوا الكتاب ومضوا في سبيل حالهم بعد أنْ أمطروه بكل النصائح، تفرس أخيه فيه وقال محذراً: إنها ليلة غير مأمونة فيجب أنْ تعيشها وتنساها!

12- عادة المدينة تكون ساهرة تحت القمر والنجوم.. وفي كلّ مرة يلتقط ” اعقاب السجائر” ودّ لو أنّ ابتلعته الأرض وكان نسياً منسيّاً..

13- في سماء الميدان فضاء متسع لطيور سوداء غريبة ظهرت فجأة لا يعرف أحد من أين هاجرت وكيف وصلت وحطت رحالها في هذا الميدان، أمرٌ غريب لا يعرف أحد فصيلتها سوى أنّها سوداء.. ظلّ فساريا في صمتٍ يقف وحيداً متعرضاً لبشاعة الرعب في عيون الطيور.. في تلك الليلة بدأت رحلته وفيها كان خوفه من اليقظة، ها هو أمام الغرفة، تراجع مذعوراٌ، تذكر كلام أخيه، يقف أمام الغرفة، لا يدري أيّ مصير أنزلق اليه، شمله صمتٌ متوتر، فُتح باب الغرفة أمامه، أطلتْ سيدة يند عنها العطر، خامره قلق، أسندت جسمها على فتحة الباب، نظر إليها نظرة بلهاء، ابتسمت ودخلت الغرفة، تركت الباب مفتوح، وقف امام الغرفة مرتبكاً وخجلاً..

14- دخل الغرفة مكللاً بالخوف و الرهبة، غرفة فاخرة، جو الغرفة معبق بالبخور، رائحة العطر وطيب الغرفة أسكره، انتفض قلبه في دهشة، اعتراه ارتياح ساحر، وقف أمامها حجرا صلداً لا يدري ماذا يصنع، عيناها تومضان برحيق الابتسام، اقتربت منه، أحسّ برهيف عطرها يسري في كيانه، بدا لها متوسط القامة ذو بشرة قمحية أسود العينين نحيلاً، وقف صامتاً مدهوشاً يلفه إحساساً لم يحسّه من قبل، وقف حائراً، اقتربت منه أكثر، بخور الجاوي ينفث خيطاً من الطيب وانفاس العطر شذاها يملأ الغرفة، ارتسمت على فمه ابتسامة متسائلة، أبتسم في ألمٍ، قال لها محبوس الصوت: لستُ مجنوناً، ازدادت قرباً منه حتى لامست جسده، انتقض متحيراً خائفاً مذعوراً، أنفاسها المتلاحقة تلفع وجهه، من بين شفتيها المكتنزتين لمع بريق أسنانها، تأملها بكل كيانه، تأمل حُسنها، أنيقة الثوب، عيناها ترصدانه بجالهما الأخاذ، يبدو متوسط الطول، قالت بصوت رهيف مرح أنت لست مجنوناً، أنت زوجي، تسمر في مكانه، أخذت تنظر إليه بمرح، المكان بدا له عالماً آخراً، الزمن ما عادت له ثوانيه، غاص في حالة من الخيال، في عالمٍ آخر ليس كعالم المدينة الجاف، أحسّ أنه في حضرة أميرة من عالم الجن، تنفست بعمق رهيف، يتأملها متحيراً، تنهدت بعمق، أحسّ بها وبكل تنهيدة تتنهد بها، تنبهتْ بفطنة المرأة الذكية لإحساسه، طلبت منه أن يغمض عينيه، أخذتْ تدندن بأغنية قديمة، ليت للبراق عين، طبعت على وجهه قبلة خاطفة، عندها لمس كتفها لمسة خاطفة، شهقت في استحياء ودلال، حدّق إليها بعينيه الواسعتين، لم يصدق أنّه في الغرفة معها.. أحسّ بدفءٍ عارم يسري في جسمه، صدرت عنه ابتسامة غرّاء، تترقرق عينيه بالدموع، سال الدمع منهما، يملأ عينيه من وجهها المليح، أدار وجهه إلى الوراء خجلاً، ضحكت، فرجع ببصره من جديد إليها، أطفئت الأنوار الساطعة و أكتفت بضوء خافت حتى صار جو الغرفة ساحراً، تتأمله في غاية الفرح، ترتدي فستان شفافاً ينزل عن ركبتيها، كتفيها شبه عارية، كشفت عن ساقيها حتى يرى ربلتي ركبتيها، سقط الضوء الخافت على ساقيها، نظرت بعينيها الناعستين إلى هذا المخلوق العجيب مذهولة، غمره أحساس كمن يمرّ بحلم… وكان الغيم يحوم فوق رأس المدينة، ثمّ هطل المطر صاخباً في كل مكان وفوق حقول الذّرة والكروم…

15- كانت امرأة قوية الإرادة، ترفض التعليمات الصارمة، تصرّ على تحدي قوانين الرجال وعادتهم، حضورها طاغٍ، فيه زينة و أُبهة، ظهر له ذلك بوضوح مبهر، تجتاحها قوة لم تعرفها من قبل، وبدا لها ” فساريا” واقفاً أمامها رجلاً طبعياً سليم العقل والجسم، تنظر إليه بفضول، تهللت اساريره، رقص قلبه طرباً لم يعرفه من قبل، أحسّ بنشوة داخلية لم يحسها من قبل، المطر في نزوله في حجب من خيال، البرد و الريح يجتمعان، تركت لشعرها الأسود يموج على كتفيها، بهرته شخصيتها، قالت في نفسها: كيف لي أنْ أكسر حاجز الخوف و التردد، تجرأت فلمسته، انتفض كأن مس من لكهرباء سرى في دمه… جسدها يرتعش وهي تضمه إلى صدرها.. قرّرت أنْ تكف عن التردد، ليس أمامها سوى شيْ من التحدي، ظلّ ” فاسريا “صامتاً ينظر إلى المرأة التي تقف أمامه مدهوشاً لا يدري ماذا يفعل، في حين كانت أسنانها بيضاء تشرق من بين شفتيها ما جعله يحس بالدفْ ويدخل في نوبة من الجنون وهي تطالعه بعينين ذابلتين تغريانه، رائحة شعرها الغزير يُرسل عطرها المياد على وجهه، أهي صدفة مجنونه أنْ يكون بجانب إمراه جميلة تسحره بعنفوان جسدها الغضّ، أحسّ بسحر غريب.. المطر في الخارج ينزل بغزارة، فستانها الوردي يملأ عقلة بأسرار دفينه، الليل والمطر يكبران بسرعة رهيبة…

16- بدا لها كأنه يحدث نفسه أو يناجي خيالاً، اعتراه الخجل ولا يعرف كيف اعتراه الخجل.. هل سيمتد الحديث معها إلى آخر الليل، شعرت باطمئنان غامر في صحبته، أجال عينيه في أرجاء الغرفة مندهشاً وقال في نفسه: غرفة هادئة وجميلة، تجمد لسانه قبل أن يقول: أنتٍ امرأة جميلة، ابتسمت في دلال، تقف أمامه كالبحيرة الهادية..

17- سحبت الغطاء عن رأسها فظهر عليه شعرها الفاحم المنقوش بالعطر وطيب البخور

18- لم يشأ أن ينظر إلى وجهها أو ينبس بكلمة، رواده خاطر غريب لم يحس به من قبل، رفع رأسه ببطء، نظر إلى وجهها، الدفء والضو الخافت زاده بإحساس أعمق، يحاصره عطرها الرهيف، ابتسمت و أشرقت عيناها، وجهها يشع نوراً أنه أسير الغرفة و عطرها و الزمن، أحسّ بأنّ له جسدٌ لأول مرة أحسّ بأنّه أنتقل من عالم الجنون إلى عالم آخر لا يعرف له من تفسير، كفّها الناعم يجره نحوها بحنان، من دون تردّد اقتربت منه تختال في حسنها، أثارت فيه أحساس غريب، في النور الخافت يرى وجهها البراق، أمعنت في الدلال، أمعن في النظر اليها وشوقاً بإحساسٍ غريب يلسعه…

19- دارت بعينيها الكحيلتين الواسعتين في كل مكان بالغرفة، عينان ناريتان تلهبان وجه ” فاسريا”، نظرت إلى عينيه، حاولت أنْ تقرأ ما فيهما، يهز رأسه صامتاً، رفع رأسه صوب السقف، أعاد النظر إلى وجهها البسام.. قالت له ما الذي يحول بينك و بيني أهو الضعف و الخوف، تابعها صامتاً فقالت له: ألا يمكنك أنْ تحلم، لا تدع هذا الأنس والفرح يزول عند الفجر.. قال في سره: أنه الفرح الأكذوبة، قالت له: لا تقول هذا الكلام العبيط، اقتربت منه وهمست بهدوء: ليتوقف كل شيْء هذه اللحظة، اضافت بحرارة: هل تستطيع أنْ تعيش في جسد امرأة تلفها شناعة الطلاق، غاص في صمت رهيف، أضافت بعد أنْ لامست خده: الا تسطيع أنْ تحلم بأيّ شيء هذه اللحظة، أنتَ تخاف منهم أنّهم أشداء، أنغمس في اللحظة حتى الثمالة، ابتسمت وقالت بصوت رهيف في دعابة: دعك منهم وتعال أجلس بقربي..

20- تعرف الآن أنه يريدها، رفعت فستانها إلى فخذيها في حين أنسكب ضوء الغرفة… ينظر إلى وجهها بإمعان ونسمة الغرفة الطرية يعبق منها نفثات سحر، وضعت ذراعها فوق صدره ثمّ جذبته إلى نفسها لتقيم معه طقوس نسائم المساء، أطفأت وهج الضوء قليلاً، احتضنته، أحسّ بالعطش، دنى منها حتى لامس نتوءات صدرها الغض… دفعت شعرها العَطر إلى ما وراء أذنيها كي ينساب على كتفيها، علقت عينيها على وجهه، علّق عينيه على رقبتها الوردية، تحيرت في نظرته، أهي نظرة أعجاب أم نظرة بلهاء، البخور ينبي بليلة، المرة الأولى التي فيها امرأة غاية الجمال تكاد تكون عارية، اشاح بوجهه، أخذ يضيّق جفنيه حتى يغلق عينيه…

21- مسح عينيه جيّداً، ثم أعاد فتحهما، أمعن النظر في وجهها المشرق، يروم النفاذ إلى اعماق عينيها، انجذاب عجيب لحسنها، شذى عطرها يرهف الغرفة، فجأة عادت و القت بجسدها على السرير و طفقت تبتسم… حفيف الهواء الرطب يفوح بالغرفة… يدها دافئة مترعة بعطر عتيق، زالت الوحشة، يده باردة ترتعش، اخذ يشعر بأنّه في حالة منسوجة من الأحلام، خفقان قلبه غائصاً في الليل، شملته بنظرة ساكنة مطمئنة، لفحه عطرها الفواح، يند عنها أنفاس عطرة حارة، في نظرتها ما يوحي بأنّها في حياء، تربت على خده بحنان، زحف إليها رغبة في احتضانها، أحست بذلك، دفقات من المطر تضرب بقوة، جمالها أزداد دلالاً بأضواء الغرفة، تَكَسّر ما في الليل من اغتراب حتى الصباح…

22- كان وجهها يشتعل بالبهجة والغبطة، انسدل شعرها تركته ينسكب على جانبي محياها، لم تغادر عينيه ذاك المُحيّ، نسي تماماً أين هو، تعلق بها حتى الجنون..

23- ضحك ضحكة عالية تلقفتها جدران الأزقة والتلال والوادي المغمور بالماء، قال بثقة عمياء وحماس: أنتِ زوجتي، وأنا ما نعدش عليكي شي ! سأقول هذا لهم جميعاً عندما يحضرون: نا راهو والله ما أنعد عليها شي.

مقالات ذات علاقة

المكالمة

المشرف العام

الـسـوق

يوسف الشريف

مهلاً أيها الفتى

عوض الشاعري

اترك تعليق